أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
يسعدني أن أكون هنا، في أكبر مسجد في آسيا، ومعكم جميعًا. أحيّي الإمام الأكبر وأشكره على الكلمات التي وجّهها إليّ، وأذكُر أنّ مكان العبادة والصّلاة هذا هو أيضًا ”بيتٌ كبيرٌ للإنسانيّة“، حيث كلّ واحدٍ يمكنه أن يدخل إليه ليتوقّف مع نفسه، ويترك مجالًا للشّوق إلى اللامتناهي الذي يحمله في قلبه، في بحثه عن اللقاء مع الله، وعن الحياة في فرح الصّداقة مع الآخرين.
يروق لي أن أذكر أنّ هذا المسجد صمَّمه المهندس المعماري فريدريك سيلابان (Friedrich Silaban)، الذي كان مسيحيًّا وفاز بالمسابقة. هذا الأمر يشهد على أنّه في تاريخ هذه الأمّة وفي الثّقافة التي تتنفّسها، المسجد وأماكن العبادة الأخرى أيضًا، هي مساحات للحوار والاحترام المتبادل والعيش المنسجم معًا بين الأديان والمشاعر الرّوحيّة المختلفة. هذه عطيّة كبيرة، أنتم مدعوّون إلى تنميتها كلّ يوم، حتّى تكون الخبرة الدّينيّة نقطة مرجعيّة لمجتمع أخويّ ومسالم، لا سببًا للانغلاق والصّراع.
في هذا الصّدد، أَذكُر النّفق الذي بُني تحت الأرض – ”نفق الصّداقة“ – الذي يربط بين مسجد الاستقلال وكاتدرائيّة القدّيسة مريم سيّدة الانتقال. إنّها علامة بليغة تسمح لهذين المَكَانَين الكبيرَين للعبادة بأن يكونا ليس فقط ”متقابلَين“ الواحد أمام الآخر، بل ”متّصلَين“ فيما بينهما أيضًا. في الواقع، هذا الممرّ يسمح بأن يكون لقاء وحوار وإمكانيّة حقيقيّة “لاكتشاف ونقل «صوفيّة» العيش معًا، والتّمازج والتّلاقي، […] والمشاركة في ذلك المدّ الفوضويّ بعض الشّيء والذي يمكن أن يتحوّل إلى اختبار أخوّة حقيقيّ، إلى قافلة متضامنة، إلى حجّ مقدّس” (الإرشاد الرّسولي، فرح الإنجيل، 87). أشجّعكم لتستمرّوا في هذا الطّريق: كلّنا، كلّنا معًا، وكلّ واحدٍ منّا، يُنمِّي روحانيّته الخاصّة ويمارس ديانته الخاصّة، فنستطيع أن نسير لنبحث عن الله ونساهم في بناء مجتمعات منفتحة، ومبنيّة على الاحترام المتبادل والمحبّة المتبادلة، وقادرة على أن تَعزِل التزَمُّت والأصوليّات والتّطرف، التي هي دائمًا خطِرة ولا يمكن تبريرها في أيّ حال من الأحوال.
في هذه الرّؤية، التي يرمز إليها النّفق تحت الأرض، أودّ أن أترك لكم فكرتَين، لأشجّع مسيرة الوَحدة والانسجام التي بدأتموها من قبل.
