في بداية القرن العشرين، كان عمّال المناجم تحت الأرض في زيباكيرا، وهي بلدة صغيرة تقع على بُعد أربعين كيلومتراً شمال العاصمة بوغوتا، يصفون العمل في المنجم بأنّه “الانحدار إلى الجحيم”! صحيح أنّ الأروقة العميقة المؤدّية إلى “الهاليت” الثمين (أو الملح الصخري) لم تكن في ذلك الوقت خالية من المخاطر، لدرجة أنّ عمّال المناجم سارعوا – في وقت مبكر من عام 1932، وبهدف درء القدر – لبناء ملاذ سُمّي “سيّدة الوردية في غواسا”، مع العِلم أنّ عذراء الورديّة شفيعتهم. وقد نجح هؤلاء الأشخاص الشجعان في استغلال ما تبقّى من أكبر رواسب الملح الصخري في العالم، العائدة إلى 200 مليون سنة والتي تمّ اكتشافها في القرن الخامس قبل الميلاد على يد هنود Muiscas.
في هذا السّياق، كما أورد الخبر القسم الفرنسي من زينيت، نقلاً عن موقع CathoBel، كان من المقرّر أن يضعف الإنتاج بشكل ملحوظ في الخمسينيات قبل أن يتوقّف نهائيّاً. وسنة 1953، تمّ التخلّي عن المنجم وتجويفاته، ممّا أثار استياء عمّال المناجم الذين قاموا، بدعم من السلطات الدينيّة والسياسيّة، ببناء كنيسة هناك، لتُفتَتَح في آب 1954 بعد أعمال بلغت كلفتها 285 مليون دولار.
سنة 1992، بعد حوالى أربعة عقود من إنشائه، اضطرّ بيت الرب الأصلي تحت الأرض إلى إغلاق أبوابه بسبب مشاكل هيكليّة خطيرة. فقرّر عمّال المناجم والرؤساء الدينيون والمهندسون في كولومبيا جعل المكان أجمل وأكبر – كاتدرائية – وحتى أعمق … إلى حوالى سبعين متراً. ولفترة من الوقت، بدأ أكثر من مئة متطوّع في حفر الخام ونحت الجدران بهدف إنشاء مجمع مذهل سيصبح فخراً لبلد بأكمله، علاوة على كونه تراثاً دينيّاً وثقافيّاً وبيئيّاً استثنائيّاً، ومشروعاً بغاية الضّخامة، إذ وجب إزالة ما لا يقلّ عن 250 ألف طنّ من الملح.
لم يقتصر الأمر على الكاتدرائية وحدها، بل تضمّن البناء رواق وصول كبير، وأربعة عشر غرفة كلّها محطات درب الصليب، بالإضافة إلى قبّة قطرها 8 أمتار، مثقوبة على ارتفاع 11 متراً من الأرض، ترمز إلى العالم والكون.
كما وتخيّل المصمّمون رواقاً، وهو متاهة مكوّنة من سلسلة أضلاع متوازية تمثّل، كفِعل التوبة، الطريق الذي يجب أن يسلكه غير المعمّد. وهناك ثلاثة محاوِر مهيبة تمهّد الوصول إلى الكاتدرائية نفسها: الأوّل يرمز إلى ميلاد المسيح (مع جرن معموديّة ومياه)، الثاني يُسمّى صحن الحياة (يقدّم أربعة أعمدة مهيبة، عمود لكلّ مبشّر، وصليب ضخم يبلغ وزنه 17 طناً وارتفاعه 16 متراً)، فيما المحور الثالث يمثّل من خلال المنحوتات والشقوق موت المسيح وقيامته.
En Colombie, une croix majestueuse dans la Catedral de Sal © Bernard Geenen
إلّا أنّ المحور الرئيسي هو بالطبع الكاتدرائية نفسها، والتي يبلغ طولها 75 متراً وارتفاعها 25 متراً، فيما تستقبل 3000 مؤمن خلال قدّاس الأحد. بالنسبة إلى الأعياد الدينيّة الكبرى، يمكن أن تستوعب حتّى 10000 شخص. وتضمّ الكاتدرائيّة مذبحاً أساسيّاً نُقل من الكنيسة القديمة، ولزم تقطيعه إلى ثلاثة أجزاء يزن كلّ منها 5 أطنان، ثمّ نقله بعناية وبطء. ويتمّ تعزيز كل هذه الإبداعات من خلال التأثيرات الضوئية.
Cathédrale de sel en Colombie © Cathobel
إذ تُلقَّب بـ”بلد القلب الأقدس”، تُظهر كولومبيا بوضوح وبفخر كاثوليكيّتها، بما أنّ أكثر من 90% من السكّان كاثوليك. والأفضل من ذلك أنّ 78% من الكولومبيّين البالغ عددهم 60 مليوناً يعترفون بأنّ الدين يلعب دوراً بالغ الأهمية في حياتهم. وهذا بلا شك أحد الأسباب التي دفعت بالباباوات بولس السادس ويوحنا بولس الثاني وفرنسيس إلى الذهاب إلى هناك.