” وكانوا يواظبون جَميعاً على الصلاة بقلبٍ واحدٍ ، مع بعضِ النسوة ومريم أُمِّ يسوع ومع إخوتهِ ” ( أعمال الرُسُل ١ : ١٤ ) .
بعد انتقال السيدة العذراء إلى السماء بدأ الرسل وجماعة المؤمنين بالصلاة إلى مريم . إذ كان لها بعد صعود السيد المسيح إلى السماء دور حيوي ومحوري في حياة الرسل والمسيحيين الأوائل .
فالصلاة الأولى التي أطلقتها الجماعة المسيحيّة هي صلاة الملاك جبرائيل نفسه للعذراء مريـم : ” السلام عليك أيّتها الممتلئة نعمة الرّب معكِ ”، ( لوقا ١ : ٢٨ ) . وفي القرن الثالث بدأت الجماعة المسيحيّة تستعملها كصلاة يوميّة ، وفي القرن العاشر أدخلت الكنيسة الرومانيّة كلمات اليصابات التي قالتها لمريم عند زيارتها لها : ” مباركة انت بين النساء ومباركة ثمرة بطنك” إلى كلمات الملاك ليجعلوا منها صلاة واحدة وصاروا يستعملونها في صلاة قدّاس الأحد الرّابع من زمن المجيء ( زمن الميلاد ) ، صلاة سوف تتحوّل في القرن الثاني عشر الى صلاة تتلى كل يوم وليس مرّة واحدة في السنة. وفي الفترة عينها بدأ الرهبان الشرقيّون يتلون ” صلاة تأملية ” أو ” صلاة القلب ” وهي عبارة عن ترداد مستمرّ لإسم يسوع أو لعبارة من الكتاب المقدّس أو لصلاة قصيرة ، وهي صلاة ترداديّة تترافق بالتأمّل الرّوحيّ وتنتهي بدخول الرّاهب المصليّ في حالة الصمت والتأمّل في الحقائق الإلهيّة.
صلاة المسبحة قديما ً :
كان المسيحيون في القرون الأولى يَعدّون أعمالهم التقوية ، من صلوات وركعات وإماتات ، فيستعملون لذلك إحدى الطريقتين :
١ – اما أن يضعوا في جيبهم كمية من الحبوب أو الحجارة الصغيرة ، فينقلونها بالتتابع من جيب اليمين إلى الجيب الشمال .
٢ – واما أن يمسكوا حبلاً معقداً بعقد معدودة فينقلون إبهامهم على العقدة تلو الأخرى . ومن جهة ثانية ، لما تأسست الأديرة والرهبنات ، ابتداءً من القرن الرابع وصاعداً، كان الرهبان يصلّون الفرض مشتركين بعضهم . وكان هذا الفرض مقصوراً على تلاوة صلاة ” الأبانا والسلام الملائكي ” ، وترتيل المزامير البالغ عددها مائة وخمسين مزموراً.
ويقول التقليد أن الرهبان الأميين المؤتمنين على العمل في الأرض ، كانوا بأغلبهم يجهلون القراءة والكتابة ، فيقومون بتلاوة ١٥٠ مرّة صلاة ” الأبانا ” تعويضاً عن عدم إمكانهم تلاوة ال١٥٠ مزمور باللاتينيّة . وهنا بدأوا باستعمال العقد على الحبل لعدّ المرْات، وهي عادة قد تكون وصلتهم من الرهبان الشرقييّن السريان أو البيزنطيّين الّذين التقوا بهم في بيزنطية أو في أديار فلسطين أو إنطاكية .
وبعدها بدأ المسيحيّون يصلّون صلاة بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريـم : ” السلام عليكِ يا مريـم ، يا ممتلئة نِعمةً ، الرّبُّ معك ” ( لوقا ١ : ٢٨) ، وصلاة اليصابات ” مباركةٌ أنتِ في النِّساء ! ومباركةٌ ثمرةُ بطنكِ ” (لوقا ١ : ٤٢) بدل الأبانا، ويسمّونها ” كتاب مزامير مريم ” .
وفي القرن الثالث عشر أضافت القدّيسة جرترود اسم يسوع بعد ” مباركة ثمرة بطنك” .
وفي القرن الرابع درجت العادة أن يُتوّجوا ثماثيل العذراء مريم بأكاليل صغيرة من الورود كما كانت الفتيات العذارى تتزّينّ بها في تلك الأيام ، ومن هنا نشأ لقب : “ المسبحة الورديّة ”.
القديس دومنيك والعذراء مريـم :
وفي مطلع القرن الثالث عشر، عرفت الكنيسة كاهناً قديساً من إسبانيا، هو “ القديس دومنيك ”، مؤسس الدومنيكان ، والمشهور بعلمه وطلاقة لسانه . لا بل وبقداسته وخصوصاً بتعبده للعذراء مريم . وكان في تعبده لها يستعمل الحبل المذكور . وحدث في تلك الأيام أن جماعة الألبيجيين في جنوب فرنسا، قد انجرفوا في طريق الهرطقة . وقد عجز المرسلون والوعاظ عن إرجاعهم إلى الدين والإيمان . فأرسلت الكنيسة أخيراً الأب دومنيك لهدايتهم. ويُجمِع الرهبان الدومنيكان بأن العذراء مريم ظهرت لمؤسسهم وبيدها أيقونة صغيرة ، وقالت له : “ لن تنجح ببراعة الكلام ، بل بهذه السبحة التي بيدك. فأنا معك ، ومتى هديتهم ، علِّمهم أن يصلوها ” ، وهكذا صار، وكان ذلك سنة ١٢١٣ ميلادية .
وفي سنة ١٢١٦ ، أسس الأب دومنيك رهبنته، وكان الأب “ آلن دي لا روش ” أول من فكَّر في أن صلاة السبحة في طريقتها البدائية ، إنما هي صلاة جافة، وأن هناك مجالاً واسعاً للتأمل في الأسرار العميقة التي تجمع بين حياة العذراء مريم وحياة إبنها يسوع . وهكذا، في القرن الخامس عشر، تمَّ على يد هذا الراهب تنظيم صلاة السبحة الوردية كما وصلت إلينا. وسمَّاها “ السبحة الوردية ” لأنها أشبه بباقة ورد نقدِّمها للعذراء مريـم . أما التنسيق فقد جاء كذلك :
١ – بما أن حياة يسوع المسيح وحياة أمه العذراء مريم المشتركة معه في سرّي التجسد والفداء قد مرَّت بثلاث مراحل : الفرح والحزن والمجد، فقد جعلت السبحة ثلاثة أقسام ، وكلّ قسم مكوّن من خمسة أجزاء تُسمى “ أبيات ” أو “ أسرار ” وكل بيت يتألف من عشر حبات .
٢ – القسم الأول يُسمى : ” اسرار الفرح ” وهي : بشارة الملاك للعذراء ، زيارة العذراء لنسيبتها أليصابات ، ميلاد يسوع في بيت لحم ، تقدمة يسوع للهيكل، ثم وجوده في الهيكل .
والقسم الثاني يُسمى : ” أسرار الحزن ” وهي : صلاة يسوع في البستان ، جلده على العمود ، تكليله بإكليل الشوك ، حمله الصليب ، ثم موته على الصليب .
والقسم الثالث يُسمى : ” أسرار المجد ” وهي : قيامة يسوع من بين الأموات ، صعوده إلى السماء ، حلول الرُّوح القُدُس على التلاميذ ، إنتقال العذراء مريـم بالنفس والجسد إلى السماء ، ثم تكليل الثالوث الأقدس للعذراء مريـم سُلطانةً على السماء والارض .
وبين كل بيت وآخر، يُضاف حبة كبيرة منفردة ، مخصصة لتلاوة صلاة ” المجد للآب ” و” الصلاة الربية ” التي علّمها يسوع إلى الرُسُل .
٣ – أُضيف إلى المسبحة :
أ – الصليب لأن المسيحي يبدأ كل أعماله وخصوصاً صلاته بإشارة الصليب.
ب – حبة كبيرة منفردة ، مخصصة لتلاوة قانون الإيمان ” نؤمن بإله واحد ” .
ج – ثلاث حبات ” السلام عليكِ يا مريـم ” نتلوها ، متأملين في الصفات الثلاث التي تتمتع بها العذراء مريم دون سواها : ” ابنة الآب ، أم الابن ، وعروسة الروح القدس “.
د – وأخيراً الأيقونة المثلثة الزوايا التي كانت تحملها العذراء مريم في ظهورها للقديس دومنيك .
وبما أنه يتعذَّر على المؤمنين تلاوة السبحة الوردية بكاملها أي خمسة عشر بيتاً كل يوم ، رأت الكنيسة فيما بعد الاكتفاء بتلاوة ثلث هذه الوردية أي خمسة أسرار او أبيات منها . فخصصت يومي الاثنين والخميس لأسرار الفرح ، والثلاثاء والجمعة لأسرار الحزن ، والأربعاء والسبت لأسرار المجد، مع تخصيص يوم الأحد لأسرار الفرح من بدء زمن المجيء ( الميلاد ) إلى أول الصوم الاربعيني الكبير ، ولأسرار الحزن كل زمن الصوم الاربعيني ، ولأسرار المجد من عيد القيامة ” الفصح ” إلى زمن المجيء.
في شهر أُكتوبر / تشرين الأول ٢٠٠٢ ، أعلن قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني ” سنة المسبحة الوردية ” التي بدأت من أُكتوبر / تشرين الأول ٢٠٠٢ وحتى أُكتوبر / تشرين الأول ٢٠٠٣ . وقد أضاف قداسته إلى المسبحة أسرار جديدة سمِّها : ” أسرار النور ” التي توجِّه تأملنا إلى بعض أحداث من حياة يسوع العلنية التي تتصف بمعانٍ عميقة ، وهي :
المعمودية ، عرس قانا الجليل ، إعلان مجيء ملكوت الله والدعوة إلى التوبة ، التجلي الإلهي والعشاء السري . وتم تخصيص يوم الخميس من الأسبوع للتأمل في : ” أسرار النور ” .
وهكذا ، أصبحت أيام الاسبوع مُقسّمة على أسرار المسبحة الورديّة المقدسة كالتالي :
١ – اسرار الفرح : يومي الإثنين والسبت .
٢ – أسرار الحزن : يومي الثلاثاء والجمعة .
٣ – اسرار المجد : يومي الاربعاء والأحد .
٤ – اسرار النور : يوم الخميس .
” أنا سيدة الورديّة … داوموا على صلاة كل يوم … ” ( من أقوال السيدة العذراء مريـم في ١٣ أُكتوبر / تشرين الأول ١٩١٧ ، في مدينة فاطمة – البرتغال )
ً+المطران كريكور اوغسطينوس كوسا
اسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك
لقلااءة المقالة السابقة، أنقر هنا: https://ar.zenit.org/2023/05/05/%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a8%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b1%d8%af%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d8%b9%d9%82%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%a3%d9%85%d9%84%d9%8a%d8%a9%d8%8c-%d9%88/