الأوّلى هي: انظروا دائمًا إلى العمق، لأنّه هناك فقط يمكننا أن نجد ما يوحّدنا بعيدًا عن الاختلافات. في الواقع، بينما يوجد على السّطح مساحات وعليها المسجد والكاتدرائيّة، وكلّ واحد له وجهه المعروف، ويرتادها المؤمنون كلّ واحد بحسب ديانته، تحت الأرض، وعلى طول النّفق، يلتقي هؤلاء الأشخاص المختلفون أنفسهم ويمكنهم أن يدخلوا إلى العالم الدّيني للآخر. هذه الصّورة تذكّرنا بشيء مهمّ: أنّ الوجه المرئيّ للأديان – الطّقوس والممارسات وما إلى ذلك – هي إرث تقليدي يجب حمايته واحترامه، لكن ما هو ”غير مرئيّ“، ويتدفّق تحت الأرض، تمامًا مثل ”نفق الصّداقة“، يمكننا أن نقول إنّ الجذر المشترك لجميع المشاعر الدينيّة هو واحد فقط: البحث عن اللقاء مع الله، والعطش إلى اللانهائيّ الذي وضعه الله تعالى في قلوبنا، والبحث عن فرح أكبر وحياة أقوى من أيّ موت، تُسنِدُ رحلة حياتنا وتدفعنا لأن نخرج من أنفسنا لكي نلتقي مع الله. لنتذكّر ذلك إذن: ننظر إلى العمق، وندرك ما يتدفّق في أعماق حياتنا، والشّوق فينا إلى الامتلاء الذي يعيش في أعماق قلوبنا، فنكتشف أنّنا كلّنا إخوة، وحجّاجٌ، في مسيرة نحو الله، بعيدًا عمّا يفرّقنا.
الفكرة الثّانية هي: اعتنوا بالرّوابط. بُنِيَ النّفق من جانب إلى آخر لإنشاء اتّصال بين مكانَين مختلفَين وبعيدَين. هذا ما يفعله النّفق: يجمع بين اثنَين، أيّ أنّه يُنشئ رابطًا. نفكّر أحيانًا أنّ اللقاء بين الأديان هو مسألة بحث، بأيّ ثمن، عن القواسم المشتركة بين العقائد والمذاهب الدّينيّة المختلفة. في الحقيقة، قد يحدث أن يؤدّي مثل هذا النّهج إلى تقسيمنا، لأنّ العقائد لكلّ خبرة دينيّة هي مختلفة. ما يقرّبنا حقًّا بعضنا من بعض هو إنشاء اتّصال بين اختلافاتنا، وحرصنا على تنمية روابط الصّداقة والاهتمام والمعاملة بالمثل. إنّها روابط فيها يفتح كلّ واحد نفسه على الآخر، ونلتزم بالبحث معًا عن الحقيقة ويتعلّم كلّ واحد من تقاليد الآخر الدّينيّة، ونتعاون في احتياجاتنا الإنسانيّة والرّوحيّة. إنّها روابط تسمح لنا بأن نعمل معًا، ونسير مُوَحَّدِين لتحقيق هدفٍ ما، فندافع عن الكرامة الإنسانيّة، ونكافح الفقر، ونعزّز السّلام. الوَحدة تُولد من روابط الصّداقة الشّخصيّة، ومن الاحترام المتبادل، ومن الدّفاع المتبادل عن مساحات وأفكار الآخرين. اعتنوا دائمًا بذلك!
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، ”تعزيز الانسجام الدّينيّ من أجل خير الإنسانيّة“ هو الإلهام الذي نحن مدعوّون إلى أن نتبعه، وهو العنوان للإعلان المشترك الذي أُعِدَّ لهذه المناسبة. فيه نتحمّل المسؤوليّة أمام الأزمات الخطيرة والمأساويّة أحيانًا، التي تهدّد مستقبل البشريّة، لا سيّما الحروب والصّراعات، التي يغذّيها للأسف استغلال الدّين أيضًا، ومواجهة الأزمة البيئيّة أيضًا التي صارت عائقًا أمام نموّ وتعايش الشّعوب. أمام هذا المشهد، من المهمّ أن نعزّز ونقوّي القِيَم المشتركة بين جميع التّقاليد الدّينيّة، ونساعد المجتمع “على أن يهزم ثقافة العنف واللامبالاة” (الإعلان المشترك في مسجد الاستقلال) ويعزّز المصالحة والسّلام.
أشكركم على هذه المسيرة المشتركة التي تستمرّون فيها. إندونيسيا هي بلد كبير، وفسيفساء من الثّقافات والأعراق والتّقاليد الدّينيّة، وهي اختلافٌ غنيٌّ جدًّا، ينعكس أيضًا في تنوّع النّظام البيئيّ والبيئة المحيطة. وإن كان صحيحًا أنّكم تملكون أكبر منجمٍ للذّهب في العالم، فاعلموا أنّ الكنز الأثمن هي الإرادة في ألّا تصير الاختلافات سببًا للصّراع، بل تنسجم في الوفاق والاحترام المتبادل. لا تفقدوا هذه العطيّة! لا تخسروا أبدًا هذا الغِنَى الكبير، بل نمّوه وانقلوه قبل كلّ شيء إلى الشّباب. لا يستسلم أحد لإغراء الأصوليّة والعنف، بل ليكن الجميع منجذبين إلى الحُلمِ بمجتمعٍ وإنسانيّةٍ حرّة وأخويّة وسلميّة!
شكرًا على ابتسامتكم الرّقيقة، التي تشعّ دائمًا على وجوهكم وهي علامة على جمالكم وانفتاحكم الدّاخلي. ليمنحكم الله هذه العطيّة. تابعوا مسيرتكم بعونه تعالى وببركته، Bhinneka Tunggal Ika، متّحدين في الاختلاف. شكرًا!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
____________________________
الزيارة الرّسوليّة إلى إندونيسيا، وبابوا غينيا الجديدة، وتيمور الشّرقيّة، وسنغافورة
2-13 أيلول/سبتمبر 2024
تحيّة قداسة البابا فرنسيس
في نفق الصّداقة
في مسجد الاستقلال – جاكارتا
5 أيلول/سبتمبر 2024
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
أهنئ نفسي وأهنؤكم جميعًا لأنّ ”نفق الصّداقة“ هذا يهدف إلى أن يكون مكانًا للحوار واللقاء.
إن فكّرنا في نفق، فإنّنا نتخيَّل بسهولة طريقًا مظلمًا يمكن أن يُخيفَنا، خاصّة إن كنّا وحدنا. لكن الأمر هنا مختلف، لأنّ كلّ شيء مضاء. لكن أودّ أن أقول لكم إنّكم أنتم النّور الذي يضيئه، بصداقتكم، وبالانسجام الذي تعملون على تنميته، وبدعمكم بعضكم بعضًا، وبالسَّير معًا الذي يقودكم، في نهاية الطّريق، نحو النّور الكامل.
نحن المؤمنين، الذين ننتمي إلى تقاليد دينيّة مختلفة، لدينا دور نقوم به: أن نساعد الجميع على عبور النّفق بنظرٍ موجَّه نحو النّور. وهكذا، في نهاية الطّريق، يمكننا أن نكتشف، في كلّ من سار إلى جانبنا، أخًا وأختًا، يمكننا أن نتقاسم معه الحياة ونسند بعضنا بعضًا.
أمام علامات التّهديد العديدة والأزمنة المظلمة، لنعارض ذلك بعلامة الأخوّة التي تستقبل الآخر، وتحترم هويته، وتحمله على الانضمام إلى مسيرة مشتركة، مبنيّة على الصّداقة، وتقود إلى النّور.
شكرًا لجميع الذين يعملون وهم مقتنعون بأنّه يمكننا أن نعيش في انسجام وسلام، مدركين حاجتنا إلى عالم أكثر أُخُوَّة. آمل أن تتمكّن جماعاتنا من تحقيق مزيد من الانفتاح على الحوار بين الأديان، وأن تكون رمزًا للعيش السّلمي معًا الذي يميِّز إندونيسيا.
أرفع صلاتي إلى الله، خالق الجميع، حتّى يبارك كلّ الذين يمرّون عبر هذا النّفق بروح الصّداقة والانسجام والأخوّة. شكرًا!
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana