Father Najib Baaklini

الحبّ الزوجيّ على ضوء "فرح الحبّ"

لرغم من كلّ شيء فالحبّ لا ينتهي ولا يذوب ولا ينحلّ، بل يتجدّد دائمًا في قلوب الأحبّاء لأنّه رهان الحياة. فبالرغم من التبدّلات والتحوّلات التي تطرأ على حياة الشركاء (الرجل والمرأة) يبقى الحبّ أقوى من الفشل ومن الموت

Share this Entry

1. عنوان أم شعار؟!
 
عنوان هذا المقال يبدأ بكلمة الحبّ وينتهي بها. وبفعل تلك الكلمة أوجَدَ الله الإنسان، فجبله بحبّ، وأعطاه الحياة واضعًا حدًّا لوجوده في العدم. هذا الحبّ الإلهي جسّده يسوع المسيح بتضحيته وموته من أجل خلاص البشر. فالحبّ زَرْعةُ الله في قلب الشريك ليتشارك فيه مع نصفه الآخر. وهذا الحبّ النابع من الله، اكتسبه الإنسان بفضل إرادته وتجاوبه مع عطايا الله ونعمه وحسن تدبير الخالق لمخلوقاته. “وقال الله:”لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا ]…[ فخلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: “إنموا واكثروا…” (تك 1: 26-28). فالحبّ هو نموّ وقوّة فاعلة وخلاّقة، تجعل من الزواج واحة حياة ومساحة تفاعليّة وشراكة حقيقيّة. مَنَحَ الله الإنسان القدرة على الحبّ ونقله، كما القدرة على الخلق والإبداع. فالخلق مصدره الحبّ ويتمّ بواسطته ومن أجله. هل أصبح الحبّ في عصرنا عنوانًا أم شعارًا؟ وهل الوهم أصبح عنوانًا للحبّ والحياة الزوجيّة وهيكليّة لسماتهما، أم أنّ الحياة الزوجيّة والحبّ نفسهما باتا مكانًا للوهم أو وهمًا متواصل الفصول والصور والحلقات؟ كثيرة هي الأسئلة، والأجوبة لا تأتي دائمًا مُقنعة ولا حتّى الحلول الواقعيّة تحدّ من المنازعات والحزن والألم.
إنّ عيش الحبّ الزوجيّ وممارسته اليوميّة، وما يحمل من انتكاسات وصعوبات جمّة يبقى مصدر فرح وحياة. من هنا كان اختيارنا لهذا الموضوع لنؤكّد بأنّه بالرغم من كلّ شيء، يبقى الحبّ الزوجيّ حالة مميّزة من الجمال والبهجة والطمأنينة، إذا عرف الثنائي ماهيّة عيشه بالطرق الصحيحة والإيجابيّة، ومن هنا أتى الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، وقدّم نظرة إيجابيّة عن الحبّ الزوجيّ والعائلة، الذي هو محور تلك الوثيقة حيث يشدّد على نشر الحبّ الصلب والراسخ والرحوم وعلى أن لا يستثني أحدًا على الإطلاق. تحاول هذه الوثيقة الإجابة على كلّ الاحتياجات والتطلّعات الرئيسة في مجال راعويّة الزواج والعائلة على الصعيد الكنسيّ والاجتماعيّ. زِد على ذلك بأنّها “رسالة فاعلة” تترجم من خلال العائلات نفسها وشهادتها لفرح الحبّ. كما تحدّثت مطوّلاً عن الرحمة التي هي فضيلة أسمى من العدالة. ولكن لا رحمة حقيقيّة منفصلة عن الحقيقة.
نعم أراد الإرشاد “فرح الحبّ” أن يذكّر ببعض الأسس والثوابت لنجاح الحياة الزوجيّة والعائليّة وذلك بطريقة عمليّة وواقعيّة، بإعطائه بعض الإرشادات والنصائح والتوجيهات. لقد حدّد النمط المطلوب والأسلوب الأفضل للمتطلّبات الأوّلية والأساسيّة والجوهريّة لتحقيق الحبّ الزوجيّ من خلال “فرح الحبّ”.
إنّ الإرشاد الرسوليّ “فرح الحب” استوعب بعض التحدّيات والصعوبات التي تعترض عيش الحبّ بطريقة ناجحة ومثمرة. من هنا تناول بعض النقاط الحسّاسة في قضية الحبّ من أجل تقديم المبادئ على حقيقتها والمفاهيم السليمة، كي لا يقع الشركاء في فخ الوهم و”المغالطات” والالتباس؛ ولا يكونوا فريسة الثقافة “الحياتيّة” التي تبتعد عن تعاليم الله. فالإرشاد وضّح بأنّ الحبّ ليس شعارًا وإنّما هو عنوان للحياة المشتركة، قابل للتحقيق. فبالمطلق الحبّ بين الرجل والمرأة هدفه وغايته وسببه الزواج والعائلة. “فالزواج أمام الله التزام مقدّس وهبة إلهيّة… ]…[ يهتم الربّ بسعادة الزوجين ويدلُّهما على الطريق الذي يوصل إليه وإلى الكنيسة وإلى القريب ]…[ الزواج أمام الله هو تلقيّ نِعَم الله وهباته بهدف بناء وحدة عائليّة”.[1]
أخيرًا الحبّ حالة يعيشها الإنسان بحسب المعطيات والظروف وإلى آخره، ولكن تبقى حالة “حياة جميلة” و”فرح دائم” و”سعادة ممكنة”.
2. “فرح الحبّ ” يذكّر ويُعلن
 
