* * *
لقد ابتدأت حياة يسوع العامة بعماده, من يد يوحنا المعمدان في مياه الاردن. وفيما يكتفي متى بصيغة مبهمة بقوله في ذلك الزمن, ليحدد زمن الحدث, فان لوقا يحدد له, عن وعي تام, موقعا في اطار اوسع على طريقته, بنوع من التاريخ لأنه يضع قبل انجيله سلالة يسوع التي ترقى الى ابراهيم وداود, ويقدم يسوع على انه وريث الوعد الذي قطع لإبراهيم, كما ان وريث الوعد المقطوع لداود الذي قدم الله له مملكة ابدية, على الرغم من جميع خطايا اسرائيل, وكل العقوبات التي حلت به. وبحسب شجرة هذه السلالة, فان التاريخ ينقسم الى ثلاث مرات اربعة عشر جيلا. واربعة عشر هي القيم العددية لاسم داود, وهي تنقسم الى شطر يذهب من ابراهيم الى داود, وآخر يذهب من داود الى سبي بابل, ويتبعها حقبة اخيرة من اربعة عشر جيلا. وهذه الحقبة الاخيرة من اربعة عشر جيلا التي تظهر ان ساعة داود الحاسمة قد دقت, وهي ساعة مملكة داود الجديدة, وهي تفهم على انها قيام مملكة الله.
وبما ان انجيل متى يتوجه الى مسيحيين من اصل يهودي, فإن شجرة السلالة التي رسمت تاريخ الخلاص اليهودي, التي لا تعود الى التاريخ العام الا بطريقة غير مباشرة: ان مملكة داود الجديد هي مملكة الله. وهي تتعلق ايضا طبعا بالعالم كله. ولهذا ان التاريخ المحدد يبقى غير واضح, لأن عدد الاجيال لم يتم في نطاق بنية في اقامة تقسيم زمني محدد.
لنلاحظ حالا ان لوقا لا يضع سلالة يسوع في بدء انجيله, لكنه يربطها بعماد المسيح التي تشكل منه الخاتمة. وهو يقول لنا ان يسوع في ذلك الوقت كان عمره حوالي الثلاثين سنة, وانه بلغ العمر الذي يفسح له في المجال للقيام بنشاط عام. اما لوقا, في السلالة التي قدمها, خلافا لمتى, ينطلق من يسوع, ويرقى الى التاريخ السابق. وقصة السلالة التي لا تعير ابراهيم وداود اي انتباه خاص, وترقى الى آدم, وحتى الى الخلق, لأن لوقا, باسم آدم يضيف: ابن الله. وبهذا, ان رسالة يسوع الكونية تبدو بارزة. وبما انه ابن آدم, فهو ابن ابراهيم. وبفضل حالته البشرية, فانها تشكل قسما منه, ويشكل قسما منا. والبشرية فيه, تعرف انطلاقة جديدة, وتصل الى كمالها.
ولنعد الى قصة العماد. كان لوقا اعطى تاريخين جوهريين في قصص الطفولة. وهو يقول لنا في ما يتعلق بولادة يوحنا المعمدان, انه يجب وضعه “في زمن هيرودس الكبير, ملك الهودية (1:ه) وأما تاريخ حياة يوحنا المعمدان فيبقى راسخا في تاريخ الشعب اليهودي، وتاريخ طفولة يسوع تبتدىء بهذه الكلمات: في تلك الايام، صدر أمر من أغوسطوس قيصر (لو 2) هذه المرة انه التاريخ الكبير، التاريخ الشامل، الذي تجسده الامبراطورية الرومانية، الموجودة في مركز ثانوي.ان لوقا يواصل التاريخ عندما يدخل قصة العماد، التي يبدأ بها نشاط يسوع العام. فهو يقول لنا باحتفال ودقة في السنة الخامسة عشرة من ملك طيباريوس قيصر، حين كان بيلاطس البنطي واليا على اليهودية، وهيرودس رئيس ربع على الجليل، وأخوة فيليبوس رئيس ربع على أيبيلينة، وكان حنان وقيافا رئيس الكهنة. (3:1 – 2) ان هذا الرجوع مجددا الى الامبراطور الروماني يضع يسوع في زمن التاريخ الشامل: ان نشاط يسوع لا يمكن أن يكون ملكا لزمن اسطوري، بحيث يمكن ان يعني، في وقت معا، دائما وأبدا. انه حدث تاريخي يمكن تحديده بدقة، مع كل ما في واقع تاريخي، بشري، من جدية. وهو أمر فريد، وطريقة حضوره في كل الاحقاب تفوق بما لا يقاس عدم التقيد بزمن اسطوري.
