قال ويلهيلم ستاهلين اللاهوتيّ الألمانيّ الإنجيليّ : " إنّ الذي يصلّي قائلا ، تعال أيّها الروح القدس ، عليه أن يكون جاهزا لأن يضيف أيضا إلى صلاته : وادفعني حيث يجب أن تدفعني " . في هذه السلسلة التي سأكرّس نفسي لها بمناسبة عيد العنَصرة ، سأتطرّق أوّلا إلى : من هو الروح القدس ؟ وكيف يعمل في حياة المؤمن والكنيسة ؟؟ يسوع والروح القدس ، ثمّ سنتناول المواهب السبع للروح القدس .
يقول قانون إيماننا المسيحيّ : " ونؤمن بالروح القدس ، الربّ المحيي .... " ، ماذا يعني هذا التعبير ؟
يُفهَم الروح القدس في الكتاب المقدّس على أنه القدرة الخالقة كلّ حياة . فهو يُحيي كلّ شيء ، ويحفظ كلّ شيء ، ويقودُ كلّ شيء نحو الخلاص الأخير . إنه روحٌ فاعل وخالق وخلاّق . إنه الأقنوم الإلهيّ الثالث الناطق بالأنبياء والمحرّك للحياة . هو الحضور الفاعل للربّ المرتفع وهو حقيقته الحاضرة في الكنيسة وفي العالم .
يقول كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة (691) : " روحٌ قدس " ، هذا اسم علم من نعبده ونمجّده مع الآب والابن . الكنيسة تقبّلته من الربّ وتعترف به في المعموديّة أبنائها الجُدد .
كيف وجدَ الكتاب المقدّس الكلمات التي تمكّنه من الإيحاء بالحقائق الإلهيّة غير المنظورة والتي لا توصف ؟
إنّ الكشف عن كيان الروح القدس وعن عمله هو أحد الأمثال التي تعرّفنا كيف عبّر مؤلّفو الكتاب المقدّس عن حضور الله في خلائقه ، إنطلاقا من كلمات بسيطة جدّا . كما يجري في كلّ لغة ، فمن الإختبار اليوميّ ، ثمّ التاريخيّ ، اغتنت تلك الكلمات باختبار مختلف جدّا انكشفت فيه هبة الخالق لخليقته . (لم يُكشف الروح القدس كعمليّة كيمائيّة صرف ، ولا بأساليب مثاليّة خياليّة أو هلاميّة ، فالإيمان المسيحيّ يستبعدُ هكذا ألعاب ٍ بهلوانيّة يقوم بها الله ! ) . ماذا تعني في الإنجيل الرابع عبارة الروح القدس التي يستعملها نادرًا القديس بولس وأعمال الرسل . ففي 3 : 6 - 8 ، في الحوار الذي دار بين يسوع ونيقوديموس ، يضعنا هو على الطريق : " مولود الجسد جسدٌ هو ، ومولود الروح روحٌ هو .. ، الريحُ تهبّ حيث تشاء ، فتسمعُ صوتها ، ولكنّك لا تدري من أين تأتي ولا من أين تذهب ...." إذن ، الإنجيليّ يستعمل ، عمدًا ، كلمة واحدة تجمع بين " الروح " و " الريح " . الكتاب المقدس ، في كلامه عن الروح القدس ، لا يلتجئ إلى صورة واحدة جامدة عنه ، بل يعطي صور مختلفة متنوّعة .
إن كلمة pneuma اليونانيّة تترجم الكلمة العبريّة " رُواح " . والحال أنّ هذا اللفظ يعني أكثر بكثير من الريح . ولقد بحث أهل الإختصاص في اللغات السامية عن جذر يعني " هبَّ " . ولم يستطيعوا أن يجدوا هذا المعنى إلاّ في صيغ فعليّة نادرة ، في العربيّة أو الإثيوبيّة ، ولكنّها تردُ في الكتاب المقدّس . يعني جذر لفظ " رُواح " الفضاء أو المسافة (تكوين 32 : 17 ) ، لا بل الفراغ . من ذلك الجذر صدر إسمان : الواحد الذي هو الفضاء المعطّر أو الرائحة (رياح) ، والآخر الذي هو الفضاء الحياديّ وغير المنظور وغير المحسوس باللمس ، والجوّ الخارج عن الإنسان : أي " الرُواح " . أمّا النّفَث ، ذلك التنفس الذي يشارك الإنسان به في الفضاء الحيويّ ، فليس هو " الرُواح " ، بل النفس (بالحَلْق ) أو النسمة (بالأنف ، وهو أقرب إلى الدماغ) .
يتبع