صدر الإرشاد الرسوليّ حول العائلة من قبل البابا فرنسيس بعنوان “فرح الحبّ”. وقد خَصَّصَ الإرشاد أو الدستور الراعويّ مساحة كبيرة ومهمّة لفضيلة الحبّ في الفصل الرابع تحت عنوان “الحبّ في الزواج” كما في الفصل التاسع يتطرّق إلى “الروحانيّة الزوجيّة والعائليّة”.
من ضمن النقاط التي أثارها الإرشاد وبشكل متكرّر هي: مبادئ الحبّ وأهميّته وفاعليّته وضرورته في نجاح الزواج. فالتركيز على هذا الموضوع له دلالات كثيرة ومهمّة. تتمحور قراءة الإرشاد حول الحبّ في الزواج والعائلة، من هنا أتى عنوان الإرشاد الرسوليّ حول العائلة بعنوان “فرح الحبّ”.
وبما أنّ البعض لا يُدرك مفاهيم الحبّ والزواج على حقيقتهما، ولا مبادئهما وأهدافهما، ولا يسعى إلى تحقيق ما رسمه الله للبشريّة من خلال ابنه، أي التعاليم السماويّة حول فضيلة الحبّ وسرّ الزواج المقدّس، أتى الإرشاد الرسوليّ ليذّكر ويشرح ويوضّح مفاهيم الحبّ وليحثّ الناس للعودة إلى أصول الحبّ وعيشه كما ينبغي. زِد على ذلك التشديد على السعيّ لإدراك قيمة الحبّ على حقيقته من خلال التمسّك بجوهره ومضمونه وتأثيراته الإيجابيّة على حياة الناس. فالحبّ يجمع البشر حول “قضايا” مهمّة وأساسيّة ووجوديّة، من خلال الإعجاب والشعور والعاطفة والرغبة وإلى آخره. فهو قوّة فاعلة في استمراريّة الحياة وتفاعلها. “إنّها صيرورة الإنسان حيث يبني كيانه ويثبت وجوده عبر حالة حياتيّة ووجوديّة مثمرة مع استمرار تلك الحياة وذاك الوجود ومعايشة القيم والمبادئ الإنسانيّة. وهكذا يحقّق الإنسان غاية وجوده على الأرض بمساعدة وسائل سليمة وطرق إيجابيّة لبلوغ الحبّ الذي هو غاية الوجود”.[2]
نعم إنّ هذا الحبّ “النعمة” والعطية من الله، لا بدّ أن يُستثمر مع الآخر المحبوب الذي يؤكّد بأنّ لا حبّ دون شريك. فالحبّ المتبادل والصلب يُعطي حالة من البهجة والفرح والسعادة “فصيرورة الإنسان تحتاج إلى مُبدع ألا وهو الآخر؛ حيث يمضي المحبّ والمحبوب نحو الأحسن بفضل حبّهما، فيقضيان بعلاقتهما المميّزة على العزلة والغربة والفراغ، ويخلقان بانسجامهما مناخًا مؤاتيًا لاعتناق سعادة “ممكنة” و”معقولة”.[3]
لا ينفك الإرشاد الرسوليّ بالتطرّق والتحدّث عن الحبّ وكيفيّة معايشته من خلال علامات واضحة إذ يشدّد على ضرورة وأهميّة إدراك مفهوم الحبّ ومبادئه لأنّه يجلب السعاة والفرح “…والحبّ ليس الاتّحاد بالآخر فقط، أو الشعور بالنشوة والرغبة في الاستمرار، وإنّما هو تحوّل الشريكين إلى واحد في المعاناة والفرح، أي إمكانية التفاهم على معظم المواضيع والمعضلات التي تعترض حياتهما. إنّ الفرح بالحبّ لا يوازيه أيّ فرح، فهو يفوق كلّ مقاييس الهناء. فالشريكان عندما يلتقيان معًا في بوتقة الهوى الصادق، يحقّقان السعادة التي يأملان معها دوام الاستمراريّة المبتغاة”.