ولكن الأمر لا يتعلق فقط بتحديد زمني. ان الامبراطور ويسوع يشخصان نظامي واقع مختلفين، لا يتنافيان حتما، وأما مواجهتهما فتخفي صراعا ممكنا يتعلق بمسائل البشرية الاساسية، وبالوجود الانساني. “أعطوا قيصر ما لقيصر، والله ما لله (مر 12:17)، يقول لاحقا يسوع، معبرا هكذا عن قيد حسابي أساسي لموقعين. ولكن فيما الامبراطور يحدد نفسه كالهي، وهذا ما يعتقده أغوسطوس عندما يقدم ذاته كمن يأتي العالم بالسلام وبخلاص البشرية، فيما على المسيحي أن “يطيع الله خير من أن يطيع الناس “أعمال5:29) ويصبح المسيحيون “شهداء” وشهودا للمسيح الذي هو ذاته مات على الصليب في عهد بيلاطس البنطي بوصفه “شاهدا أمينا” ولدى ذكر اسم بيلاطس البنطي، يرتسم ظل الصليب منذ بدء نشاط يسوع العام، والصليب يظهر أيضا في أسماء هيرودس، وحنان، وقيافا.
غير ان هناك أمرا آخر يسبقه وجود الامبراطور والامراء الذين “يتقاسمون الارض المقدسة. وكل هذه الامارات تتعلق بروما الوثنية. ومملكة داود انقسمت، و”خيمته” تهدمت. والمتحدر، أبو يسوع بحسب الشريعة، هو صانع يسكن اقليم الجليل حيث يعيش أناس وثنيون. واسرائيل يعيش مرة أخرى ظلمة الله، والوعود المقطوعة سابقا لابراهيم، ولداود، يبدو أنها غرقت في صمت الله. والشكوى عينها ارتفعت مجددا: ليس لنا أنبياء، ويبدو أن الله ترك شعبه. وللاسباب عينها، أصبح البلد فريسة الاضطرابات.
ثورة الجليلي
والحركات، والآمال، والانتظارات المتناقضة، تسود المناخ الديني والسياسي. وفي عهد مولد يسوع تقريبا، دعا يهوذا الجليلي الى ثورة سرعان ما قمعها الرومان بالدم. وحزبه، حزب المتدينين المتزمتين، الذي كان لا يزال قائما، لا يرفض الارهاب ولا العنف ليعيد حرية اسرائيل. وليس ما ينفي ان يكون هذا او ذاك بين الرسل الاثني عشر، مثلا سمعان الغيور، وربما يوضاس الاسخريوطي، من اتباع هذه الحركة. والفريسيون الذين نلقاهم غالبا في الانجيل، يحاولون من جهتهم ان يعيشوا عيشة محافظة دقيقة على وصايا التوراة، وان ينأوا بنفوسهم عن الثقافة الموحدة، وتهدد باجبار اسرائيل على السير في الخط الذي سارت عل
يه في نمط حياتها شعوب بقية العالم الوثنية. والصدوقيون، الذين كانوا يعتبرون في غالبيتهم من الطبقة الارستقراطية، ومن الطبقة الكهنوتية، كانوا يجهدون في ان يعيشوا يهودية مستنيرة، متطابقة وطريقة العصر الروحية، وفي التالي، ان يتعايشوا والنظام الروماني، في حين ان طريقة الحياة التي تبناها الفريسيون، تجد تجسيدا لها طويل الامد في اليهودية المشبعة من مجموعة الشرائع والقوانين والتلمود. ولو ان مشادات قاسية في الاناجيل قامت بين يسوع والفريسيين، ولو ان موته على الصليب هو على طرفي نقيض وبرنامج المتدينين، علينا الا ننسى ان الناس الذين ذهبوا الى يسوع، كانوا يأتون من نواح مختلفة وان الجماعة المسيحية الاولى كان بينها كهنة كثيرون وفريسيون قدماء.
وقد شاءت الصدف ان يكتشف اثر في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية سمح بالقيام بحفريات قمران، وان تنشر نصوص تتصل، بحسب بعض اختصاصيين بحركة اوسع، يقوم بها الاسينيون، وهو جماعة من اليهود المتشددين، الذين عرفوا يومذاك فقط بفضل مصادر ثقافية. هذه الجماعة انصرفت عن هيكل هيرودس وعبادته لتنشىء جماعات رهبانية في صحراء اليهودية، ولتنشىء جماعات عائلية تخضع لقوانين اساسها الدين. وقد تركت هذه الجماعة اثرا ثقافيا غنيا، وانشأت طقوسا غريبة تتضمن خاصة الوضوء الطقسي، والصلوات الجماعية، وانا لنتأثر بجدية الايمان الذي تشهد له هذه الكتابات. ويبدو ان يوحنا المعمدان، وايضا ربما يسوع وعائلته، كانوا قريبين من هذه الجماعة. وفي كل حال، ان مخطوطات قمران تقدم شبها كبيرا بالرسالة المسيحية. ولا يمكن ان ننفي ان يوحنا المعمدان كان قد عاش فترة من الزمن في قلب هذه الجماعة، وانه مدين لها بقسم كبير من ثقافته الدينية.وهذا لا يمنع ان يكون ظهور يوحنا المعمدان امرا جديدا كل الجدة. والعماد الذي يدعو اليه يتميز عن الوضوء الديني العادي. ولا يمكن تكراره، ويجب ان يكون تكميلا عمليا لارتداد يعيد تحديد الحياة بكاملها تحديدا نهائيا. وهو مرتبط بدعوة مستعرة الى صيغة تفكير وعمل جديدة، مرتبطة خاصة باعلان دينونة الله، ومجيء من هو اكبر بعد يوحنا. ويقول لنا الانجيل الرابع، اي انجيل يوحنا ان هذا الكائن الاكبر الذي على يوحنا ان يعد له الطريق، “فهو لا يعرفه”. ولكنه يعرف ان دوره هو اعداد الطريق لهذا الآخر العجيب، وان كل رسالته ترتكز عليه.وفي الاناجيل الاربعة، هذه الرسالة الخاصة يصفها آشعيا في مقطع له يقول فيه: “هناك صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب في الصحراء. واجعلوا في الصحراء القاحلة طريقا قويما للرب الهنا”. ومرقس يضيف ايضا عناصر تشرك ميخا ونجدها في اطار آخر لدى متى ولدى لوقا. “ها انذا ارسل ملاكي امامك ليعد لك الطريق”. وفي جميع هذه النصوص من العهد القديم، هناك ما يدل على تدخل خلاصي من قبل الله، الذي يخرج من صمته، لكي يدين ويخلص. ويجب ان نفتح له الباب، ونعد له الطريق. ووعظ المعمدان يخلع طابع الواقع الحالي على هذه العبارات القديمة، عبارات الرجاء: هناك اشياء كبيرة بدت تباشيرها.ان عماد يسوع المسيح كان فعل تواضع عميق. فهو لم يكن في حاجة اليه، ولكنه أبى الا ان يخضع ليوحنا المعمدان، ليعلمنا ان نخضع بدورنا لما رسم لنا من شرائع وقوانين، ليسهل علينا سلوك طريق الخلاص.
ثم تطرق البطريرك إلى الوضع اللبناني بالقول:
وهناك بعض شبه بين الشأن الديني والشأن الزمني. ولا تستقيم امور الدنيا ما لم يكن هناك تراتبية تسهل على الناس شوؤنهم الحياتية. ولكن اذا انقلبت الادوار وضاعت المقاييس، أفلت زمام الامور، وهذا ما نشكوه، وقد تأجل موعد انتخاب رئيس للجمهورية اربع عشرة مرة، ولا نعلم ما اذا كانت هذه هي المرة الاخيرة للتأجيل. وتمر الايام وليس من يعير المحنة المتمادية ما تستحق من اهمية. وقد كفر اللبناني العادي بهذه الاساليب البهلوانية التي لا تسهل له ما يطلبه من عيش كريم، وطمأنينة بال، واستقرار امني يسمح له بالانصراف الى اعماله. ليتنا نعي ما علينا من مسؤولية امام الله والضمير والتاريخ.