يقول البابا بنديكتوس السادس عشر : في رواية سلّم يعقوب رأى الآباء تعبيراً رمزيّا ، بطرقٍ مختلفة ، عن الرباط المتلازم بين الصعود والنزول ، بين الإيروس الباحث عن الله والأغابي التي تنقل الهبة المقبولة . ورد ، في هذا النصّ البيبليّ ، أنَّ أبا الآباء يعقوب رأى في حلم، وهو مُسندٌ إلى حجرٍ رأسَه ، سلّما يلامس السماء ، وملائكةَ الله يصعدون وينزلون عليه (را تك 28: 12؛ يو1: 51) . إنّ التفسير الذي يعطيه البابا غريغوريوس الكبير عن هذه الرؤية في «القاعدة الراعويّة» مؤثرٌ للغاية . فيقول إنّ الراعي الصالح يجب أن يتأصّل في التأمل . بذلك فقط يستطيع أن يتقبّل حاجات الآخرين في قلبه ، بحيث تصبح حاجاتهِ : «ينقل بأحشاء محبته الأبويّة إلى ذاته ضعفَ الآخرين» . في هذا الإطار، يعود القديس غريغوريوس إلى القديس بولس الذي خُطف إلى السماء ، إلى أعماق أعظم أسرار الله ، والذي استطاع ، انطلاقا من ذلك ، بعد رجوعه من السماء ، أن يكون كلاًّ للكل (را 2 كو 12: 2-4؛ 1 كو 9: 22) . من جهة أخرى ، يعطي القديس أيضا مثَل موسى الذي كان يدخل على الدوام الخباءَ المقدس ، ليحاور فيه الله ، فيستطيع حينئذٍ ، من بعد الله ،  أن يكون في تصرّف شعبه . «في الداخل (في الخباء) ، كان التأمّل يجذبه إلى الأعالي ، وفي الخارج [خارج الخباء]، كان يحمل ثقل المتألمين» .

«الحبُّ» حقيقة واحدة ، لكن مع أبعاد مختلفة ؛ ويمكن أن يظهر بعدٌ أو آخر ، كلٌّ بدوره ، بطريقة أهمّ . وحيثما ينفصل البعدان تماما الواحدُ عن الآخر ، يظهر تشويهٌ أو ، على كلّ حال ، شكلٌ ينتقص الحبّ . وباختصار، أن الإيمان البيبليّ لا يبني عالما موازيا أو عالما مضادّا للظاهرة البشريّة الأصليّة التي هي الحبّ ، بل يتقبّل الإنسانَ كلَّه ، متدخّلا في نشدانه الحبَّ كي ينقِّيَه ، مشرِّعاً له ، في الوقت عينه ، أبعادا جديدة . هذه الجدَّة في الإيمان البيبليّ تظهر بخاصّة في نقطتين جديرتين بالإشارة إليهما : صورة الله وصورة الإنسان .

ما جمعه الله لا يفرّقه إنسان ... أي أنّ كلّ حبّ أصله من الله . بالنسبة ليسوع أنّ ما يوحّد الرجل والمرأة هو الحبّ . وهذا الحبّ يأتي من الله (الحبّ النازل أو المتنازل - المعطاء) .  والمشكلة الأساسيّة هي أن نعرف ما يعني ذلك : أي معنى " حبّ الله " . فالتاريخ مليء بالتفاسير المختلفة حول ذلك .  بالنسبة ليسوع ، يمكننا أن نتعرّف على أنّ الحبّ قادم من الله ، لإن ليس من قوّة بشريّة أقوى منه ، وهذه هي خبرتنا اليوميّة . فمهما كانت الصعوبات أمام الحبّ ، لا يغلبه شيء . قد يستطيع الناس أن يمزّقوه ، أن يتباغضوا ، أن يتحاربوا بعضهم بعضا ، لكن يبقى الحبّ  لا يطاله شيء . لذا يعلن العهد القديم " الحبّ أقوى من الموت " ، وقيامة يسوع ، كاشفةٌ لمحبّة الله القديرة واللامتناهية للعالم وللبشريّة جمعاء .

في قصّة " مجنون ليلى "  ، التي أحَبّها قيس ، وقال فيها شعرًا ، فغضبَ أبوها وأزوَجَها لغيره ، فهربَ قيس إلى الصحراء ، وعاش بين الحيوانات عاريًا وحيدًا دون أمل ٍ ودون خوف من خطر ، هامَ على وجهه فسمّوه " مجنون ليلى " مجنون يصرخُ للريح أشعار حبّه . وقد كتب الكثيرون عنه . يقول الشاعر سعدي (المتوفّى سنة 1250 م) " طلبَ الملك أن يراهُ لكي يكشفَ له قيس عن (سرّ حبّه ) فأجاب : " لو أنّ الذين يعيروني رأوا جمالَ ليلى ، لغفروا لي وفهموني (.....)  " . فطلبَ الملك أن يأتونه بليلى كي يراها فأصيبْ الملك بخيبة عندما قرأ أفكار الملك وقال له : " أنك لا ترى جمال ليلى لأنّك أعمى .. ما العمل ؟ يجب أن تراها بعيني أنا .

هذا هو الحبّ ، الحقيقة التي لا يطالها عقل أكبر الحكماء . ولقد قال القدّيس بولس الرسول حول حبّ الله : " إنّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالةٌ ، أمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله .... " 1 كورنتوس 1 : 18 .  لاهوت الحبّ ، هو لاهوت المسيح الحقّ ، لاهوت المحبّة المتنازلة ، لاهوت التخلّي وإفراغ الذات ، إنه لاهوت " التجسّد " ؛ وعلينا ، إن أردنا أن نعيشَ الحبّ الحقيقيّ والأصليّ ، أن نعيشَ سرّ التجسّد وسرّ الصليب . يتبع