لتصحيحِ بعض المفاهيم التي تُدخلُ الشكّ في عقل الآخر وتُنخره نقول، الخلقُ ليس من الماضي السحيق، وحكاية كان يا ما كان، بل هو حاضرٌ ومستقبل.. ما معنى هذا؟. عندما يقول كاتب سفر التكوين اليهوي، في أوّل فصوله، "في البدء خلق الله السماوات والأرض..." ، علينا أن لا نَقع في التشتّت والتيهان والصدمة التي قد تدومُ طويلا، وتذهب بنا تصوّراتنا البدائيّة الى ماضٍ قديمٍ،كبدءٍ تأريخيٍ رقميٍ، وتراجع الزمن الى عمليّاتٍ حسابيًٍّة كبيرة، بحجّة أنْ كلمة (خَلَقَ) من ناحية قواعد اللغة العربية، تُحيلنا الى هذا المبدأ (خلق: فعل ماضي ناقص...). نقول: خلق الله، في الكتاب المقدس، لا دخلَ لها في قواعد اللغة والنحو والصرف والاشتقاق، والانسانُ العاقل وحتى صاحبَ النظريات العلميّة لا يمكن، مثلُ هذا الشيء أن يَعبـر عليه، دون أن يعيَ ويفهمَ ما قَصَدهُ الكاتب، إلا في حالة واحدة عندما يكون الله رياضياتٍ وحسابٍ أو منطقٍ رياضيٍ محضْ..!..

الاب فرانسوا فاريون اليسوعي يقول في هذا الصدد: "الخلقُ عند الله عملٌ بسيط، خذوا هذه الكلمة بأدقّ معانيها وأقربُها الى الاشتقاق. البسيط هو غير المركّب، والعمل البسيط هو الذي لا يُمكن تقسيمَه الى عملياتٍ متتاليةٍ، ففي الصُنعِ، عملياتٍ متتاليةٍ، ففي صنع الفستان مثلا، يُقصّ القُماش أولا، ثمّ يخيّط ويزّين ويُطرّز، أمّا في حالة الخلق فنكونُ أمامَ عملٍ بسيطٍ لا تركيبَ فيه، ولا تعاقبَ عملياتٍ، فهو عملٌ لا يجزّأ".

قُلنا من البداية، أن الله لا زمن له، فهو يعلو الزمنَ وجميعَ الابعاد الكونيةَ الأخرى، ولا يوجد عنده لا تحت ولا فوق، ولا يمينٍ ولا يسارٍ، (وصيغة: وجلس عن يمين الله، لها معنىً لاهوتي آخر)، إنه جميع هذه الأبعاد ونقولها (بالمقايسة طبعا).

معنى الخلق في الكتاب المقدس، يجب توضيحه بشيءٍ من المنطق، لكنْ لا منطقُ العلماءِ وأصحابَ العقول المتزمّتة، بل بمنطق الله الخاص والسرّي، منطق واقعيّ يعيشُ مع الإنسان تاريخيّا وانسانيّا. سرُّ الخلق، يذوب في كل ذرّةٍ من جسد الانسان. الفكر اليوناني يفكّر ويصوّر الجسد كأنه قبرًا للنفس، كما ذكر أفلاطون عندما قال (إن الجسد هو سجن الروح). لكن، في المسيحيّة، الجسدُ هو كيانُ الانسان كاملا، فعندما يخلقُ الله الانسان، فإنّـه يخلُقه كلّه، لا جُزّءا منه، ويذوبُ في جميع أبعاده الكيانيّة، في عقله وروحه ونفسه وجسده، فهذه كلها تُصبح على صورة الله، على صورة عقله وحبّه الواحد.

لنتوقف قليلا، ثم نعودُ مرّة أخرى، الكثيرُ منّا يتصوّر، أن سفر التكوين، هو السفر الأول المكتوب في الكتاب المقدس، ثم يأتي بعده سفر الخروج، على أساس الترتيب المنطقي للكتاب المقدس. لكن في الحقيقة وتسلسل الاحداث المنطقيّة، الأمر معاكسٌ، إن سفر التكوين كُتب على ضوء سفر الخروج من مصر، ولا يَفهمُ الكتاب المقدس والذين عاشوا في ذلك الزمن، الأرض والمسارات وما فيها كطبيعة كونيّة، كما نفهمها الان، بل كخليقة، خليقة الله.

يتبعُ

هل الإيمان "علم سيء"؟

يميل البعض إلى تصنيف الإيمان الى جانب “العلم السيئ” أو “العلم البدائي”. فتنقسم الصورة عامودياً: السذج يختارون الإيمان فيما يختار الأذكياء العلم. 
حسنا، في الواقع، أقل ما يمكننا القول أن في هذه الصورة الكثير من المغالطات. فالإيمان ليس شيئا يقع تحت عتبة العقل و هو لا يمكن أن يكون تلك القيمة التي تعجز عن مخاطبة العقلانية … إنما الإيمان هو استسلام على الجانب الآخر من المنطق، قفزة فوق المكان الذي ينيره العلم. وكم من العلوم تطورت بسبب إيمان بعض العلماء بنظريات غير ملموسة أدى إيمانهم بها الى الإنطلاق الى أفق أوسع في عالم العلوم. 

نسمع في بعض الاحيان أن الله يعاقب بعض الشعوب الخاطئة من خلال الكوارث الطبيعية. ما هو موقف الكنيسة الرسمي فيما يخص الكوارث الطبيعية؟

للجواب على هذا السؤال المهم يجب أن ننطلق من الكتاب المقدس. كما نعرف الكتاب المقدس ليس “كتاب الأجوبة الجاهزة”. وهو لا يقدم نظرة واحدة حول المسائل بل يقدم بالحري مسيرة نحو نضج أكبر وأعمق يؤهلنا لِفَهْم منطق الله وفكره، أو أقله الاقتراب منه. فبينما نرى في الأسفار الأولى نظرة تبين وكأن الله يرزق من يرضيه ويعاقب من يخالف وصاياه. راجع مثلاً خُبُرات شعب إسرائيل، وبتحديد أكثر: قراءة إسرائيل لتاريخه. ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أن الكتاب يروون أنه عندما يبتعد الشعب عن الله تصيبه النكبات، بينما عندما يتوب ويعود إلى الله تعود عليه الأيام بالخير.