[4] ففي الفصل الرابع من الإرشاد الرسوليّ الذي يحمل عنوان “الحبّ في الزواج” تأكيد واضح على مبادئ بأنّ لا زواج من دون حبّ؛ فهو يدعم الزواج ويثبّته ويستمرّ حتّى الموت. “يُطبّق البابا فرنسيس على الحياة العائليّة ميزات المحبّة التي يستعملها بولس الرسول، ويشرح أنّ هذا هو الحبّ الذي يوحّد السعي من أجل خير الآخر والمبادلة والحنان والاستقرار بعدم انحلال السرّ المميّز، فالزواج هو عمليّة ديناميكيّة تتقدّم بدرجات مع إدماج تدريجيّ لعطايا الله”.[5] يقول الإرشاد في العدد 89 “إنّ نعمة سرّ الزواج تهدف قبل كلّ شيء إلى “رفع الحبّ بين الزوجين إلى درجة الكمال”. هذا يدلّنا على أنّ يسوع المسيح يستقبل ويأخذ حبّ الزوجين على عاتقه ليجعله مقدّسًا بحضوره وبركته وعطاياه؛ “يحيلُ (يرجع) سرّ الزواج إلى الآب الخالق وإلى المسيح، ويجد معناه الكامل في يسوع المسيح والمخلّص الفادي”[6]؛ وهذا دلالة على ضمان الحبّ الإلهيّ للحبّ الزوجيّ الحقيقيّ. “… يجعل الله الحبّ الإنسانيّ ممكنًا عبر إدخال منحى آخر إليه، فهو الحبّ المستوحى من نبع غير مرئي، خلاّق، وقدسيّ. إنّ الزوجين عندما يعطيان بعضهما لبعض عبر تبادل الرضى، يستقبلان الهبة نفسها، إنّه هذا الحبّ الإلهيّ وهو روح الله التي من خلالها عاش حياته الإنسانيّة. إنّ سرّ الزواج هو هبة يقدّمها الله للزوجين حتى يعيشا تحت رعاية الحبّ طوال عمرهما. ويعمل سرّ الزواج على طبيعة الرابط الخاص بحياة الزوجين المشتركة. وهي نعمة حقيقيّة تزداد كمالاً عبر محبّة الزوجين المستمدّة قوّتها من هذا الرابط غير القابل للفسخ… ]…[، فالنعمة الأسراريّة باعتبارها مشروعًا إلهيًّا ضروريّة للرجل والمرأة اللذين قرّرا أن يعيشا دعوتهما… ]…[ ففي الزواج المسيحيّ تكون السعادة على صورة المسيح، وتجعل الكنيسة كلّ طرف ينسى نفسه ويبحث بكلّ الطرق عن خير الآخر”.[7]
يشدّد البابا ” لا يمكننا أن نشجّع مسيرةً من الأمانة ومن العطاء المتبادل، إن لم نحفّز نموّ وتوطيد وتعميق الحبّ الزوجيّ والعائليّ” (عدد 89). من هنا تأتي أهميّة تنمية المحبّة في حياة الثنائي من خلال التحلّي بالصبر وممارسة الرفق وعدم الحسد ونبذ الكبرياء ورفض التشنج والحدّ من التباهي وإلى آخره. كما من خلال اللطف والوداعة والتجدّد والغفران والرحمة وعيش الفرح والبهجة. زِد على ذلك الإيمان بالآخر المُعبّر عنه بالثقة والصدق والصبر والتحمّل. كلّ هذه المؤهلات والصفات والمعايير ذكرها البابا في إرشاده ليؤكّد بأنّ الحبّ لا يقوم فقط على الشغف والمشاعر بل أيضًا على مزايا المحبّة والحبّ، لا سيّما الاحترام والصراحة والثقة والمسامحة. ويضيف قداسته ويقول “الحبّ الزوجيّ، بعد الحبّ الذي يجمعنا بالله، هو “الصداقة الأعظم”، إنّه إتّحاد يتجلّى بجميع ميزات الصداقة الجيّدة: السعي لخير الآخر، الألفة، الحنان، الاستقرار…” (عدد 123)، ويزيد على ذلك فيقول “من الجيّد أن نعتني بفرح الحبّ في الزواج” (عدد 126) أي الحبّ عنوانه الفرح وعندما يعيش الثنائي الفرح يكون في الحبّ وكذلك عندما يحبّ يسامح وعندما يسامح يكون في الحبّ. إنّها معادلة تعبّر عن طبيعة الحبّ والفرح معًا.
3. “فرح الحبّ” يؤكّد ويُرشد
 
