في مسيرة الإيمان الكنسيّة، تبقى سير القديسين ملامح دعوة نبوية تحاكي واقعنا. القديس إغناطيوس مالويان، هو أحد هؤلاء الابطال؛ راعٍ صالح وخادم أمين، لم تكن شهادته مجرد نهاية مأساوية، بل كانت تتويجًا لحياة كهنوتية اختارت منذ البداية وعن عمد أن تكون تقدمة حب حية كاملة للمسيح ولكنيسته العروس.
- إغناطيوس على خطى إغناطيوس الأنطاكي
عندما اختار الشاب شكر الله مالويان اسم “إغناطيوس”; عند سيامته الكهنوتية، لم يكن ذلك مجرد تغيير للاسم، بل كان إعلانًا لهوية، شهادة، مصير، ورسالة. لقد تماهى بروحانية القديس العظيم إغناطيوس الأنطاكي، أسقف القرن الأول الذي سار إلى استشهاده بفرح، معتبرًا نفسه “قمح الله الذي سيُطحن بأسنان الوحوش ليصير خبزًا نقيًا للمسيح”. كان مالويان يدرك أنّ هوية الأسقف الحقيقية تكتمل في الاستعداد لبذل الذات، وأنّ الرعاية هي مسيرة حب تنتهي عند أقدام الصليب. وكأنه كان يردّد مع ملهمه الأنطاكي: “دعوني أكون طعامًا للوحوش، فبها أنال الله. أنا حنطة الله، تطحنني أنياب الوحوش، لكي أصير خبز المسيح النقي”. - نموذج الحب الأعظم الذي تكلم عنه يسوع
لم تكن خدمة المطران إغناطيوس مجرد إدارة رعوية، بل كانت تجسيدًا حيًا لكلمات الرب يسوع القائل: “ليس لأحد حب أعظم من هذا: أن يضع أحد نفسه لأجل أصدقائه” (يوحنا 15: 13). لقد عاش هذا الحب الأعظم في كل يوم من خدمته الرعوية؛ في اهتمامه بالصغار، وفي سهره على كهنته، وفي دفاعه عن رعيته في وجه الظلم. وحين جاءت ساعة الاختيار، أن يختار بين الحياة أو إنكار الإيمان، لم يتردد الأسقف القديس، لقد اختار أن يضع نفسه فدية عن أحبائه، مؤكدًا بفعله هذا: أنّ المحبة ليست شعورًا عابرًا، بل هي قرار واعٍ بالبذل الكامل حتى الموت في سبيل المسيح، فكانت شهادته أسمى تعبير عن المحبة الرعوية، وهو الذي ما خاف الموت والتهديد أبدا، معلنا قانونا استشهاده قائلا لجلاديه” هيهات أن أجحد وأخون الرب يسوع مخلّصي، وأنكر تعاليم كنيستي. أن يُسفك دمي في سبيل إيماني، تلك من أعز أمنيات قلبي”. - دعوة للشرق والغرب: شهادة تتخطى الحدود
إنّ قصة استشهاد القديس إغناطيوس مالويان ليست مجرد ذكرى لكنيسة الشرق الأرمني، بل هي دعوة ورسالة للكنيسة الجامعة في الشرق والغرب وخاصة لكل كنيسة وابرشية او رعية تعيش حالة اضطهاد. ففي عالم يروّج للفردانية والانقسام وعبادة “الانا”، يأتي هذا القديس ليقدم نموذجًا للشهادة المسيحية الأصيلة التي تجلت في خدمته المتفانية، من هذا المنطلق اللاهوتي للإستشهاد والرسالة، تبلغ رعوية الكنيسة ذروتها حين يصير الراعي مستعدًا للموت من أجل خرافه. فإنّ شهداء عصرنا هم “تراث ثمين تتحدث عنه الكنيسة… إنّ شهادتهم هي علامة رجاء لا ينبغي نسيانها” (القديس البابا يوحنا بولس الثاني). فمالويان هو تلك العلامة تذكرنا بأن قوة الكنيسة لا تكمن في هياكلها، بل في دماء شهدائها الذين يروون أرض الإيمان. - علامة حية لكل كنيسة متألمة
لكل كنيسة اختبرت ألم الاضطهاد والحروب، ولكل مؤمن يشعر بالوحدة في مواجهة تحديات العالم، يقف القديس الأسقف إغناطيوس مالويان علامة حية على أن المسيح لا يترك كنيسته أبدًا. لقد جسّد صورة الراعي الذي يثبت رعيته، ويجمعها حوله في خضم العاصفة. وكأنه يحقق كلمات ملهمه الأنطاكي: “حيثما يظهر الأسقف، فلتكن هناك الرعية؛ كما أنه حيثما كان يسوع المسيح، فهناك الكنيسة الجامعة”. ففي وجه الاضطهاد، لم يتشتت القطيع، بل التفّ حول راعيه الذي صار له رمزًا للثبات وصخرة للإيمان.
أخيرًا، تبقى شهادة القديس إغناطيوس مالويان دعوة متجددة لنا اليوم؛ فلنطلب من الرب يسوع أن نعيش إيماننا بصدق وبساطة محبين كنيسته وعلمين على بناء شعب الله، ولنتضرّع الى الله بأن يساعدنا في عيش حقيقة المحبة التي لا تواجه الخوف بالحقيقة والغفران، ولنسأل الروح القدس، أن يحوّلنا الى شهود للرجاء في عالم بات متعطش إلى النور والحق والسعادة.
فلنسائل أنفسنا: في عالم يدعونا باستمرار إلى المساومة على قيمنا من أجل السلامة أو النجاح، هل تصبح شهادة دم كشهادة القديس إغناطيوس مالويان مجرد نموذج مثالي بعيد المنال صعب أن يُلهمنا، أم هي دعوة ملحّة تكشف لنا عن ذاك “الجوهر- النصيب الأفضل” (راجع، لو 10: 42) الذي لا يمكن التنازل عنه في عمق إيماننا؟ فلتكن صلاته معنا، ليعلمنا كيف نحول حياتنا إلى تقدمة حب، وكيف نموت كل يوم عن ذواتنا لنحيا في المسيح (راجع، روم 14:8).