الفاتيكان، 2008 (Zenit.org). – ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان.
* * *
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
بعد وقفة الرياضات الروحية الأسبوع الماضي نعود اليوم إلى شخصية القديس أغسطينوس العظيم، الذي تحدثت عنه مرارًا في تعليم الأربعاء. إنه أب الكنيسة الذي ترك أكبر عدد من المؤلفات، وأود الكلام عن هذه الكتابات اليوم بشكل مقتضب. تتمتع بعض مؤلفات أغسطينوس بأهمية بالغة، ليس فقط بالنسبة لتاريخ المسيحية بل أيضًا بالنسبة لنشوء كل الثقافة الغربية: المثال الأفصح هو كتاب الاعترافات، الذي هو أحد أكثر كتابات العصر المسيحي القديم قراءةً. فأسوةً بسائر آباء الكنيسة في العصور الأولى، ولكن بشكل أوسع بكثير، كان لأسقف هيبونا تأثيرًا وسعًا وثابتًا، كما يبدو ذلك من خلال تقليد المخطوط الرحب لمؤلفاته، الذي هو كثير بالفعل.
وقد استعرضها هو نفسه قبل بضعة سنوات من وفاته في كتاب “المراجعات” وبعد موته بقليل تم تسجيل كتابات أغسطينوس بحرض كبير في “الفهرس” الذي أضافه صديقه الأمين بوسيديوس على سيرة القديس أغسطينوس، “ Vita Augustini“.
ولقد تم تسجيل فهرس مؤلفات أغسطينوس لرغبة واضحة في حفظ ذكره بينما كان الغزو الوندالي يمتد في كل إفريقيا الرومانية، ويتضمن الفهرس 1300 مؤلف قام بتعدادها المؤلِف نفسه، ومؤلفات أخرى “لا يمكن إحصاؤها، لأنه لم يضع عليها أي رقم”. كان بوسيديوس أسقف مدينة مجاورة، وقال هذه الكلمات في هيبونا بالذات – حيث لجأ ورافق صديقه حتى الموت – وكان يرتكز بشكل شبه أكيد على فهرس مكتبة أغسطينوس الشخصية. يزيد عدد الرسائل التي ما زالت محفوظة عن 300 رسالة، ونحو 600 عظة، وكانت أكثر بكثير قبلاً، وربما كان عددها بين 300 و 4000 عظة، ثمرة حوالي 40 سنة من الوعظ قام بها البليغ القديم الذي قرر أن يتبع يسوع وأن يتحدث لا إلى كبار البلاط الإمبراطوري، بل إلى شعب هيبونا البسيط.
وفي السنوات الأخيرة اغتنت معرفتنا بأب الكنيسة الكبير هذا إثر اكتشاف مجموعة من الرسائل وبعض العظات. يكتب بوسيديوس: “قام بتأليف ونشر الكثير من الكتب، وألقى الكثير من العظات في الكنيسة، وقد تمت كتابتها وتصحيحها لدحض مختلف الهراطقة، ولتفسير الكتاب المقدس ولتنوير أبناء الكنيسة القديسين. وهذه الكتابات – يشدد الأسقف القديس – هي كثيرة لدرجة يصعب على الباحث أن يقرأها ويتعلم أن يعرفها” (Vita Augustini, 18, 9).
وفي إطار إنتاج أغسطينوس الأدبي – أي في إطار آلاف الكتابات التي تقسم بين كتابات فلسفية، ودفاعية، وعقائدية، وخلقية، ونسكية، وتفسيرية، وضد الهراطقة، إضافة إلى الرسائل والعظات – تتألق بعض الكتابات المميزة لأجل نظرتها اللاهوتية والفلسفية العميقة. جديرة بالذكر بوجه خاص الاعترافات المذكورة آنفًا، والتي كتبت في 13 سفراً بين عامي 397 و400 تمجيدًا لله. هي بمثابة سيرة ذاتية مكتوبة بشكل حوار مع الله. يعكس هذا الأسلوب الأدبي حياة القديس أغسطينوس، التي لم تكن حياة منغلقة على ذاتها، ومتشتتة في كثير من الأشياء، بل معاشة بجوهرها في حوار مع الله وبالتالي كحياة مع الآخرين. وعنوان “الاعترافات” بحد ذاته يكفي للإشارة إلى فرادة هذه السيرة الذاتية. تحمل كلمة “ confessiones ” في اللغة اللاتينية المسيحية معنين وقد نشأت من تقليد المزامير، ويترابط هذان المعنيان. فـ “ confessiones ” تعني تسبيح الله، الاعتراف لله بخطايانا وبؤسنا. النظر إلى البؤس الذاتي على ضوء الله يضحي تسبيحًا لله وشكرًا له لأن الله يحبنا ويقبلنا، ويحولنا ويرفعنا نحو ذاته. وبشأن هذه الاعترافات التي حظيت بشهرة واسعة حتى خلال حياته، كتب أغسطينوس بالذات: “لقد كان لها تأثير كبير علي بينما كنت أكتبها وما زال لها هذا التأثير كل مرة أعيد قراءتها. هذه الكتابات تروق للكثير من الإخوة” (Retractationes, II, 6)، وانا واحد من هؤلاء “الإخوة”.
بفضل الإعترافات يمكننا أن نسير خطوة تلو الأخرى في المسيرة الباطنية التي عاشها هذا الرجل الفريد والمولع بالله.
و”المراجعات” هو كتاب آخر أقل انتشارًا ولكنه مميز وعالي الأهمية بالشكل عينه، ألفه أغسطينوس في مجلدين حوالي عام 427. يقوم أغسطينوس الشيخ بعمل “مراجعة” (retractatio) لكل مؤلفاته المكتوبة، تاركًا نصًا أدبيًا فريدًا وثمينًا، ولكن أيضًا درسًا في الصدق والتواضع الفكري.
“مدينة الله”: كتاب هام ومصيري في نمو فكر الغرب السياسي وفي لاهوت التاريخ المسيحي – كُتب بين 413 و 426 في 22 سفرًا. كانت المناسبة سبي روما الذي قام به الغوط عام 410. وقال الكثير من الوثنيين الذين كانوا ما زالوا أحياء، مع الكثير من المسيحيين: لقد سقطت روما، لا يستطيع إله المسيحيين والرسل أن يحموا المدينة. خلال تواجد الآلهة الوثنين كانت روما “رأس العالم”، العاصمة الكبرى، ولم يكن أحد يعتقد بأنها قد تسقط في أيدي الأعداء. الآن، مع إله المسيحيين، لم تعد هذه المدينة تبدو آمنة. إله المسيحيين لم يحمها، ولذا لا يمكن أن يكون الإله الذي يجب أن يتوكل الإنسان عليه.
على هذا الاعتراض الذي لمس بالعمق حتى قلوب المسيحيين، يجيب القديس أغسطينوس عبر هذا المؤلف العظيم، “مدينة الله”، موضحًا ما علينا أن ننتظر من الله وما لا يجب أن ننتظره منه، وما هي العلاقة بين البعد السياسي وبعد الإيمان، بعد الكنيسة. ما زال هذا الكتاب اليوم أيضًا منهلاً للتعريف بالعلمانية الحقة وكفاءات الكنيسة، الرجاء الحقيقي والكبير الذي
يهبنا إياه الإيمان.
هذا الكتاب الكبير هو عرض لتاريخ البشرية التي تقودها العناية الإلهية، ولكنها الآن منقسمة بين حُبّين. وهذا هو المشروع الأساسي، أي فهم أغسطينوس للتاريخ، وهو صراع بين حبين: حب الذات “حتى عدم الاكتراث بالله”، وحب الله “حتى عدم الاكتراث بالذات” (De civitate Dei, XIV, 28)، ووصولاً إلى الحرية الكاملة من الذات لأجل الآخرين على ضوء الله.
هذا هو ربما أعظم كتب أغسطينوس، وله أهميته الدائمة. ويتمتع بأهمية كبيرة أيضًا كتاب “في الثالوث” ()، وهو مؤلف من 15 سفراً حول محور الإيمان المسيحي الأساسي، الإيمان بالإله الثالوثي، وتمت كتابته على مرحلتين: بين عامي 399 و 412 الأسفار الإثني عشر الأولى، وتم نشرها على غفلة من أغسطينوس، الذي أكمل الأسفار نحو العام 420 وأعاد النظر في المؤلف بكامله.
يتأمل أغسطينوس هنا بوجه الله ويسعى إلى فهم سر الله الواحد، والخالق الأوحد لكل العالم وخالقنا جميعًا، ومع ذلك، فإن هذا الإله الأوحد بالذات هو إله ثالوثي، هو حلقة محبة. يسعى أغسطينوس إلى فهم السر الذي لا يُسبر غوره: كيان الله الثالوثي، في ثلاثة أقانيم بالذات، هو وحدة الإله الواحد الأحقّ الأعمق.
أما “في العقيدة المسيحية” (De doctrina Christiana) فهو مدخل ثقافي إلى تفسير الكتاب المقدس بكل ما للكلمة من معنى ، وفي نهاية المطاف، إلى تفسير المسيحية عينها، التي كان لها أهمية مصيرية في قيام الحضارة الغربية.
بالرغم من كل تواضعه، كان أغسطينوس يعي بالتأكيد مقامه الفكري. ولكن بالنسبة له، الأمر الأهم من تأليف كتابات بعيدة النظر ولاهوتية، كان حمل الرسالة المسيحية إلى البسطاء. تظهر هذه النية الأعمق التي كانت دليلًا له كل حياته في رسالة كتبها إلى رفيقه أوفيديوس، حيث يعلمه بقراره أن يتوقف لحين عن إملاء أسفار “في الثالوث” “لأنها متعبة جدًا، وأعتقد أن قلة من الناس تستطيع فهمها؛ ولهذا هناك حاجة ملحة لنصوص نترجى أن تكون ذات فائدة لكثيرين” (Epistulae, 169, 1, 1).
ولذا كان أكثر فائدة بالنسبة له نقل الإيمان بشكل مفهوم للجميع، بدل كتابة مؤلفات لاهوتية كبيرة. كانت المسؤولية التي كان يشعر بها بشكل حاد في تعميم الرسالة المسيحية الدافع وراء كتابات مثل “في التعليم المسيحي للمبتدئين” (De catechizandis rudibus) وهو يتضمن نظريات وتطبيق في تعليم الإيمان، أو “مزمور ضد بدعة دوناتوس” (Psalmus contra partem Donati).
كانت بدعة دوناتوس أكبر مشاكل إفريقيا في زمن القديس أغسطينوس، كان انشقاقًا إفريقيًا إراديًا. كانوا يقولون: المسيحية الحقة هي المسيحية الإفريقية. كانوا يناهضون وحدة الكنيسة. حارب الأسقف العظيم ضد هذا الإنشقاق طوال حياته ساعيًا إلى إقناع الدوناتيين بأنه في الوحدة فقط تستطيع الإفريقية أن تكون حقةُ. ولكي يفهم البسطاء، الذين ما كانوا ليفهموا مستوى البليغ في اللاتينية، قال: علي أن أكتب مع بعض الأخطاء في القواعد، وبلغة لاتينية مبسطة. وقام بذلك في هذا المزمور، وهو عبارة عن قصيدة بسيطة ضد الدوناتيين، لكي يساعد الناس على أن يفهموا أنه فقط في وحدة الكنيسة يمكن أن نعيش جميعنا علاقتنا مع الله وأن يزدهر السلام في العالم.
في إطار هذا النتاج الذي يتوجه إلى جمهور أوسع، تحتل العظات أهمية خاصة. غالبًا ما ألقاها أغسطينوس بشكل عفوي، وكتبت خلال الوعظ وتم نشرها بعد ذلك فورًا. من بين هذه المؤلفات يتألق التعليق الرائع على المزامير (Enarrationes in Psalmos)، والذي كان يقرأ كثيرًا خلال العصور الوسطى. وتفسر عادة نشر آلاف عظات أغسطينوس – غالبًا دون علم المؤلف – انتشار هذه المؤلفات وضياعها في ما بعد، ولكن يفسر حيويتها أيضًا.
فسرعان ما كانت عظات أسقف هيبونا، نظرًا لشهرة مؤلفها، تصير نصوصًا مطلوبة وكانت تفيد الأساقفة الآخرين والكهنة كنموذج يتم التصرف به تبعًا للسياق الجديد.
يمثل التقليد التصويري، بدءًا بلوحة مائية لاترانية تعود للقرن السادس، القديس أغسطينوس وبيده كتاب، تعبيرًا عن إنتاجه الأدبي، الذي أثر كثيرًا في عقلية وفكر المسيحيين، وتعبيرًا أيضًا عن حبه للكتب، وللقراءة ولمعرفة الثقافة الكبرى التي سبقته.
لدى موته لم يخلف شيئًا، بحسب ما يخبر به بوسيديوس، ولكن “كان يحض دومًا على الحفاظ بحرص على مكتبة الكنيسة بكل مخطوطاتها من أجل الخلفاء”، وخصوصًا مخطوطات مؤلفاته. في هذه المؤلفات، ما يبقى أغسطينوس “حيًا أبدًا” ويفيد من يطالع كتاباته، حتى ولو – يختم بوسيديوس – “أعتقد أنه كان ينال فائدة أكبر في التواصل معه مَن تمكن من رؤيته وسماعه وهو يتكلم شخصيًا في الكنيسة، وخصوصًا أولئك الذين كانوا على اتصال مع حياته اليومية مع الناس” (Vita Augustini, 31).
نعم، كم جميل لو كان بامكاننا أن نسمعه حيًا. ولكنه حي حقًا في كتاباته، وهو حاضر فينا، ويمكننا أن نرى أيضًا أن نرى الحيوية الدائمة في الإيمان الذي وهب له حياته كلها.
* * *
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية (Zenit.org)
حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية – 2008.