إنّ الفرح في الحبّ يحصل عليه الثنائيّ عندما يُدرك تمامًا ماهيّة الحبّ الزوجيّ والحياة المشتركة. ولإدراك تلك العمليّة الواقعيّة، أي الحبّ والحياة الزوجيّة، لا بدّ للثنائي من أن يعرف “بعض” المبادئ ويدركها وأن يعمل بجهد على تحقيق تلك المبادئ والمفاهيم بكلّ واقعيّة متسلّحًا بالوعيّ والنضج والعمل على الانسجام مع شريكه كما التحلّي بالعطاء والسخاء والمجّانيّة ونكران الذات، كما الثقة والإيمان بالآخر من أجل تفعيل المشاركة الحقيقيّة المبنيّة على التواصل والاتّصال والحوار المستمرّ. “فالحبّ بحاجة إلى الزُهد المتّسم بالإمّحاء ونكران الذات من أجل الحبيب وفكرة الحبّ الساميّة والمقدّسة. فالزهد المعبّر عنه بالحضور للحبيب، يعطي القوّة للمواجهة وتحقيق الانتصارات والوصول إلى الذات وذات الحبيب” [8] ويقول أيضًا البابا بهذا الخصوص “إنّنا عندما نحبّ شخصًا نهبه مجانًا شيئًا ما” (عدد 127)؛ “إنّ الحبّ يفتح العينين ويسمح بأن ندرك فوق كلّ شيء كم هي كبيرة قيمة الإنسان” (عدد 128). ويتابع الإرشاد قوله “إنّ الأفراح الأكثر قوّة في الحياة تولد حين نتمكّن من تقديم السعادة للآخرين، إستباقًا للسماء” (عدد 129).
إنّ الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ” بفقراته المتعدّدة يشدّد على فكرة الحبّ التي تطاول مباشرة الحبّ الزوجيّ وأهميته وضرورة الزواج المبنيّ على الحبّ الذي يؤدّي إلى النجاح والاستقرار والبهجة والفرح. من هنا ركّز الإرشاد بأعداده من: 131 إلى 157 على “زواج عن حبّ” متحدّثًا عن جدّية القرار والخيار كما على الحبّ الذي يظهر وينمو “فالحبّ الذي لا ينمو يتعرّض للمخاطر، ويمكننا النموّ فقط بتوافقنا مع النعمة الإلهيّة عبر المزيد من أعمال المحبّة، ومن أعمال الحنان، مع المزيد من التكرار والقوّة والسناء والعاطفة والفرح” (عدد 134). ولكي ينمو هذا الحبّ لا بدّ من المحافظة عليه بشتّى الطرائق والوسائل والإمكانات ومنها الحوار التي يركّز عليه الإرشاد “الحوار هو أسلوب مميّز وضروريّ للعيش، وللتعبير عن الحبّ وإنضاجه في الحياة الزوجيّة والعائليّة، إنّما هذا يتطلّب تدريبًا طويلاً وشاقًا” (عدد 136). ويشرح بإسهاب الإرشاد كيفيّة عمليّة الحوار وضرورة تفعيله من خلال طرائق حديثة بهدف إنجاح الحياة الزوجيّة واستمرارها بشكل يؤدّي إلى نموّ الثنائيّ على جميع الصُعد. ويتابع الإرشاد إرشاداته حول الحبّ وعيشه وتطبيقه من خلال “الحبّ المتّقد” “إنّ الحبّ بدون متعة أو شغف ليس كافٍ يرمز إلى إتّحاد قلب الإنسان مع الله…” (عدد 142) ويتطرّق الإرشاد إلى عالم المشاعر والرغبات والعواطف والشغف؛ ويشرح مطوّلاً عن تلك القوّة التي وهبها الله للثنائي من أجل إحياء الحبّ بشكل جميل ورائع؛ فيعطي البهجة والسعادة والانشراح؛ ممّا يؤدّي إلى تفعيل الحياة العاطفيّة والجنسيّة نحو النموّ والنضوج، “الحبّ الزوجيّ يدفعنا لجعل الحياة العاطفيّة بأسرها تصبح خيرًا للعائلة وتكون في خدمة الحياة المشتركة. تتوصّل العائلة إلى النضوج حين تتحوّل حياة كافة أعضائها العاطفيّة إلى حساسيّة، لا تسيطر على الخيارات الكبرى والقيم ولا تُظلمها، إنّما تعزّز حرّيتها، وتنتج عنها، وتغنيها، وتجمّلها، وتجعلها أكثر إنسجامًا، لما فيه خير الجميع” (عدد 146).
وينهي الإرشاد الفصل الرابع بالتشديد على أهميّة البُعد الجنسيّ للحبّ، مركّزًا على تصحيح النظرة إلى الجسد واستعماله في هدف نموّ الثنائيّ “فجسد الآخر غالبًا ما يتمّ التلاعب به كشيءٍ نبقي عليه طالما أنّه يُشبع الرغبات ومن ثمّ الازدراء به حين تنحسر جاذبيته”. ويتابع الإرشاد توضيح النظرة المسيحيّة للجسد وللعلاقة العاطفيّة الجنسيّة التي تصبّ في خانة نجاح الاتّحاد الزوجيّ والتي تجعل من الزواج حالة من الاستقرار والتجدّد والفرح. بالتأكيد إنّ الحبّ المعبّر عنه بالحياة العاطفيّة الجنسيّة ما هو إلاّ عطاء للآخر وقبوله (أخذ وعطاء). فالانجذاب الجسديّ المتبادل هو علامة للانسجام والرضى الزوجيّ. لذا لا بدّ للثنائيّ معايشة تلك الحالة بتناغم ووعي وفرح. وهنا يتطرّق الإرشاد إلى إمكانيّة “تحوّل الحبّ” أي تبدّل مظاهر أو بعض “علامات” الحبّ: الرغبة والعلاقة الجنسيّة-الحميميّة والانجذاب الجسديّ وإلى آخره، ولكن على الزوجة والزوج أن يجدّدا اختيارهما وقناعاتهما وثقتهما بفضل الحنان والعاطفة وعمل الروح القدس.
4. الحبّ الزوجيّ في مهبّ الريح ولكن نعم للحبّ
 
بعد عرضنا لبعض أفكار الإرشاد “فرح الحبّ” التي تتناول “قضية” الحبّ من عدّة جوانب، تبقى الأسئلة كثيرة حول حقيقة “وجود” الحبّ وطريقة نجاح تجسيده في حياة الثنائي من قبل بعض المشكّكين أو الذين عاشوا خبرات سلبيّة وإلى آخره. بالتأكيد نراقب ونسمع ونحلّل وهذا يُعطينا القدرة على الاستنتاج الواقعيّ والعمليّ والعلميّ حول مبادئ الحبّ ووقعه على حياة الإنسان. كما يساعدنا على ألاّ نقع في الوهم والمثالية والطوباوية.
نريد أن نقول ونؤكّد بأنّه بالرغم من كلّ شيء، يبقى الحبّ الرابط الأساسيّ والأخير بين الناس؛ فهو يعطي الحياة ويعزّز رونقها وجمالها ومعناها. ينطلق المعنى الوجوديّ للإنسان من الحبّ ويتمّ من خلاله. نعم، نسمع كثيرًا في مجتمع عصرنا عن حالات سلبيّة وخبرات فاشلة تطاول الحبّ والزواج والعائلة، ولكن هناك أيضًا خبرات كثيرة تتّصف بالإيجابيّة. ولكي لا يذهب الحبّ الزوجيّ في مهبّ الريح أو يطغى عليه فقط طوفان “الحضارة” والتِكنولوجيّا والتفلّت من المبادئ والقيم والمسلّمات؛ ونبذ الشرائع الإلهيّة والتحرّر من القواعد الإنسانيّة والأخلاقيّة والتلطّي بالصعوبات والمشاكل والخيبات وتمادي العنف الأسريّ والقتل باسم الحبّ والشرف وتكاثر حالات الطلاق والبطلان (الفسخ) والهجر وإلى آخره من أخبار تشوب حالة الحبّ ومظاهره. لذا يجب أن نعرف إبراز “قضيّة” الحبّ بمبادئه وقيمه وقدسيته. يبقى الحبّ جامع القلوب والعقول من أجل خير الإنسان. إنّه القوّة الفاعلة والأساسيّة في استمرار الحياة على الأرض وبين الناس. نعم، يبقى الحبّ غير المشروط أي المجّاني يُحدث تغييرًا جذريًّا في حياة الثنائيّ، لأنّه ينطلق من السخاء والثقة والإيمان بالآخر فيسود السلام ويعمّ بالفرح. نعم، يبقى الحبّ قرار والتزام، وإذا أدرك الرجل والمرأة المتطلّبات الواجبة، يدخلان في “قفص الفرح”. نعم، يبقى الحبّ أقوى من الشعور والرغبة والميل والنشوة بل هو أيضًا الحنان والعطف. فالحبّ في الأساس وفي عمقه موقف إيجابيّ من الشريك (الرجل والمرأة) من أجل الاهتمام براحته وطمأنينته ونموّه وسعادته وإلى آخره. نعم، إنّ العاطفة والشعور والإحساس والرغبة والانجذاب يؤجّجون الغرام وبذلك يُصبح حبًّا وينمو يومًا بعد يوم. بالتالي لا يمكن أن يتحوّل الحبّ إلى مجرّد شعور وإحساس ورغبة ولكن ما من علاقة حبّ وزواج تُكتَب لها الحياة والاستمرار إذا ما خلت من مشاعر حبّ وعاطفة وحنان والتي تدعم قرار وخيار الرجل والمرأة على نجاح حبّهما مكلّلاً بالفرح. يبقى الحبّ عطاءً قبل أن يكون أخذًا، فكما يعطي الإنسان بمجّانيّة وسخاء يحصل أيضًا دون أن ينتظر. فالعطاء والأخذ هما مفتاح الحبّ. الحبّ يُدخل الشريك إلى جوهر حقيقة الشريكة والعكس صحيح، وإلى حياته الحقيقيّة فيتعرّف الشريك على ذاته وعلى الآخر. ويعيشا بطريقة مختلفة وجديدة كما لم يعيشا قطّ من قبل. وأن يكونا أنفسهما كما سبق ولم يكونا قطّ. وأن يصبحا ما هما عليه وأن يقوما بكلّ شيء معًا وأن يحيلا كلّ شيء إلى “نحن” التي يجب أن تحتلّ بقدرٍ كبير مكان ال”أنا”. وأن يستمرّ ذلك ويتكرّر بدون توقّف بعد العديد من المعاناة والحسرة والأغلاط والحزن والافتراق.
نعم، بالرغم من كلّ شيء فالحبّ لا ينتهي ولا يذوب ولا ينحلّ، بل يتجدّد دائمًا في قلوب الأحبّاء لأنّه رهان الحياة. فبالرغم من التبدّلات والتحوّلات التي تطرأ على حياة الشركاء (الرجل والمرأة) يبقى الحبّ أقوى من الفشل ومن الموت.
نعم، الحبّ يدعّم احترام الذات والآخر، ويقوّي الشريك ولا يمتلكه بل يحرّره من ال”أنا” ويجعله منفتحًا على الآخر والمجتمع. “إنّ لقاء الحبّ يولد من الحريّة، ومن الحريّة يولد لقاء الحبّ. إنّ الحبّ والزواج يجب أن يتحرّرا من أي ضغط خارجيّ”[9]. فخبرة الحبّ الإيجابيّة بين الرجل والمرأة من شأنها أن تكون طريقًا إلى التحرّر والنضج والاكتمال الذاتيّ أي تحقيق الذات من خلال قبول الذات وقبول “ذات” الآخر. “ومن الضروريّ أيضًا محبّة الآخر، لا محبّة الذات في الآخر. محبّة لذاته لا لأجل ما يحمل إلينا من ذاته “.[10]
دعوتنا إلى الشباب والمتزوّجين، الإصغاء إلى صوت الحبّ الذي يخاطبهم بشتّى الوسائل والطرق، وهذا يتطلّب منهم الكثير من الإصغاء والحوار والتواصل والشراكة والتبصّر والتمييز والمعرفة والشجاعة والسخاء والإقدام. فالمجازفة تستحق أن يخوضها أصحاب العشق والغرام لتتحوّل حبّا عميقًا صادقًا صامدًا في وجه الأعاصير والطوفان والرياح التي تعصف. نعم، يبقى الحبّ أقوى من كلّ شيء لأنّه الحبّ. ولأنّه فعل إيمان وحضور ورجاء. نعم للحبّ، لأنّ عندما يريد الإنسان أن يحبّ حقًّا وبكلّ ما يطلبه الحبّ؛ فلا بدّ له أن يعبّر على الحبّ وأن يحافظ عليه بالرغم من كلّ شيء. وللحصول على الفرح والسعادة لا بدّ أيضًا للرجل والمرأة أن يسيرا ويترافقا معًا في مسيرة قد تطول من خلال مرورها بمخاطر جمّة وصعوبات كبيرة. وإذا عرفا أن يحتضنا حبّهما بوعي وشفافيّة وثقة لا بدّ أن يصلا معًا إلى الفرح وقبول الذات وملء الحياة. فالحبّ هو العيد الذي لا ينتهي. فهو يستمرّ على قدر ما يعمل الرجل والمرأة في سبيل إنجاحه. فالوحدة بينهما تؤكّد على نجاحه واستمراره بأشكال مختلفة وتعابيرٍ شتّى. “إنّ الحبّ هو الذي يخلق لقاءً قويًّا وعميقًا بين الرجل والمرأة، خصوصًا إذا كان هذا الحبّ متمتّعًا بالاستمراريّة. والإخلاص شرط أساسيّ من أجل أن يعيش الحبّ وينمو … ]…[ … يسير الحبّ في المقدمة ليقدّم خدمة، ويقترح صداقة، ويوفّر دعمًا. إنّه يتقدّم نحو الآخر، لا ليمتلكه، بل ليعطيه ويقبل الأخذ منه”.[11]
نعم للحبّ، ولكن على الرجل والمرأة أن يحضّرا الطريق الصحيح والقويم، من خلال الإعداد البعيد والقريب والمباشر، والذي يجب أن يأخذ منحىً مهمًّا في تحضير الزواج المقدّس.
 
الأب نجيب بعقليني
يحمل كفاءة في اللاهوت العقائديّ، ودكتورا في اللاّهوت الراعويّ.
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة.
خدم عدّة رعايا كما عمل في الإدارة التربويّة والتعليم: نائب رئيس الجامعة الأنطونيّة، المدير الماليّ والإداريّ للجامعة الأنطونيّة، مدير الجامعة الأنطونيّة فرع زحلة والبقاع، رئيس مدرسة مار روكز الأنطونيّة رياق، مدير المعهد الأنطونيّ بعبدا (لبنان).
عمل في الحقل الراعويّ: إصدار كتب ومقالات، مقابلات وبرامج تلفزيونيّة وإذاعيّة، محاضرات وندوات.
صدر له:
الطريق إلى الزواج (بالعربيّة والفرنسيّة)
حبّ واستمرار
كي نبقى معًا
لقاء وعهد
المرأة والتّنمية
الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة (بالعربيّة والفرنسيّة)
 
 
 
 
[1] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 138
[2]كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، لقاء وعهد، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2008، ص 32
[3] المرجع السابق، ص 32
[4] المرجع السابق، ص 35
[5] مداخلة للكاردينال لورينزو بالديسيري خلال تقديم الإرشاد الرسوليّ “فرح الحبّ”، الفاتيكان، روما، 8 نياسن 2016.
[6] نجيب بعقليني، الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان، مكتب راعويّة الزواج والعائلة، الدائرة البطريركيّة المارونيّة، بكركي- لبنان، 2014، ص 212
[7] المرجع السابق، ص 107
[8] كلوديا أبي نادر ونجيب بعقليني، كي نبقى معًا، الزواج واقع وآفاق، الجامعة الأنطونيّة،لبنان، 2005، ص 73
[9]  نجيب بعقليني، الطريق إلى الزواج، الجامعة الأنطونيّة، لبنان، 2007، ص 50
[10]  المرجع السابق، ص 50
[11]  المرجع السابق، ص 50

Share this Entry

الأب د. نجيب بعقليني

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير