لا يمكنُ أن يمرّ علينا عيدُ الميلاد من دون أن نضعَ سلسلة حول إحدى أهمّ أحداثه، ألا وهي : طفولة يسوع والأحداث التي تليها.
وهناك أيضا موضوعات ٍ متفرّقة ستأتي لاحقا، وقد توضع على شكل سؤال وجواب (ربما !).
بدايةً، سندخلُ في موضوع “طفولة يسوع“من نواحي مختلفة، منها تاريخيّة، ومنها أدبيّة، ومنها لاهوتيّة وتفسيريّة أو (كتابيّة) التي قد تعتمدُ (هذه الناحية الأخيرة على نوع التفسير الإنجيليّ).
متى ولوقا وحدهما، وبطريقة تختلفُ كليّا، يتحدّثان عن يسوع الطفل. وإنّ ما يعرفه المسيحيّون الأوّلون عن هذه الطفولة لا يتجاوَز عبارة عن بطاقة بريديّة تقول: ولد يسوع في بيت لحم، في عهد الملك هيرودس الكبير، قبل أن يسكن في الناصرة، وحبلت به مريم قبل أن تسكنَ مع يوسف الذي كان من نسل داود.
على هذه المعلومات القليلة، نسجَ متّى على مدى فصلين. فلقد استلهمَ، أوّلا، من أجواء زمانه: كان اليونانيّون والرومان يحبّون أن يزوّقوا ولادة الملوك العظام بقصص، وكانوا يضعونَ هذه الولادات، على سبيل المثال، في علاقة مع مراقبتهم ظاهرات فلكيّة غريبة. كما أنه مدينٌ بها أيضا إلى تقاليد قصصيّة مسيحيّة ألفت قبله.
من يتأمّل، وهو معجبٌ، بالبييتا (Pieta) لمايكل انجلو، لن يتساءَل، أوّلا، فيما إذا كانت مريم ” حقــــّا ” متّشحة بهذا الشكل عند أقدام الصليب! وهكذا هي الحالُ مع الفصلين الأوّلين من إنجيل متّى – وهما الفصلان المحيّران للفكر العصريّ – إذ إنّ على المتعامل معهما أن ينفي، أوّلا، الاسئلة التاريخيّة الخاطئة، ويقبلُ أن يتّخذ مفاتيح القراءة التي استخدمها الإنجيليّ ذاته (سنرى ما هي هذه المفاتيح بشكل مبسّط).
إن رواية طفولة يسوع في إنجيلي متى ولوقا، يقول الكاردينال جان دانيلو، تثيرُ صعوبات كثيرة، وتحملُ المسيحيّين على اتخاذ مواقف متعدّدة وغالبًا متضاربة. فبعضهم يقبل بواقعها التاريخيّ ويرفضُ أن يحكم العقل في الصعوبات التي تتخلّلها، ويحاولُ أن يوفّق بين شهادات الإنجيليين غير المتناسقة، وبعضهم الآخر يرفض أن يعطي أيّة قيمة تاريخيّة لمثل هذه الروايات. ويتساءل دانييلو : فما علينا أن نفكّر في ذلك كلّه؟ وما هو موقفنا كمؤمنين لا يخافون أن يحكّموا العقل في مثل هذه المعطيات الكتابيّة؟ أنقدّم استقالتنا الفكريّة والإيمانيّة أمام حالة كهذه، أم نصمتْ لاجئين إلى شكّ عقيم وإلى خوف متردّد؟ ألا يجدرُ بنا أن نسلّط الأضواءَ اللازمة على مثل هذه النصوص مستخدمين الأدوات التي يضعُها العلم الكتابيّ بين أيدينا اليوم؟.
مشكلاتٌ أدبيّة
لا شكّ أنّ النصوص التي تتحدّث عن طفولة يسوع هي متأخّرة بالنسبة لباقي نصوص العهد الجديد – فلا بدّ من الإقرار بأنها دوّنت في وقت لاحق وبعد وقوع الأحداث بثمانين سنة. فإنجيل مرقس، وهو من أقدم الأناجيل، لا يسردُ علينا رواية طفولة يسوع. لكنّ الإنجيليّ متى ولوقا يسردانها علينا، كلّ بحسب طريقته، رواية طفولة يسوع. فهناك حقبة تاريخيّة من ثمانين سنة تفصلُ روايات متى ولوقا عن الأحداث التاريخيّة نفسها. عدا ذلك، فروايات الطفولة تتّسم بظاهـــــرة التــــــأليف المتــــــــأخر في متى 1 – 2 ولوقا 1 – 2 ، وهي تعتمدُ أساليبَ أدبيّة مختلفة تمامــــًا عن نصوص الأناجيل الإزائيّة، وكمثال على ذلك: إنجيلُ مرقس يكشف بطريقة متدرّجة عن مشيحيّة يسوع وألوهيّته. فالألقاب التي يطلقها على يسوع تدلّ، بعد شهادة القديس بطرس، على أنّ يسوع هو المسيح ( مرقس8 : 27 – 30). فإنطلاقا من هذا الحدث، يطلق على يسوع لقب المسيح ابن داود مع ألقاب أخرى. إلاّ أنّ متى ولوقا، وهما يتبعان ِ عامّة ترتيب مرقس، قد أكثرا من الألقاب المشيحيّة والإلهيّة في روايات الطفولة، فمنذ طفولة يسوع، لدينا رؤية متكامــــــــلة عن دوره الخلاصـــــــــــــــــيّ.
يقولُ البابا بنديكتوس السادس عشر في هذا الصدد: ” هناكَ شيءٌ أضافيٌّ، يُروى هنا تاريخٌ يفسّر الكتاب، وبالعكس، ما أراد الكاتب، في عدّة أماكن، أن يقوله يصبح واضحا فقط الآن، بواسطة هذا التاريخ الجديد. إنها رواية تتولّد كليّا من الكلمة، إلا أنّها حقا هي التي تعطي الكلمة معناها الكامل غير المعروف من ذي قبل. التاريخ المرويّ هنا ليس فقط إيضاحــــــــًا لكلمات ٍ قديمة، بل تحقيقَ ما كانت الكلمات تنتظره. تحقيقُ الواقع لم يكن معروفا في الكلمات وحدها، لكنّ الكلمات تبلغ ملء معناها بواسطة الحدثَ الذي تصبح فيه واقعـــــًا”. (يسوع الناصريّ ج 3، طفولة يسوع)
يتبع