أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، صباح الخير!
شكرًا، السَّيِّدة رئيسة الجامعة، لكلماتك اللطيفة. أعزائي الطّلاب، أنا سعيد بأن ألتقي بكم وأصغي إلى أفكاركم. في كلماتكم هذه أشعر باندفاعٍ ورجاء، ورغبةٍ في العدل، وبحثٍ عن الحقيقة.
من بين القضايا التي ذكرتموها، أثّرت فيّ القضايا المتعلّقة بالمستقبل والقلق. نرى بوضوح مدى عنف وغطرسة الشّرّ الذي يدمّر البيئة والشّعوب. يبدو أنّه لا يعرف التّوقّف. الحرب هي التّعبير الأكثر وحشيّة له، كما الفساد وأشكال العبوديّة الحديثة. أحيانًا، هذه الشّرور تلوِّث الدّين نفسه، الذي يصير أداة للسّيطرة. وهذا تجديف. اتّحاد الإنسان بالله، الذي هو حبّ وخلاص، يصير استعبادًا. حتّى اسم الأب، الذي يوحي بالرّعاية والعناية، يصير تعبيرًا عن الاستبداد. الله أبٌ، لا سيِّد مستبدّ. وهو ابنٌ وأخ، وليس مستبدًّا. وهو روح المحبّة، وليس روح السّيطرة.
نحن المسيحيِّين نعلَم أنّ الشّرّ ليس له الكلمة الأخيرة، وأنّ أيامه معدودة، كما يُقال. هذا لا يلغي التِزامنا، بل يزيده: الرّجاء مسؤوليتنا.
والآن سأقول ثلاث كلمات: شكر، ورسالة، وأمانة.
الموقف الأوّل هو الشّكر، لأنّ هذا البيت أُعطي لنا: نحن لسنا أسيادًا له، بل ضيوف وحجّاج على الأرض. أوّل من يعتني بها هو الله: الله يعتني بنا أوّلًا، هو الذي خلق الأرض، – يقول أشعيا – ”ليس كمنطقة خواء، بل لِلسُّكْنى“ (راجع أشعيا 45، 18). والمزمور الثّامن مليء بالشّكر المندهش، ويقول: “عِندَما أَرى سَمَواتِكَ صُنعَ أَصابِعِكَ، والقَمَرَ والكَواكِبَ الَّتي ثَبَّتَّها، ما الإنْسانُ حَتَّى تَذكُرَه، وابنُ آدَمَ حَتَّى تَفتَقِدَه؟ (مزمور 8، 5-6). شكرًا لك، أيّها الأب، للسّماء المرصّعة بالنّجوم وللحياة في هذا الكون!
الموقف الثّاني هو الرّسالة: نحن في العالم لنحافظ على جماله وننمّيه من أجل خير الجميع، وخاصّة الأجيال القادمة، من أجل القريب في المستقبل. هذا هو ”برنامج الكنيسة للبيئة“. لكن لن تنجح أيّة خطّة للتنمية إن بقيت الغطرسة والعنف والمخاصمات في ضمائرنا ومجتمعنا أيضًا. من الضّروري أن نذهب إلى مصدر المسألة، وهو قلب الإنسان. من هناك يأتي أيضًا الطّابع المأساويّ المُلِحّ للموضوع الإيكولوجيّ: من لامبالاة السُّلطات المستبدّة، التي تضع دائمًا المصالح الاقتصاديّة في المقام الأوّل. طالما أنّ الوضع على هذا النّحو، ستعمل السُّلطات على إسكات كلّ نداء أو لا تقبَلَ أي نداء إلّا بقدر ما يكون مناسبًا للسّوق. وطالما أنّ السّوق يظلّ في المكان الأوّل، سيعاني بيتنا المشترك من الظّلم. فجمال العطاء يتطلّب مسؤوليّتنا: نحن ضيوف، ولسنا أسيادًا مستبدّين. وفي هذا، أعزّائي الطّلبة، اعتبروا أنّ الثّقافة هي تنمّية للعالم، وليس فقط للأفكار.
هنا تكمن تحدّيات التّنمية المتكاملة، التي تتطلّب الموقف الثّالث: الأمانة. الأمانة لله وللإنسان. هذه التّنمية، في الواقع، تشمل جميع الأشخاص في جميع جوانب حياتهم: الجسديّة، والأخلاقيّة، والثّقافيّة، والاجتماعيّة والسّياسيّة. وهي تقف عقبة في وجه جميع أشكال الظّلم والإقصاء. الكنيسة تدين هذه الإساءات، وتلتزم أوّلًا بالعمل على توبة كلّ عضو فيها، ونحن أنفسنا، وارتدادنا إلى العدالة والحقيقة. بهذا المعنى، التّنمية المتكاملة تستدعي قداستنا: إنّها دعوة إلى الحياة الصّالحة والسّعيدة للجميع.
الخيار هو إذًا بين استغلال الطّبيعة وتنميتها. انطلاقًا من طبيعتنا البشريّة – لنفكّر في عِلم تحسين النّسل البشري، والأنظمة الإلكترونيّة، والذّكاء الاصطناعيّ -. الخيار بين الاستغلال أو التنمية له صلة أيضًا بعالمنا الدّاخلي.
التّفكير في الإيكولوجيا الإنسانيّة يقودنا إلى التّطرّق إلى موضوع يهمّكم ويهمّني وكان يهمّ أسلافي قبلي: وهو دور المرأة في الكنيسة. العنف والظّلم هنا لهما وزن ثقيل، وأحكام مسبقة بحسب الإيديولوجيّات. لذلك نحتاج إلى أن نعود إلى نقطة الانطلاق: من هي المرأة ومن هي الكنيسة. الكنيسة هي شعب الله، وليست شركة متعدّدة الجنسيّات. والمرأة في شعب الله هي ابنة، وأخت، وأمّ. تمامًا كما أنا ابن، وأخ، وأب. هذه علاقات، تعبِّر عن كوننا على صورة الله، رجلًا وامرأة، معًا، وليس بشكل منفصل! في الواقع، النّساء والرّجال هم أشخاص، وليسوا أفرادًا. هم مدعوّون منذ ”البدء“ إلى أن يُحِبّوا وأن يكونوا محبوبين. الدّعوة هي رسالة. ومن هنا يأتي دورهم في المجتمع وفي الكنيسة (راجع القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، رسالة بابويّة عامّة، كرامة المرأة، 1).
ما يميِّز المرأة، وما هو أنثوي، لا يُحدَّد بالإجماع أو بالإيديولوجيات. والكرامة مضمونة بقانون أصلي، ليس مكتوبًا على الورق، بل في الجسد. الكرامة هي قيمة لا تقدَّر بثمن، وصفة أصليّة، لا يمكن لأيّ قانون بشريّ أن يعطيها أو ينزعها. انطلاقًا من هذه الكرامة، المشتركة بين الجميع، تهتمّ الثّقافة المسيحيّة دائمًا، في سياقات مختلفة، برسالة وحياة الرّجل والمرأة وكيانهما المتبادل، الواحد للآخر، في الشّركة والوَحدة. ليس الواحد ضد الآخر، في مطالب متعارضة، بل الواحد من أجل الآخر.
لنتذّكر أنّ المرأة توجد في قلب حدث الخلاص. منذ قالت مريم ”نعم“ جاء الله نفسه إلى العالم. فالمرأة هي الاستقبال الخصب، والعناية، والتّفاني من أجل الحياة. لنفتح عيوننا على أمثلة الحبّ الكثيرة في كلّ يوم، من الصّداقة إلى العمل، ومن الدّراسة إلى المسؤوليّة الاجتماعيّة والكنسيّة، ومن الزواج إلى الأمّومة، وإلى البتوليّة من أجل ملكوت الله والخدمة.
أنتم أنفسكم هنا تنمون نساءً ورجالًا. أنتم في مسيرة، وفي مسيرة تنشئة كأشخاص. لذلك، مسيرتكم الأكاديميّة تشمل مجالات متعدّدة: البحث، والصّداقة، والخدمة الاجتماعيّة، والمسؤوليّة المدنيّة والسّياسيّة، والتعابير الفنيّة…
أفكّر في الخبرة التي تعيشونها كلّ يوم، في جامعة لوفان الكاثوليكيّة هذه، وأشارككم في ثلاثة جوانب، بسيطة وحاسمة، من تنشئتكم: كيف ندرس؟ لماذا ندرس؟ من أجل من ندرس؟
كيف ندرس: ليس هناك فقط طريقة، كما في كلّ عِلم، بل أيضًا أسلوب. يمكن لكلّ شخص أن ينمّي أسلوبه الخاصّ. في الحقيقة، الدّراسة هي دائمًا طريق إلى معرفة الذّات والآخرين. لكن هناك أيضًا أسلوب مشترك، يمكن مشاركته في الجماعة الجامعيّة. ندرس معًا: بفضل الذين درسوا قبلي – أساتذة، وزملاء متقدّمين – والذين يدرسون بجانبي، في الفصل الدراسيّ. فالثّقافة بكونها اهتمامًا بالذّات تتطلّب اهتمامًا متبادل.
ثانيًا: لماذا ندرس. هناك سبب يدفعنا وهدف يجذبنا. يجب أن يكونا صالحَين، لأنّهما يحدِّدان معنى الدّراسة، واتّجاه حياتنا. أحيانًا أدرس لأجد هذا النّوع من العمل، وأنتهي فأجد نفسيّ مقيَّدًا بهذا النّوع من العمل. فنصير ”سلعة“. لا نعيش لنعمل، بل نعمل لنعيش. من السّهل قول ذلك، لكنّه يتطلّب الالتزام حتّى نطبقه بانتظام. وهذه الكلمة ”انتظام“ مهمّة جدًّا للجميع، وبشكل خاصّ لكم أنتم الطّلاب. يجب أن تتعلَّموا أسلوب الانتظام، وأن تكونوا منتظمين.
ثالثًا: من أجل من ندرس: من أجل أنفسنا؟ من أجل أن نؤدّي حسابًا للآخرين؟ ندرس لنكون قادرين على تربية وخدمة آخرين، أوّلًا بخدمة الكفاءة وسلطة المعرفة. قبل أن نسأل أنفسنا هل الدّراسة مفيدة لشيء ما، لنهتمّ بخدمة إنسان ما. إذّاك تكون الشّهادة الجامعيّة شاهدًا على قدرتنا من أجل الخير العام.
أيّها الطّلاب الأعزّاء، يسعدني أن أشارككم هذه الأفكار. وفي أثناء قيامنا بذلك، نلاحظ أنّ هناك واقعًا أكبر يضيء لنا ويتجاوزنا: وهو الحقيقة. بدون الحقيقة، تفقد حياتنا معناها. الدّراسة لها معنى عندما تبحث عن الحقيقة، وبالبحث عنها تدرك أنَّنا خُلِقنا لنجدها. والحقيقة يمكن العثور عليها: إنّها تستقبل، وهي مستعدّة للخدمة، وتعطي بسخاء. إذا تخلّينا عن البحث معًا عن الحقيقة، تصير الدّراسة أداة سلطة، وسيطرة على الآخرين. فلا تخدم، بل تسيطر. عكس ذلك، الحقيقة تجعلنا أحرارًا (راجع يوحنّا 8، 32). هل تريدون الحرّيّة؟ كونوا باحثين وشهودًا للحقيقة! حاولوا أن تكونوا صادقين ومنطقيِّين في أبسط الخيارات اليوميّة. وهكذا، تصير هذه الجامعة، كلّ يوم، كما تريد أن تكون، أي جامعة كاثوليكيّة!
شكرًا لهذا اللقاء. أبارككم من قلبي، أنتم ومسيرة تنشئتكم. ومن فضلكم، أسألكم أن تصلّوا من أجلي. شكرًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2024
Copyright © Dicastero per la Comunicazione – Libreria Editrice Vaticana