يقول الأب صفروني سخاروف :" موجعةٌ هي الطريق المؤدّية إلى إمتلاك الحبّ المقدّس . أليست هي السبب في أن أكثر المسيحيّين ابتعدوا وتغرّبوا عن المسيحيّة وعن درب الصليب واتّبعوا طرقا أخرى ؟ لكن ليس هناك من " حقيقة " أخرى كما أنه لا يوجد أيّ إله آخر " .
عالمنا اليوم يسحره كلّ ما له علاقة بــ" الخفائيّة " و " الباطنيّة " . إنه متعطّش إلى الروحانيّات ، إلا أنّ الدين لم يعد يشفي غليله ، وصار الدين ، من وجهة نظره ، خرفة بالية وموضة قديمة تآكلتها السنون .
قبل أن نرى الفروقات بين الإيمان المسيحيّ والعلوم الباطنيّة ، لنرى ، ولو بصورة مختصرة ، ماذا تعني العلوم الباطنية ؟
هل كلّ معرفة خفيّة مستترة ما ورائيّة ، تكشفُ عنها " علومٌ " تدّعي إمتلاكها هذه المعرفة وبالتالي الحقيقة المخُلّصة والمؤلّهة . ترتبط بها مواضيع لا حصرَ لها مثل العرافة والتنجيم ، والأرواحيّة ، والكابالا ، والعلوم الباطنيّة ، الهرمسيّة ، والتيوزوفيّة ، واليوغا والتأمّل التجاوزيّ ، والعلاج بالطاقة وكلّ وسائل الطبّ البديل .. تحاول الباطنيّة والخفائيّة التواصُلَ والوجودَ " اللامرئيّ " ، بهدف اقتناء معرفة " إضافيّة " خارج الحواس ، للإرتقاء إلى مستويات أسمى من الوعي ، وبلوغ الخلاص والسعادة والخلود حلم الإنسانيّة القديم .
لماذا يلجأ البعض إلى العلوم الباطنيّة (خصوصا من المسيحيّين ) ؟
1 - بحث الإنسان الدائم وتوقه إلى الروحانيّات (إنها روحانيّات بديلة بعكس ما زرعه فينا الله في عمق القلبْ ) ، فلقد اتخذ الإنسان لنفسه طريقا خطأ أو سار في إتجاه منحرف .
2 -إفتقاده إلى المرجعيّة والإنتماء الفعليّ ( إفتقاده إلى العاطفة والإهتمام والدعم المعنويّ ) .
3 - تعطّش الإنسان إلى المعرفة (خصوصًا تلك المخبّأة والمستورة ، واهتمامه بكلّ ما يبهر وبكلّ ما هو غريب عجيب ، هربــــًا من الملل والروتين الذي يأسره .
4 - جهل غالبيّة المسيحيّين تعليمَ الكنيسة المقدّسة ، واللاهوت المسيحيّ بشكل عام ، وأهميّة الحياة الكنسيّة والصلاة ، وأخذهم بمعتقدات شعبيّة أو باعتقادات خاطئة متداولة ، أو بممارسات محظورة وبأشكال عديدة من " التطيّر " . والجهل أيضا بتعاليم الكتاب المقدّس والليتورجيّا ، وعدم الإلتزام الكنسيّ ، وعدم تناولهم للقربان المقدّس .
5- الخوف من العقاب والدينونة ( هذا ما يدفع الكثيرين إلى الإعتقاد بالتقمّص كحلّ ومخرج لائقَين لهم ، كذلك الخوف من الألم والمرض والموت بشكل عام ) .
6- تقصير بعض الرعاة في القيام بدورهم في المفترض في الكنيسة . الكنيسة أمٌّ ومعلّمة ، ولا يمكنها أن تُهمِل أبناءها . وإن أهملت الكنيسة أبنائها في حثّهم على التربيّة والتنشئة المسيحيّة واللاهوتيّة ، من المؤكّد أن ينجرفوا إلى أشكال ٍ مختلفة ومنحرفة عن إيمان الكنيسة .
الباطنيّة هي سعيٌ للمعرفة الإلهيّة الكونيّة الشاملة ، وبمساعدة " المعلّمين الحكماء " ، وبجهودهم الشخصيّة بمعزل عن " النعمة " ، يسعون إلى هذه المعرفة ، بواسطة مفاتيح ورموز وألغاز . الكنيسة تحثّ أبناءها إلى معرفة وعيش الإتحاد بالمسيح ، في محبّته الإلهيّة التي ظهرت في التاريخ ، ومن خلال تناول جسده المقدّس . من هذا الإتحاد ، ندخل ، وقد تحوّلنا بعيدًا عن الباطنيّات والألغاز ، إلى كنوز الحكمة والعلم في شخص الربّ .
يقول كتاب التعليم المسيحيّ الكاثوليكي للشبيبة (youcat) 356 :
كثيرونَ يمارسون اليوغا لأسباب صحيّة . ويشتركون في دورات حول التأمّل التجاوزيّ لينالوا الهدوءَ ويستجمعوا الأفكار ، أو يكتتبون في أندية رقص ليكوّنوا اختبارا جديدا لجسدهم . هذه الممارسات والإتجاهات لا تخلو من الضرر . بعضها ينقل تعليمًا غريبًا عن المسيحيّة .
في رأي العلوم الباطنيّة ، لا رجل الدين ، ولا رجل العلم يملكان الحقيقة . وحدها " العلوم الباطنيّة تملك الحقيقة ، لأنها تؤمن بـ " طريقة التجربة والبرهان "، كما كان الإنسان الأوّل يُدرك أن الله موجود ، إدراكا بديهيّا وشعوريّا لأنه " كان يملك القدرة على الإتصال بالخالق متى شاء " . الآن لنرى بعض الفروقات بين الإيمان المسيحيّ وبين العلوم الباطنيّة ...
الله ، في الإيمان المسيحيّ : خالق كلّ شيء ، الذي يُرى والذي لا يُرى ، ليس حالا في مخلوقاته ، له طبيعة إلهيّة غير مخلوقة ، ثالوث قدّوس ، منزّه وسام ٍ، يدخل في علاقة شخصيّة لا ذوبان فيها بالإنسان المخلوق على صورته ومثاله ، الذي خلقه بمحبّة ويحترم حريّته. أما الله ، في العلوم الباطنيّة : طاقةٌ كونيّة - ذاكرة كونيّة - العقل الكليّ - روح كليّة فاضت في الإنسان - ذبذبات وعي - حالٌ في مخلوقاته - جوهره من جوهر الإنسان - ليس ثالوثا قدّوسا - الله والإنسان في علاقة ذوبانيّة لا هويّة شخصيّة فيها - إله لا علاقة له بخلاص الإنسان - الله ليس في خلق مستمرّ قد ازدوج في المادّة وتثلّث في الإنسان .
الثالوث القدّوس ، في الإيمان المسيحيّ : إلهٌ واحد في ثلاثة أقانيم متساوية في الجوهر - التعدّد في الوحدة والوحدة في التعدّد - أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس . أما في العلوم الباطنيّة ، الثالوث القدّوس فيه : ربّ الوجود - بذرة الحياة أو الحياة الأمّ والإنسان .
الروح القدس ، في الإيمان المسيحيّ : أحد الثالوث القدّوس - واهب النعم ، المعزّي ، روح الحقّ . أما في العلوم الباطنيّة ، هو الذات العليا في الإنسا ن وليس أقنومـــا إلهيّا في الثالوث ، أو أسمى مراتب النفس العليا في الإنسان .
يسوع المسيح ، في الإيمان المسيحيّ : أقنوم الإبن في الثالوث القدّوس ، مساو ٍالآب في الجوهر ، نور من نور ، إله حقٌّ من إله حقّ ، مولود غير مخلوق . أما في العلوم الباطنيّة فهو : إنسان مخلوق ، بلغ الكمال وصار إلها بجهوده الشخصيّة بعد ولادت متعدّدة فأتى إلى الأرض في مهمّة لإرشاد الناس إلى العلوم الباطنيّة ، هو أحد أجسام الإنسان الباطنيّة ، هو أحد الحكماء الآلهة .
الخطيئة ، في نظر الإيمان المسيحيّ : الجميع أخطأوا ، وأعوزهم مجد الله ، سقط آدم بالعصيان ويخلص الإنسان بالطاعة اقتداءً بالربّ يسوع . في العلوم الباطنيّة : لا خطيئة ولا دينونة أخيرة . إختار آدم وحوّاء درب الوعي والتطوّر بفعل دراية ٍ وحكمة : تتمّ " تسوية " الخطيئة بميزان الأفعال .
الخلاص في نظر الإيمان المسيحيّ : بالإيمان بالربّ يسوع المسيح إلها ومخلّصا ، الخلاص بدم المسيح الذي بذل نفسه من أجل خلاص العالم ، وهو عطيّة مجانيّة من حقّ كلّ مؤمن . أما في العلوم الباطنيّة : الإنسان يخلّص نفسه بنفسه من خلال سلسلة من التقمّصات وصولا إلى الإتحاد بالذوبان في الألوهة ، النعمة الإلهيّة غير موجودة . رفض سرّ الفداء بالمسيح الذي لم يفتد الإنسان بل تألم لكي يعطيه مثالا فيتألم مثله ليخلّص نفسه بنفسه ، والخلاص ليس للجميع بل فقط " للنخبة " العارفة .
الحرية ، في نظر الإيمان المسيحيّ : هي في المسيح " الطريق والحقّ والحياة " . الإيمان العامل في المحبّة . المسيح هو الحقّ وبه نعرف الحقّ ، والحقّ يحرّرنا . أما في العلوم الباطنيّة ، هي التي تمنح المعرفة الباطنيّة ، يبلغها الإنسان بجهوده الخاصّة سيرًا على دروب الباطنيّة . هي في تحرّر الإنسان من الحياة الأرضيّة وفي تحرّر الروح من التقمّصات .
موضوع العلوم الباطنيّة ، من وجهة نظر الإيمان المسيحيّ طويلا جدّا ولا يسعنا نشره كاملا ، قد يكون في المستقبل بنعمة الربّ