في الواقع ، التجّلي هذا يشيرُ إلى ما وراء الحدث نفسه ، إلى القيامة الأخيرة من بعد آلامه وموته ، لإنّ ما قبل نصّ التجلّي ، هناكَ ذكرٌ لآلام ابن الإنسان وحمل الصليب ... إلخ . ، والقدّيس أفرام السريانيّ يقول ، أنّ في هذا التجلّي البهيّ ، يتكيّف المجد الإلهيّ تكيّفا متواضعًا مع قدرة التلاميذ على تقبّله ..

والعلاّمة القدّيس أوريجانوس يقدّم لنا بعض التفاسير الجميلة ويقول: لماذا ستّة أيّام ؟ في ستّة أيّام ٍ ، خلق العالم بأسره ، أي تلك التحفة الفنيّة الكاملة، وأظنّ أنّ مَن يتجاوز كلّ أمور العالم ، لا ينظرُ إلى ما يُرى ، لإنه وقتيّ ، بل إلى ما لا يُرى ، لإنه أبديُّ . وهذا واضح من كلام النصّ : وبعد ستّة أيّام أخذ معه بعض الأشخاص . فإن شاءَ أحدُنا أن يُمسكَ به يسوع ويُصعده إلى الجبل المرتفع ، وأستحقّ أن يرى تجلّيه على انفراد ، فعليه أن يتجاوزَ الأيام الستّة ، لإنه لم يعد ينظر إلى ما يُرى ، ولم يعُد يحبّ العالم وما في العالم .

كثيرًا ما يستوقفُ اهتمام المؤلّفين المسيحيين الأوائل برمزيّة الأرقام ، القرّاء المعاصرين وكأنه شيء غريبٌ أو مفروض على النصّ . لكن ، كما يُعلّق A . Quacquarelli ، فليس هناك زمن مؤلّف مسيحيّ مُبكّر إلاّ ويذكر ، مباشرة أو بشكل غير مباشر ، رمزيّة الأرقام . فأوغسطين ، على سبيل المثال ، يؤكّد أنّ الأوجه الصوفيّة والمجازيّة للكتاب المقدّس تبقى سرّا بالنسبة لغير المُطّلعين على لغة الأرقام . هذا الإهتمام بالأرقام كان جزءًا لا يتجزّأ من ثقافة ذلك العصر وهو لا يقتصرُ على آباء الكنيسة . : إن ثني الأصابع أثناء العدّ أنتجَ صورًا أعطت الأرقام الإنجيليّة قيمًا مؤكدة . المثال النموذجيّ هو المائة ( شهيد) ، والستّون ( أرملة) ، والثلاثون ( المتزوّجون) من مثل الزارع . . التمثيل الرقميّ للمائة (تكوّنت دائرة بواسطة الإبهام الأيمن والسبّابة ) طوّرت صورًا أصبحت تتويجًا للشهادة . فرمزيّة الأرقام هي جزءٌ لا يتجزّأ من الآبائيّات ، ويجبُ درسها لكي تُفهَم طريقة البحث القائم على ثقافة العصر ، فلاهوت الآباء لم يسعَ إلى عزل نفسه عن التفكير الشعبيّ .

يقول القدّيس أوغسطين بخصوص عدّ الأياّم : إذا أهملنا حسابَهم لليوم الذي تكلّم فيه يسوع هذا الكلام ، ولليوم الذي عرضَ فيه ذلك المشهد الجدير بالذكر على الجبل / فقد نظروا إلى مجرّد الأيّام المتوسّطة ، واستعملوا التعبير (بعد ستّة أيّام ) . لكن لوقا يُدخِل في حسابه اليوم الأخير في كلّ من الطرفين ، أي اليوم الأوّل واليوم الأخير ، فيجعله " بعدَ ثمانية أيّام " وفقا لتلك الطريقة التي يوضع فيها الجزءُ بديلا للكلّ . إن لوقا الإنجيليّ ، يذكرُ " اليوم الثامن " لوقا 5 : 28 ... ليقول لنا : إنه اليوم الثامن الذي فيه تمّ هذا الحدث الذي يُنبئ بالقيامة التي تتمّ أيضا في اليوم الثامن _ الأحد من بعد سبت النور . . فمن يسمعُ كلام المسيح ويؤمن به ، يرَ مجد وبهاء المسيح في وقت القيامة
اليوم السادس هو إكتمالُ خلق الإنسان ، واليوم الثامن هو بدء الخليقة الجديدة في المسيح .. لهذا ، مرقس يذكرُ اليوم السادس ، ولوقا اليوم الثامنْ ، ومؤكّد أنّ هذا ليس تحريفا للنصّ أو كذبًا ، بل إنّ لكلّ إنجيليّ هدفا واضحًا محدّدا لما يريد أن يوصله إلينا وللعالم .

معلّمنا لوقا الإنجيلي أحصى اليوم الذي فيه أعلن الربّ وعده ويوم التجلّي ذاته، أمّا معلّمنا متّى فتحدّث عن الأيام الستّة ما بين اليوم الذي أعلن فيه وعده واليوم الذي تمّ فيه التجلّي. ولم يحدث هذا بلا هدف، وإنما كشف متّى البشير حقيقة يكمّلها لوقا البشير .

ماذا عنى يسوع عندما قال: "خذوا هذا دمي"؟

كان اليهود القدامى يحفظونَ الخمر لموائد العيد ، كعيد الفصح ، حين كانوا يؤدّون الشكر ( باليونانيّة eucharistein ) ، والتي منها اشتقّت كلمة ” افخارستيّا ” على أربعة كؤوس مقتسمة . والإنسان ، بالنسبة إلى الساميّين ، هو ” جسد ” وهو ” دم ” ؛ أي الحياة . فالكلامُ على الكأس لا يكمّل الكلام على الخبز ، وإنّما هو مرادف له . وفي ذلكَ الزمن ، كانت الكأس ترمزُ بسهولة إلى الموت ، والدم ” المسفوك ” يذكّر بالموت العنيف الذي كان نصيب الأبرار والأنبياء (متى 23 : 35 ) .