بدأ قداسة البابا فرنسيس كلمته بعد أن أصغى إلى بعض الشّهادات. وطلب من معلّم التّعليم المسيحيّ الذي أنهى شهادته أن يبقى إلى جانبه للحظة.
وأنت معي هنا، أودّ أن أقول لكم شيئًا.
علينا أن نفكّر في هذا: معلّمو التّعليم المسيحيّ هم الذين يسيرون بالكنيسة إلى الأمام. ثمّ يأتِين الرّاهبات، بعد معلّمي التّعليم المسيحيّ مباشرة، ثمّ الكهنة، والأسقف… لكن معلّمي التّعليم المسيحيّ هم ”في المقدّمة“، وهم قوّة الكنيسة.
في إحدى زياراتي إلى أفريقيا، قال لِي مرّةً أحد رؤساء الجمهوريّة إنّه تعمّد على يدّ والده معلّم التّعيلم المسيحيّ. الإيمان ينتقل في البيت. الإيمان ينتقل باللغة المحكيّة. ومعلّمو التّعليم المسيحيّ، مع الأمّهات والجدّات، يحملون هذا الإيمان إلى الأمام. أشكر كثيرًا كلّ معلّمي التّعليم المسيحيّ: إنّهم جيّدون، إنّهم جيّدون جدًّا! شكرًا!
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
أحيِّي أخي الكاردينال والإخوة الأساقفة والكهنة [والشّمامسة] والمكرّسين والمكرّسات والإكليريكيّين ومعلِّمي التّعليم المسيحيّ الحاضرين. وأشكر رئيس مجلس الأساقفة على كلماته، وكذلك الإخوة والأخوات الذين شاركونا في شهاداتهم.
كما ذكرنا، الشّعار الذي تمّ اختياره لهذه الزّيارة الرّسولية هو ”إيمان، وأخُوَّة، ورحمة“. أعتقد أنّها ثلاث فضائل تعبِّر جيِّدًا عن مسيرتكم الكنسيّة وعن شخصيّة شعبكم، المتنوِّع تنوُّعًا كبيرًا عرقيًّا وثقافيًّا، والمتميِّزُ في الوقت نفسه بميل طبيعي إلى الوَحدة والعيش السّلميّ معًا، كما يتضح من المبادئ التّقليديّة، البانكاسيلا (Pancasila). أوَدّ أن أتأمَّل معكم في هذه الكلمات الثّلاث.
الأولى، الإيمان. إندونيسيا بلد كبير، ولها موارد طبيعية كبيرة، في النّبات والحيوان والطّاقة والمواد الخام، وما إلى ذلك. هذا الغنى الكبير، إن نظرنا إليه نظرة سطحيّة فقط، يمكن بسهولة أن تحملنا إلى الفخر والغرور. لكن إن نظرنا إليه بعقل وقلب منفتحين، فيمكن أن نجد فيه نداء وعودة إلى الله، وحضور الله في الكون وفي حياتنا، كما يعلِّمنا الكتاب المقدس (راجع تكوين 1؛ يشوع بن سيراخ 42، 15-43، 33). الله في الواقع هو الذي يعطي كلّ هذا. لا يوجد شبر واحد من هذه الأراضيّ الإندونيسيّة العجيبة، ولا لحظة واحدة في حياة كلّ واحد من ملايين السّكان فيها، إلّا وهي عطيّة من الله، وهي علامة على حبِّه المجاني، وهو أبٌ يستبق كلّ حاجاتنا. فإن نظرنا إلى كلّ هذا بعيون الأبناء المتواضعين، تدعونا هذه النّظرة إلى الإيمان، والاعتراف بأنفسنا صغارًا ومحبوبين (راجع مزمور 8)، وإلى تنمية مشاعر الشّكر والمسؤوليّة.
كلَّمَتْنا في هذا أغنيس، فيما يتعلق بعلاقتنا مع الخليقة ومع الإخوة، وخاصّة الأكثر احتياجًا، لكي نعيش بأسلوب حياة شخصيّة وجماعيّة يتَّسم بالاحترام والحضارة والإنسانيّة، وبالرصانة والمحبّة الفرنسيسكانيّة.
الكلمة الثّانية في الشّعار هي الأخُوَّة. استخدمت شاعرة من القرن العشرين تعبيرًا جميلًا جدًّا لوصف هذا الموقف: كتبت: “أن نكون إخوة يعني أن نحِبَّ بعضنا بعضًا، ونعترف بأنّنا مختلفون مثل قطرتَين من الماء” [1]. كلام جميل! وهذا هو بالضّبط ما يحصل. لا توجد قطرتان من الماء متشابهتان، ولا يوجد شقيقان، ولا حتّى توأمان، متطابقان تمامًا. عيش الأخوَّة يعني قبول بعضنا بعضًا، والاعتراف بأنّنا متساوون بالرّغم من اختلافنا.
وهذه أيضًا قيمة عزيزة على تقليد الكنيسة الإندونيسيّة، والتي تتجلَّى في الانفتاح الذي تتعامل به مع الحقائق المختلفة التي تكوِّنها وتحيط بها، على المستوى الثّقافي والعرقيّ والاجتماعيّ والدّينيّ، وتقدِّر مساهمة الجميع، وتعطي بسخاء ممّا هو لها، في كلّ مجال. وهذا أمر مهمّ، أيّها الإخوة والأخوات، لأنّ البشارة بالإنجيل لا يعني فرض الإيمان أو معارضته بإيمان الآخرين، ولا يعني البحث عن أتباعٍ لنا، بل هو عطاء ومشاركة فرح اللقاء مع المسيح (راجع 1 بطرس 3، 15–17)، ودائمًا باحترام كبير ومودّة أخويّة لكلّ واحد. وفي هذا أدعوكم إلى البقاء دائمًا هكذا: منفتحين وأصدقاء مع الجميع – ”يدًا بيد“، كما قال الأب ماكسي (don Maxi) – أنبياء الشّركة والوَحدة، في عالم يبدو فيه أنّ الميل إلى الانقسام وفرض الذّات، والاستفزاز المتبادل آخذ بالتزايد (راجع الإرشاد الرّسوليّ، فرح الإنجيل، 67)
من المهمّ أن نحاول الوصول إلى الجميع، كما ذكّرتنا الأخت رينا، على أمل أن نتمكَّن ليس فقط من ترجمة نصوص كلمة الله، ولكن أيضًا تعاليم الكنيسة إلى لغة البهاسا (Bahasa) الإندونيسيّة، لجعلها في متناول أكبر عدد ممكن من النّاس. وقد أوضح ذلك أيضًا نيكولاس، واصفًا مهمّة معلِّم التّعليم المسيحيّ بصورة ”الجسر“ الذي يوحِّد. أذهلتني هذه الصّورة، وجعلتني أفكِّر في المنظر الجميل، في الأرخبيل الإندونيسيّ الكبير، حيث الآلاف من ”جسور القلب“ توحِّد جميع الجزر، بل وأكثر من ذلك، فكَّرْت في ملايين ”الجسور“ التي توحِّد كلّ النّاس الذين يعيشون هنا! وهذه صورة أخرى جميلة للأخُوّة: قطعة قماش كبيرة مطرَّزة بخيوط المحبّة التي تعبر البحر، وتتغلَّب على الحواجز وتعانق الاختلافات، وتجعل من الجميع “قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة” (أعمال الرّسل 4، 32).
والكلمة الثّالثة: الرّحمة، وهي مرتبطة جدًّا بالأخُوّة. الرّحمة تعني أن نتألّم مع الآخر وأن نشاركه أحاسيسنا: إنّها كلمة جميلة! كما نعلَم، في الواقع، الرّحمة لا تعني توزيع الصّدقات على الإخوة والأخوات المحتاجين ونحن ننظر إليهم من فوق، من أماننا وامتيازاتنا، بل عكس ذلك، الرّحمة هي أن نجعل أنفسنا قريبين بعضنا من بعض، ونجرِّد أنفسنا من أنفسنا من كلّ ما يمكن أن يمنعنا من الانحناء لنصل حقًّا إلى الذين هم في الأسفل، ومن ثمَّ نرفعهم ونعيد الأمل إليهم (راجع رسالة بابويّة عامّة، كلّنا إخوة -Fratelli tutti، 70). وهذا أمر مهمّ: أن نمسّ الفَقر. وليس ذلك فحسب: بل يعني أيضًا معانقة أحلامهم ورغباتهم في الفداء والعدالة، والعنايّة بهم، ونجعلهم معنا مروِّجين ومعاونين، ونشرك غيرهم أيضًا، فنوسِّع ”الشّبكة“ والحدود في دينامية محبّة كبيرة ورحبة (راجع المرجع نفسه، 203).
هناك من يخاف من الرّحمة، لأنّهم يعتبرونها ضعفًا – التألّم مع الآخر ضعف – وبدلًا من ذلك يمجِّدون المكر والاهتمام بالمصالح الخاصّة، كما لو كان ذلك فضيلة، ويبتعدون عن الجميع، ولا يتركون أنفسهم يتأثّرون بشيء أو بأحد، فيظنون أنّهم كذلك أحرار ويرون كيف يحقِّقون أهدافهم. لكن هذه طريقة خاطئة للنّظر إلى الواقع. الذي يجعل العالم يسير ويتقدَّم، ليست المصالح والحسابات- التي تؤدّي عمومًا إلى تدمير الخليقة وتقسيم المجتمعات – بل المحبّة التي تعطي. الرّحمة لا تحجب الرّؤيّة الحقيقيّة للحياة، بل على العكس، تجعلنا نرى الأشياء بصورة أفضل، في ضوء الحبّ، أيّ بعيون قلبنا.
يبدو لي أنّ بوابة هذه الكاتدرائيّة، تلخِّص جيّدًا في هندستها ما قلناه، من وجهة نظر مريميّة. تقف في وسط القوس المدبب، المستند على عمود يوضع عليه تمثال للسّيّدة العذراء مريم. فهو يُظهر لنا بذلك والدة الإله أوّلًا نموذجًّا للإيمان، بينما تدعم رمزيًا، كلمتُها الصّغيرة ”نعم“ (راجع لوقا 1، 38)، بناء الكنيسة بأكمله. يبدو أنّ جسدها الضّعيف، المستند إلى العمود، الصّخرة التي هي المسيح، يحمل معه ثقل البناء بأكمله، وكأنّه يقول إنّها هي الكنيسة، عمل الإنسان وإبداعه، لا تقدر أن تدعم نفسها بنفسها. ثمّ تظهر مريم صورة الأخُوّة، في موقف التّرحيب، وسط البوابة الرّئيسية، ترحِّب بكلّ من يريد الدّخول. إنّها الأمّ التي ترحّب. وأخيرًا، هي أيضًا أيقونة الرّحمة، تسهر وتحميّ شعب الله الذي يجتمع في بيت الآب، بأفراحه وأحزانه، ومتاعبه وآماله. إنّها أمّ الرّحمة.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أوَدُّ أن أختتم هذا الحديث باستعادة ما قاله القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الذي زار هذا البلد قبل عقود، عندما وجَّه كلامه إلى الأساقفة والكهنة والرّهبان والرّاهبات. اقتبس آية من المزمور: “لتَفْرَحِ الجُزُرُ الكَثيرة!” (المزمور 96، 1) ودعا مستمعيه إلى إدراكها، “ويشهدوا لفرح القيامة وإعطاء […] الحياة. وهكذا تقدر أن تفرح الجزر البعيدة أيضًا بسماع الإنجيل، الذي أنتم تبشِّرون به، وتعلِّمونه وتشهدون له” (اللقاء مع الأساقفة والإكليروس والرّهبان في إندونيسيا، جاكارتا، 10 تشرين الأوّل/أكتوبر 1989).
وأنا أيضًا أجدِّد لكم هذه التّوصية، وأشجعكم على مواصلة رسالتكم، أقوياءَ في الإيمان، ومنفتحين على الجميع في الأخُوّة، وقريبين من كلّ واحد في الرّحمة. أبارككم وأشكركم على الخير الكثير الذي تعملونه كلّ يوم في هذه الجُزُر الجميلة كلّها! أصلّي من أجلكم، وأطلب منكم من فضلكم أن تصلّوا من أجلي. وتنبّهوا من أمرٍ واحد: صلّوا من أجل الآخرين وليس ضدّهم! شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
[1] W. SZYMBORSKA, “Nulla due volte accade”, in La gioia di scrivere. Tutte le poesie (1945-2009), Milano, 2009, p. 45.
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana