مدخل
كم من مرة شعرنا أننا مرفوضون أو خارج دائرة المحبة الإلهية، ينتابُنا الشعور بالإقصاء والرفض والغربة والعزلة؟ أو نعيش أحيانًا إحساسًا مزعجًا بأننا بعيدون أو مقصيون، لا نستحق الإقتراب من النور. غير أنّ الخبر المفرح هو أن الله كما ورد في الكتاب المقدّس : “رحيم ورؤوف، طويل الأناة وكثير الرحمة” ( خر 34: 6)، يقترب إلينا في تلك اللحظات عينها ويعانقنا معانقة الأب لأولاده، والراعي الذي يحمل خروفه على كتفيه فرحًا (راجع حزقيال 34: 16؛ لوقا 15: 4–5).
وفي هذا الإطار، تُجسِّد مدينة صيدا اللبنانيّة وجوارها وفق الكتاب المقدس، صورة رمزيّة روحيٍّة غنيّة بالمعاني والعِبَر. فهي التي وُسمت يومًا بالوثنية والبُعد عن الإيمان، تحوّلت في الأناجيل إلى علامة للانفتاح والانطلاق نحو الآخرين، ولإعلان أن الخلاص ليس امتيازًا لشعب محدود أو محصور ضمن حدود، بل هو عطية إلهية مجانيّة تُمنح لكل من يطلبها بإخلاص قلب وصفاء نيّة.
التحول الأول: صيدا في العهد القديم — حدّ الهوية وتحذير الكبرياء
كانت صيدا في العهد القديم مدينة كنعانية ساحلية مزدهرة وذات صيت ذائع، ولكنها في نظر إسرائيل كانت رمزاً للوثنية والانحراف عن عبادة الله الواحد، وهذا ما أعلنه سفر الملوك الأول (11:5) بأن سليمان «تَبِعَ عشتروت إلهة الصيدونيين والبعل»، لتصبح تلك العبادة الوثنيّة جزء من منظومة دينية فينيقية–كنعانية تُقدّس قوى الطبيعة والخصوبة. فـالبعل كان يُعدّ إله المطر والسيطرة على الطبيعة، بينما كانت عشتروت تُكرَّم كإلهة للحب والحياة والخصوبة، وغالبًا ما اعتُبرت شريكة للبعل في المعتقدات الوثنية القديمة (قضاة 2:13). هذه العبادة الثنائية — التي تمزج بين القوة الذكورية (البعل) والأنوثة الخصيبة (عشتروت) — كانت تجسيدًا لثقافة تضع الطبيعة في موضع الألوهة، وتعتمد على القوى المادية بدلًا من الإيمان بالله الحي. وفي سفر آشعيا 23 يشار إلى صيدا كرمزٍ للغرور التجاري والمادي الذي يُنسي الإنسان خالقه ويُبعده عنه. وقد تجسّد هذا الانحراف أخلاقيًا وروحيًا في شخصية إيزابل الصيدونية، ابنة ملك صيدا، التي أدخلت عبادة البعل وعشتروت إلى إسرائيل (1ملوك 16: 31 و 18: 4 و 13و 19)، من يومها تحوّلت صيدا الى رمز دائم يُهدد الإيمان بالله وحالة إغوائية تسعى لتشويه علاقة الإنسان بالخالق. هكذا كانت صيدا في العهد القديم مرآة سلبية لإسرائيل، تذكّره بما قد يصير إليه إن نسي عهده مع الله، وانغمس في الكبرياء ومحبة المادّة.
التحول الثاني: صيدا في الأناجيل — من أرض الرفض إلى أرض الإيمان
ومع مجيء يسوع المسيح، تبدّل وجه صيدا كدعوة تبدّلًا جذريًا. ففي إنجيل متى (11:21)، فيوجّه الرب توبيخًا للمدن التي لم تتب، بقوله: “لأنه لو صُنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما، لتابتا قديمًا في المسوح والرماد.” هنا لا يتحدث يسوع عن تاريخ مدينة فحسب، بل يكشف عن سرّ من أسرار الخلاص: فالنعمة الإلهية سوف تجد تجاوبًا في القلوب البعيدة ولا سيما الوثنيّة منها أكثر مما تجده في القلوب التي تؤمن بإله إسرائيل لأن ” الروح يَهُبُّ حيث يشاء”(يو 3: 8). وهذا الإعلان يؤكد بأن الإيمان يهيئّ صنع الآيات والمعجزات، ويفتح طريق النعمة نحو القلوب الصادقة، لتصبح صيدا الكتابيّة تّشبّه بالأرض الخصبة، مُهيئة لحمل ثمر التوبة والإرتداد والسلام (راجع، مت 13: 8). ومن زيارة الرب الى صيدا، يكشف لنا الوحي الإلهيّ، بأن الرسالة في فكر الثالوث، هي أوسع من حدود إسرائيل، شموليّة كونيّة جامعة، ومحبة الله تسبق كل استحقاق وامتياز أو جهد بشري. فصيدا- الفينقيّة/ اللبنانيّة، التي كانت ترمز إلى الوثنية والغرور، تصبح وفق التدبير الإلهي مرآة حيّة جاذبة تعكس إمكانية التوبة والتحرّر، تجلّت بصورة أعمق وحسيّة في لقاء يسوع مع المرأة الكنعانية (راجع، مرقس 7:24–31) والتي كانت لحظة فريدة ومصيريّة على صعيد رسالة يسوع خارج إسرائيل، مُؤسسِا بعدًا رسوليًّا وإرساليّا لحضوره الإلهيّ والإنسانيّ، وبأن إنجيله أوسع من حدود الجغرافيا الدينية الضيّقة، فتراه يصل إلى أبعد من كفرناحوم وجيرزيم وأروشليم، أي الى صور ثم يتوسّع الى صيدا، لتصبح بالمسيح عمق الرسالة المسيحيّة، ومعنى الإرسال المؤسس على حالة خروج-فصحيّة وقيامية : فتضحي رمزاً لرسالة المسيح الآتي من حضن الآب (راجع، يو 1: 8)، العابر الحدود ليصل إلى قلب الإنسان التائق الى الخلاص ومعرفة الرب أينما كان وفي أي زمان وتاريخ وحضارة وجغرافية وبعد، وهذا النزول والعبور والإرسال (راجع، مت 28: 19- 20؛ يو 1: 8)، لا يمكن فهمهم إلا في بعد الإخلاء والطاعة والخدمة والحب المضحي (راجع، يو 15: 13؛ فل 2: 6-8)، فوجهة الخلاص الذي جاء به يسوع، غدت نداءً مفتوحاً لكل من يؤمن بأن المسيح يسوع هو : ابن الله الحيّ فادي الإنسان (راجع، مت14: 33؛ يو 1: 34).
التحول الثالث: صيدا كرمز للشمولية — رسالة إلى الكنيسة اليوم
منذ تلك اللحظة لم تعد صيدا علامة رفض، بل صارت أيقونة لشمولية الخلاص والمصالحة تُعلن للرسل كما للكنيسة الأولى عن أصالة الرسالة المتجذرة في مشيئة الله الآب، بأن يخلص الجميع بالمسيح يسوع بقوة الروح القدس (راجع، 1 تيم 2: 3- 4). فرسالة يسوع نحو صيدا تدل على أنّ محبة الله لا محدودة، وأن الإيمان يمكن أن يولد في قلوبٍ تبدو بعيدة مما قد يُحدث حالة ذهول وصدمة في أبناء الكنيسة. فإنّ خروج المسيح إلى صيدا ونقله رسالة الإنجيل هو عبور من الانغلاق إلى الانفتاح : انتقال من الحصرية إلى الكاثوليكية الجامعة، لأن من يتبع المسيح يدخل في ديناميّة المحبة الإلهية التي تتخطّى كل جدار بشري، وكل رسمٍ جغرافي. هذا هو بالتحديد منطق ملكوت الله ” (ك.ل، عدد 3). فملكوت الله وفق تعليم الكنيسة الكاثوليكي، الذي أعلنه الرب يسوع هو مفتوح للجميع، حيث يُدعى الفقراء والخطأة والأمم إلى مائدة النعمة والمحبة (التعليم المسيحي أعداد 543–546). إذن لا استثناءات او أعذار. ففي المسيح يسوع، اللوغوس المتجسّد، تتبدّد الفوارق القديمة وتُلغى الفوارق العرقيّة والحضاريّة، وَيتجلى النور للشعب السائر في الظلمة، فتتحقق نبوءة آشعيا : «وتأتي الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضياء إشراقك» (إش 60:3). وهكذا تغدو صيدا في الكتاب المقدّس رمزًا كنسيًا للرجاء المتجدّد في شرقنا المُتألّم: وموضعًا كان يُعدّ بعيدًا عن الخلاص، فإذا به يصير مكان اقتراب الله وحقلًا مُثمِرًا للرسالة وديناميكيّة رعويّة مُخصبة تتتخطّى القيود فتواجه العوائق بقوة كلمة الله التي لا تعرف حدود توقفها عوائق (راجع ، إر 29: 11؛ أفس 2: 13؛ عب 4: 12) حتى تتحقق الغاية المقصودة، أي إتمام إرادة الله الأصليّة بخلاص الجميع في المسيح يسوع (راجع، أع 3: 21؛ 1قور 15: 8؛ 1تيم 15: 28).
صيدا والإيمان: من جرح الإقصاء إلى الجاذبية الرسوليّة
إن المسار الرسولي الذي وضعه المسيح إثناء زيارته الى صور وصيدا، لديه مقومات لاهوتيّة تمكّن خدّام الكلمة والأسرار كما المؤمنين من مواجهة التجربة والرفض، من خلال إظهار الإيمان المُعاش كقوّة داخلية تحويليّة وكشهادة حياة، لا تستمد ثباتها من الخارج بل من اللقاء الحيّ بالمسيح (مدخل الى الايمان المسيحي51) , فالإيمان هنا ليس مجرّد عُرفٍ متوارث، بل مسيرة انفتاح مستمر نحو الكلمة في مسيرة ارتقاء وشفاء وتحررّ، نحو الله الذي يأتي إلى هشاشتنا، ويكسر منطق التوقعات الضيّقة، ويلقي سلامه هادمًا حائط العداوة (راجع، مز 34: 18؛ يو 4: 7- 9؛ أفس 2: 14؛ عب 12: 1-2) . وهكذا يتبيّن لنا بأن النعمة التي تأتي من المسيح، لا تُقاس بالمكان أو العرق أو اللغة،، بل باستعداد القلب للإصغاء للكلمة والإيمان ليتبيّن لنا هذا : ” بأنَّ جوهر الرسالة الكنسيّة التي يذكّرنا بها البابا بندكتوس السادس عشر لا تنمو بالإكراه، بل بالجاذبيّة – جاذبية المحبّة التي هي المسيح نفسه” (رسالة الله محبة، فقرة 31).
رسالة اليوم
الإيمان كمسيرة لقاء: من صيدا إلى قلب الإنسان
إنّ قصة صيدا الكتابيّة ليست مجرد صفحة من التاريخ المقدّس، بل مرآةٌ لرحلة كل إنسان. فكما تحوّلت صيدا من مدينةٍ موصومة بالبعد، صارت بالمسيح أيقونة للانفتاح والخلاص، وهكذا يمكن لقلب الإنسان، مهما كان بعيدًا، أن يصبح موضع حضور الله واهتمامه. إنها قصة النعمة التي تسبقنا دائمًا، وتأتي إلينا حين نظن أننا خارج حدودها. كم من أشخاص حولنا نحكم عليهم بأنهم “بعيدون”، بينما تنمو في داخلهم بذور إيمان حيّ تنتظر نظرة رحمة ترويها ؟ وكم من حدود نصنعها نحن — بين “نحن” و”هم”، بين “الداخل” و”الخارج” — كما لو كانت محبة الله تُقاس بالانتماء أو المعرفة؟ لكن المسيح الذي خرج إلى صور وصيدا هدم كل جدارٍ بشري، ليقول أنّه لا يوجد إنسان خارج محبة الله، ولا مكان خارج رحمته (راجع أفسس 2:14). في هذا المسار الرسولي الذي يختبر الرفض والتجربة، يظهر الإيمان كقوة داخلية تحويلية، لا تستمد ثباتها من الخارج، بل من اللقاء الحيّ بالمسيح (مدخل إلى الإيمان المسيحي، 51) فالإيمان ليس مجرّد عُرفٍ موروث، بل مسيرة انفتاح مستمر نحو الكلمة، نحو الله الذي يدخل هشاشتنا، ويكسر منطق التوقعات الضيّقة، ويحطم الأسوار، ويلقي سلامه في القلب الخائف (راجع، مز 34:18؛ يو 4:7–9؛ عب 12:1–2). وهكذا، تتجلّى صيدا في فكر الله، كنداء دائم إلى الخروج من الانغلاق إلى اللقاء، من الحكم إلى المحبة، من الحصرية إلى الشمولية. لقد أظهر الرب أن النعمة لا تُقاس بالمكان أو العرق أو اللغة، بل باستعداد القلب للإيمان. وفي هذا يكمن جوهر رسالة الكنيسة، كما يذكّرنا البابا بندكتوس السادس عشر: “الكنيسة لا تنمو بالإكراه، بل بالجاذبيّة — جاذبية المحبة التي هي المسيح نفسه” ( الله محبة، فقرة 31) دعوتنا اليوم هي أن ننظر إلى الآخرين بعين المسيح لا بعين الانغلاق، وأن نؤمن أن روح الله يعمل حيث لا نتوقّع، في صيدا الأمس وفي كلّ العصور واليوم في قلوب الناس أجمعين . (راجع، يو 3: 8).
الخوري د. جان بول الخوري
