القدِّيس شربل جسرٌ روحي بين لبنان وروما

لمناسبة زيارة البابا لاون الرابع عشر لضريح القديس شربل في الأوّل من كانون الأوّل 2025 في دير ما مارون عنايا

Share this Entry

مقدّمة

تحتفل الكنيسة الجامعة الكاثوليكيَّة سنة 2025 بالسّنة اليوبيليَّة المقدّسة الخامسة والعشرين بعد الألفيَّة الثانيَّة على ولادة يسوع المسيح، كما وتستذكر أيضًا ألف وسبع مئة سنة على انعقاد مجمع نيقيَّة الأوّل −325 2025 -− وتتمايز سنة 2025 في الرَّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة بتذكار المئويَّة الأولى لبدء مسار دعوى تطويب وتقديس الأب نعمة الله الحرديني، الأب شربل بقاعكفرا الحبيس، والأخت رفقا الحملاويَّة الرّاقديْن بعطر القداسة، كما ويتفرّد القدّيس شربل بيوبيل خمسة وسبعين سنة على ظاهرة سنة 1950. وفي إطار الزيارة الرّسوليَّة الأولى لقداسة البابا لاون الرابع عشر خارج روما إلى تركيا ولبنان، يزور ضريح القدّيس شربل في الأوّل من كانون الأوّل 2025، في دير مار مارون- عنّايا، ولهذه المناسبة الفريدة أردنا أن نسلّط الضّوء على ما تمايز به الباباوات مع القدّيس شربل إن في مسار دعوى تطويبه وتقديسه من جهة أو في عظاتهم ورسائلهم وكلماتهم من جهة أخرى…

من المعروف بأنّ القدّيس شربل لم يزر مدينة روما يومًا في حياته، لكنّه ظلّ مرتبطًا بالكنيسة الجامعة والكرسيّ الرسوليّ ارتباطًا أصيلاً وعميقًا. فقد نشأ في حضن الكنيسة المارونيَّة الغرسة المباركة الَّتي عاشت على الدّوام في شركة كاملة مع كنيسة روما. وهو ابن الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة المرتبطة بالكرسيّ الرسوليّ في قوانينها كرهبانيَّة “حبريّة” منذ سنة 1732. وكان الأب شربل أُسوة بأيّ كاهن مارونيّ، يذكر في قداسه بابا روما، علامة الشركة في الإيمان، وتعبيرًا عن الطاعة الكنسيَّة للكرسيّ الرسوليّ، المتمثلّة بقداسة البابا.

البداية مع البابا بيُّوس الحادي عشر

تزامن انطلاق دعوى تطويب القدّيس شربل وتقديسه مع عهد البابا بيُّوس الحادي عشر. ففي الرابع من أيار سنة 1925، زار الأب العام للرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة إغناطيوس التنّوري الفاتيكان والتقى بالبابا، حاملاً معه بذرة الدعوى، مع بروز الجمهوريَّة اللبنانيَّة الناشئة، بدا مسار قداسة شربل وكأنّه يسير بالتوازي مع قيام الكيان اللبناني، إذ “لا كيان لبلد الأرز بلا قداسة”.

في الثاني والعشرين من تشرين الأوّل سنة 1928، وبعد إنتهاء “التحقيق الإخباري” على المستوى البطريركيّ في قداسة عبدالله الأب شربل الحبيس، مَثَلَ الأب العام التنّوري مجدّدًا أمام البابا بيُّوس الحادي عشر وقدّم له الملف ممهورًا ومصدّقًا عليه من قبل البطريرك مار الياس بطرس الحويك واللجنة القضائيّة المختصّة بالتّحقيق آنذاك. وبذلك أصبحت الدعوى بيد مجمع الطّقوس، الّذي سيعرف لاحقًا بمجمع دعاوى القدّيسين، حيث تابعت مسارها القانونيّ المعروف في الكنيسة الكاثوليكيَّة. ومن الضرورة الإشارة إلى أنّه في الثالث والعشرين من شباط 1954، إجتمعت لجنة الكرادلة في الفاتيكان للبحث في دعوى عبد الله الأب شربل بقاعكفرا، والنظر بإمكان قبولها بين “الدعاوى الرسوليَّة”، فصدر القرار بالإيجاب من قبل اللجنة، وصادق البابا بيُّوس الثاني عشر عليه بإصدار المرسوم في الثاني عشر من شهر تمُّوز من السّنة عينها، وذلك بعد أن فاضت نِعَمُ الله على لبنان والعالم مع ظاهرة سنة 1950، وتأليف لجنة مختصة بالتحقيقات، والنظر في العجائب الّتي تمت على يد عبد الله الأب شربل، وإرسال الملف إلى الكرسي الرسولي في روما.

 من المجمع الفاتيكاني الثاني إلى إعلان القداسة

في حدث استثنائيّ، أعلن البابا القدّيس بولس السادس المكرّم الأب شربل طوباويًّا في ختام أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، في الخامس من كانون الأوّل سنة 1965، بحضور أساقفة الكنيسة المشاركين في المجمع من كلّ قارّات العالم، ممّا أعطى حدث تطويب مار شربل علامة واضحة على رؤية الكنيسة للعالم وللكنائس الشرقيَّة بعد المجمع، رؤية الروحانيَّة والقداسة كأوليَّة مطلقة، ودلالة على تثبيت دور الكنائس الشرقيَّة كشريك كامل في الحياة الروحيَّة للكنيسة الجامعة، وبأنَّ القداسة ليست محصورة بالغرب المسيحي، وتجدّد الكنيسة يبدأ من القداسة. ولم يكن غائبًا على البابا بولس السّادس، أهميَّة الشرق المسيحي كـ “رئة” ثانيّة للكنيسة الكاثوليكيّة الجامعة المقدّسة الرسوليَّة. وبعد اثني عشر عامًا، في التاسع من تشرين الأوّل سنة 1977، أعلن البابا نفسه الطوباويّ شربل قدِّيسًا للكنيسة الجامعة، مؤكدًا أنّ “حبيس عنّايا”، يُشكّل جسرًا روحيًّا بين الشّرق والغرب، ونموذجًا حيًّا للحياة الرّهبانيَّة التأمليَّة. ومنذ حدث تقديسه أُضيف اسمه في “طلبة القدّيسين” (Litany) في الليتورجيا اللاتينيَّة.

وعند مراجعتنا لعظتي التطويب والتقديس نجد البابا القدّيس بولس السادس يرسم أجمل ملامح روحانيَّة القدّيس شربل، ويقدّمها للعالم كطريق من طرق القداسة المبنيَّة على العيش المستتر في المسيح، حياة من خلوة وصمت بعيدة عن الضّجيج.

القدّيس شربل والبابا يوحنَّا بولس الثاني

أعاد البابا القدِّيس يوحنّا بولس الثاني (خطاب في مناسبة زيارته لبنان في 10 أيار 1997) التأكيد على عمق الشركة بين الكنيسة المارونيَّة وكرسي روما، مشيرًا إلى إفتخارها بإرثها الروحيّ وبقدّيسيها منذ القدّيس مارون. وذكّر بأنّ القدّيس شربل، “الرّاهب النّاسك والكاهن”، قداسته هي ثمرة رهبانيَّة مارونيَّة. كما عبّر عن فرحه بتطويب مار نعمة الله الحرديني الأب الروحيّ للقدّيس شربل. وفي خطوة تاريخيَّة، أدخل البابا يوحنّا بولس الثاني عيد القدّيس شربل إلى الرزنامة اللاتينيّة (السنكسار)، وجعله في 24 تموّز، وذلك بدءًا من سنة ألفين لمناسبة اليوبيل الكبير لولادة السّيّد المسيح.

القدّيس شربل والبابا بنديكتوس السّادس عشر

شدّد البابا بنديكتوس السّادس عشر (في رسالة القبول في الشركة إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، في 24 آذار 2011) على أنَّ القدِّيس شربل والقدّيسين اللبنانيّين الموارنة، هم “زينة الكنيسة المارونيَّة”، ووجهٌ ناصع للشرق داخل قلب الكنيسة الكاثوليكيَّة، وفق ما جاء في رسالته المذكورة. وبعد أعجوبة شفاء السيّدة نهاد الشامي سنة 1993، وصف البابا الفخري حينها، ظاهرة الثاني والعشرين من كلّ شهر في عنّايا، بأنّها “حدثٌ روحيّ فريد”، وهي العجيبة العظيمة الّتي اجترحها مار شربل، ووفق معرفته هي العجيبة الوحيدة بتاريخ الكنيسة المستمرة منذ عدّة سنوات. قال ذلك في زيارة خاصّة جمعته في خلوته، مع بعض أبناء الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة في التاسع عشر من أيلول سنة 2014، عقب صلاة المسبحة معهم في حديقة الفاتيكان عند مزار سيّدة لورد.

القدّيس شربل والبابا فرنسيس

في لقاء البابا فرنسيس مع طلّاب “المعهد الحبري المارونيّ” في روما (16 شباط 2018)، وصف في كلمته القدّيس شربل إلى جانب القدّيس نعمة الله والقدّيسة رفقا بأنّهم “أبطال القداسة”، ونماذج حيّة يمكن لكلّ مؤمن الإقتداء بها. ويوم الأربعاء في الخامس عشر من تشرين الثاني سنة 2023، بارك البابا فرنسيس الفسيفساء (موزايك) للقدّيس شربل، وكان سعيدًا لرؤية هذا العمل الفنيّ الجميل. وضعت الفسيفساء في مغاور الفاتيكان في الطّابق السفلي لبازليك القدّيس بطرس، قرب مدفن القدّيس البابا بولس السادس يوم الجمعة في التاسع عشر من شهر كانون الثاني سنة 2024. وما ذلك إلّا دلالة على تكريم قدّيس بلد الأرز ورسوله العابر للقارّات الحامل عبير القداسة إلى كلّ محتاج ومعوز.

خاتمة

إنّ القدّيس شربل ليس مجرّد قدّيس محليّ، بل هو فعلاً جسر روحي بين لبنان وكرسي روما عبر تعاقب الباباوات، ورسالة حيّة للكنيسة الجامعة تذكرنا بأهميَّة الزّهد والصلاة والوحدة مع الله. ومع زيارة البابا لاون الرابع عشر إلى ضريحه في عنّايا يوم الإثنين في الأوَّل من كانون الأوَّل 2025، نتطلّع إلى أهميَّة قداسة هذا الرّاهب كما قال فيه البابا بولس السّادس في حفل تقديسه عام 1977: “اليوم نحن نُعلنُهُ قدِّيسًا، ندعو الكنيسة جمعاء إلى تكريمه، ونُقدّمُ إلى العالم أجمع مثالاً، هذا الرّاهب ذا الفضائل الفريدة، الَّذي هو مجدُ الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، وهو خيرُ ممثِّل للكنائس الشّرقيَّة، وما لها من تقاليد عريقة. […] وبعدُ، فإنَّ ما يُثيرُ التأثُّر أنَّ شَعْبَ الله لم ينخدع، لأنَّ قداسة شربل مخلوف قد أشعَّت في حياته، فأقبل مواطنوه من مسيحيّين وغير مسيحيّين على تكريمه، ولجأوا إليه لجوءَهُم إلى طبيب النّفوس والأجساد. […] لنُباركِ الربَّ لأنّه أعطانا القدّيس شربل مخلوف، ليجدّد قُوى كنيسته بمثله وصلاته، وإنّنا لَنَتَمَنَّى أن يواصِل القدّيسُ الجديد، ما مارسه من نفوذٍ عجيب، لا في لبنان فحسب، بل في الشّرق وفي الكنيسة جمعاء، وليبتهل من أجلنا نحن الخطأة، الَّذين غالبًا ما لا نجرؤُ على المغامرة في اختبار التَّطويبات، الَّتي تقود إلى الفرح التّامّ. وليشفع بإخوانه في الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة، وبالكنيسة المارونيَّة جمعاء، الَّتي يعرف كلُّ النّاس ما لها من مآثِرَ وما قاسته من مِحَن، وليشفع بلبنان العزيز، وليساعده على التَّغلُّب على مصاعب السّاعة، وعلى تضميد الجروح، الّتي لا تزال تنزف، لكي يسير على درب الرَّجاء” (القدِّيس شربل، صلوات المساء والصباح ونصف النهار والقدَّاس والزيَّاح، الكسليك 2008، ص 129- 135).

إنَّ هذه الزيارة التاريخيَّة لقداسة البابا لاون الرابع عشر إلى ضريح القدّيس شربل في عنّايا، ليست حدثًا احتفاليًّا فحسب، بل محطة كنسيَّة وروحيَّة. وهي تحمل مدلولاً عن شهادة روحيَّة حيَّة بأن القداسة الّتي تجلّت في شخص مار شربل ما زالت تنير العالم، وتطال الإنسان أيًّا كان في لونه وعرقه وكيانه ووطنه، وبأنَّ صوت الصمت المصلّي أقوى من ضجيج الأزمنة الحاضرة، ونار حديد الحروب الهوجاء.

من عنّايا، ينطلق مع قداسة البابا لاون الرابع عشر، نداءٌ روحيٌّ مفاده أنّ الرجاء أقوى من اليأس، وأن الله لا يزال يزور شعبه عبر قدّيسيه، ومنهم القدّيس شربل، وأن كنيسة الله في لبنان والشرّق، برغم جراحها وتحدّياتها، تستمد من ينابيع القداسة وحدتها وقوتّها. وهكذا تتحوّل هذه الزيارة إلى علامة حضور، ورسالة تثبيت، ودعوة إلى العودة إلى الجذور الّتي منها تنبعث الحياة الروحيَّة، لأنّ القداسة على مثال مار شربل ليست ذكرى، بل مسيرة نحيا بها نحو ملء ملكوت الله، نعيشها معًا في بيوتنا ورعايانا وأديرتنا ومؤسّساتنا الكنسيَّة والرّهبانيَّة كافة، وفي أيّ موقع كان، كلٌّ وفق دعوته وموهبته.

كما وتشكّل هذه الزيارة اعترافًا بدور الروحانيَّة المارونيَّة في قلب الكنيسة الجامعة، وتأكيدًا على أنّ القداسة الّتي عاشها القدّيس شربل جزء من تراث الكنيسة الجامعة من خلال روحانيَّة البساطة والتقشّف، والطّاعة والاتّحاد بالله.

ومن خلال زيارة البابا إلى ضريح القدّيس شربل في عنّايا، تؤكّد الكنيسة بأنّها تُقدِّر قوّة الصّلاة الصّامتة في الله والاختفاء به، كما وتُذكّر المكرّسين الرّهبان والرّاهبات لا سيّما “إخوة القدّيس شربل” في الرّهبانيَّة اللبنانيَّة المارونيَّة بأهميَّة العودة إلى أصالة القداسة، الّتي تجسّدت فيه كدعوة أولى وأخيرة لكلّ واحد منهم.

ختامًا، يبقى ضريحُ القدّيس شربل في دير مار مارون- عنّايا، واحةً روحيَّةً، ومزارًا عالميًّا، وخزانًا للطاقةِ الروحيَّة، وما زيارة قداسة البابا لاون الرابع عشر المرتقبة إلى الضريح إلّا تأكيدًا حيًّا لهذه الأصالة الروحيَّة الّتي يشهد لها المؤمنون في لبنان والعالم، وأن رسول بلد الأرز بقدر ما صمت في حياته تكلّم بعد مماته، وأضحى عابرًا للقارات حاملاً رسالة سلام ومحبَّة.

إعداد: الأب شربل رعد (ر.ل.م)

Share this Entry

الأب شربل رعد

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير