” أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكُن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا خبزنا كفاف يومنا ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا. ولا تُدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير ” ( متى ٦ : ٩ – ١٣ ).
في الصلاة الربانية، علّم يسوع تلاميذه قاتلاً : “عندما تُصلُّون قولوا: “أبانا الذي في السماوات”. لقد أراد أن يُركِّز التلاميذ على مكان تواجد الله والذي سنذهب إليه. لا يوجد مؤمن واحد لا يختبر سنوياً الجاذبية المذهلة للعالم والخطيئة والشيطان. في كل يوم، نميل إلى وضع المزيد من الخطط والبرامج والمشاريع لحياتنا الأرضية القصيرة والزائلة بدلاً من أن نضع خطط للحياة الأبدية. قال يسوع مراراً وتكراراً في سفر الرؤيا أن المكافآت في السماء سوف تُعطى للأُمناء، الذين كانوا ثابتين، ورفضوا تقديم أي تنازلات، وقرروا أن يحبوا الله من كل قلوبهم.
“ في حين أنهم يَرغبون وَطَناً أَفْضَلَ ، أَعني الوطن السَمَاوِيّ . لِذلِكَ لاَ يَسْتَحِي اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلهَهُمْ ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَة ”
(عبرانيين ١١ : ١٦).
في كثير من الأحيان، نتعامل مع السماء على أنها منزل اشتريناه ولم ننتقل إليه، أو رحلة خططنا لها ولم نقم بها. نادراً ما نفكر في السماء، أو نحاول معرفة المزيد عن منزلنا الأبدي. نحن نشغل أنفسنا بوضع المزيد من المشاريع لهذه الحياة بدلاً من التأمل والتفكير في الحياة الأبدية.
في كلمة الله، من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، تُستخدم كلمة السماء لوصف ثلاثة عوالم مختلفة :
عالم الغلاف الجوي، وعالم المجرَّات، والبلد السماوي الذي يقيم الله فيه.
الله هو المُتحكِم في العوالم الثلاثة – وهو يُثبِّتها بقوته. ورغم ذلك، فإن الله الرائع العظيم والعالي يسكن في قلب المؤمن.
الله ” أبانا ” موجود حقاً في السماء، ولكنه يسير معنا ويتحدث إلينا كل لحظة في كل يوم من أيام حياتنا . الله القدير على كل شيء هو الخالق وصاحب السيادة، ومع ذلك فهو أيضاً يُعزِّينا ويباركنا ويتكلَّم بكلام سلام لقلوبنا المُضطربة.
الله ” ابانا ” يُمسِك بالمُحرِّك الذي يُنسِّق عمل المجرَّات الشاسعة أثناء دورانها، ويمنعها من الدوران خارج نطاق السيطرة. ومع ذلك فهو أقرب إلينا من أنفسننا .
إن الصلاة الربية هي صلاة مثالية نموذجية تحمل الكثير من المعاني الروحية :
لو دخل المصلي إلي أعماقها، وأدخلها إلي أعماقه، لأمكنه أن يكتفي بها دون أية صلاة أخرى . هذا إذا صلاها بفهم وتأمل وعمق. أما إذا صلاها بسرعة روتينية، ولم يشعر بروحانية الصلاة والتأمل ، يكون العيب في السرعة والروتينية، وليس في هذه الصلاة..
تسمى الصلاة الربية، لأن الرب يسوع علمنا إياها :
ففي عظته علي الجبل التي تعتبر دستوراً للمسيحية، قال : “صلوا أنتم هكذا : أبانا الذي في السموات..” (متى ٦ : ٩ – ١٣) وفي إحدى الايام سأله واحد من تلاميذه قائلًا : “علمنا يا رب أن نصلي، كما علم يوحنا تلاميذه. ولاشك أن التلاميذ كانوا يصلون، ويعرفون كيف تكون الصلاة. ولكن السؤال كان يحمل معني معرفة الصلاة المثالية. فقال لهم الرب “متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات..” (لو ١١ : ١ – ٤).
والآية التي تقول : “متى صليتم فقولوا : أبانا الذي في السموات “
هذه الصلاة جعلتنا :
بها نفتتح كل الصلوات الطقسية، وصلواتنا الشخصية الخاصة. وبها نبدأ وننهي يومنا ، وقبل الطعام وبعده ، وقبل كل عمل ، ودرس وعملية جراحية واجتماع، ومشروع وبها نختمه.
مادام الرب يسوع علمنا هذه الصلاة، إذاً فهي توافق مشيئته.
كثيراً ما نصلي صلوات نعبر فيها عن أفكارنا ورغباتنا ومشيئتنا ومصالحنا الخاصة، ولا ندري هل توافق مشيئة الله أم لا..
أما في الصلاة الربية، فإننا نخاطب الله بكلماته هو، بطلبات علّمنا هو أن نرفعها له . فهي موافقة تماماً لمشيئته الإلهية. وهكذا نصليها ونحن مطمئنون.. وواثقون أننا لا نطلب من الله إلا ما يريد هو أن نطلبه منه .
هذه الصلاة تشتمل علي سبع طلبات :
الثلاثة الأولى خاصة بالله، والباقية خاصة بنا. وكما أنه في الوصايا العشر التي كتبها الله بإصبعه ( سفرالخروج ٣١ : ١٨ ) كان اللوح الأول خاصاً بالوصايا تجاه الله، و اللوح الثاني خاصاً بالوصايا المتعلقة بمعاملات وعلاقات البشر بالبشر أي بإحترام وتقدير لبعضهم … ذلك لأن العلاقة بالله أهم ، ومنها تبدأ علاقتنا مع إخوتنا .. وإن استطعنا أن نكون في علاقة طيبة مع الله فإننا سنكون بالتالي وبالضرورة في علاقة طيبة مع الناس.
وهكذا الصلاة التي علمنا إياها : الطلبات الثلاث الأولى منها خاصة بالله : ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك لتكن مشيئتك..
أما الطلبات الأربع الأخيرة فهي خاصة بنا : ” أعطنا خبزنا ، اغفر لنا ذنوبنا. ، لا تدخلنا في تجربة. نجنا من الشرير “.
تعلمنا هذه الصلاة، أن الله ينبغي أن يكون أولًا.
نحن نطلب قبل كل شيء من أجل أن يكون اسم الله مقدساً بين الناس، وأن تكون مشيئته نافذة، وملكوته قائماً . فهذا هو المهم. بغض النظر كانت طلباتنا أو لم تكن.. نطلب أولًا ملكوت الله وبره (متى ٦ : ٣٣ ). إننا إن أحببنا اسم الله ومشيئته وملكوته، فلابد أن أمورنا الخاصة ستتحسن، وباقي طلباتنا ستستجاب … وكل هذه تُزاد لنا، حتى دون أن نطلب …
إن الله هو الأول في الوصايا العشر، والأول في الصلاة الربية. وكذلك هو الأول في الطاعة، لأنه ” ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس “
(أعمال الرسل ٥ : ٢٩). وإن كان هناك ما يرضي الناس على حساب طاعة الله، فالله يُفضّل حتى لو غضب الناس. وفي ذلك يقول الرسول : ” لو كنت إلى اليوم أتوخى رضا الناس، لما كنتُ عبداً للمسيح ” (غلاطية ١ : ١٠ ) هذا الذي قال : ” مَن أحبَّ أباه أو أماه أكثر مما يحبني فليس أهلاً لي ” (متى ١٠ : ٣٧). والله أيضاَ الأول في الحب. فقد قال : ” أحبب الرب إلهك بكل قلبك ، و كل نفسك ، و كل ذهنك . هذه هي الوصية الكبرى والأولى . والثاني. مثلها ، أحبب قريبك حبك لنفسك .(متى ٢٢ : ٣٧ – ٣٩). وإذا كان الإنسان يحب الله من كل قلبه ، فلابد له أن يحب قريبه كنفسه . نحب الله ونعمل مشيئته ونطلب ملكوته، ثم بعد ذلك نطلب لأنفسنا.
في الصلاة نطلب من الله وليس من البشر.
هكذا قال الرب : ” ملعون الرجل الذي يتكل على بشر ” (إرميا ١٧ : ٥) . ويقول المزمور : “. الاتكال على الله خير من الاتكال علي البشر. الرجاء بالرب خير من الرجاء بالرؤساء (مزمور ١١٧) . في كل احتياجاتنا نتجه إلي الله. نرفع إليه قلوبنا قبل أيدينا : ” لأن كل عطية صالحة وكل موهبة كاملة ، هي من العلاء ، منحدرة من لُدنِكَ يا ابا الأنوار ” . الله مصدر كل خير . هو وحده الذي يعطي ، وهو قادر أن يعطي ، وليس البشر ولذلك في بعض الصلوات الجماعية في الكنيسة نُكّرر معاً :” من الرب نطلب “.
حتى العطايا التي نأخذها من الناس، إنما نأخذها من الله عن طريقهم . لأنه هو الذي أعطاهم ما يعطونه لغيرهم. وهو الذي وضع في قلوبهم أن يعطوا بمحبةٕ وسخاء . لذلك نطلب منه كل طلباتنا بإيمان وثقة ، فالعطية التي نأخذها من الله صالحة ومفيدة لحياتنا الروحية والزمنية .
لذلك قال الرب يسوع لتلاميذه : ” يعطيكم الآب كل ما تسألونه بإسمي ” ( يوحنا ١٥ : ١٦ ). فنحن نرفع كل طلباتنا ونقدمها باسمه. ونختم هذه الصلاة الربية الرائعة بتمجيد لائق بعظمة الله الآب المحب و المعطي ، نتجه إليه كأب ونقول له : ” أبانا الذي في السموات “.
+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
