كثيرونَ من المعاصرين يتباهونَ بأنّهم لا يعالجونَ المسائل ، وفق تعبيرهم ، بأسلوب عقائديّ ، بل بأسلوب عمليّ . للفظة ِ" عقيدة " ، صدىً سلبيّ لدى الكثيرين ؛ فهي توحي بالجمود والفكر الضيّق وبما يناقض الحريّة ، وتذكّر بمحاكم التفتيش والحروب الدينيّة وإكراه الضمير . لكن ، حريّة الفكر والقول والبحث وحريّة الضمير والحريّة الدينيّة  (وهناك قسمٌ كبير في وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثاني حول الحريّة الدينيّة )  تعتبر اليوم بحقّ في الكنيسة أيضا قيمًا عليا . ويرى غيرُ واحد أن قد أتى اليومَ زمنُ مسيحيّة ٍ غير عقائديّة وموجّهة ٍ توجيهًا  عمليّا

الحريّة سريعًا ما تتحوّل إلى نزوة أن لم تبقَ موجّهة ً صوبَ الحقيقة . نعم ، الحقيقةُ وحدها هي التي تُحرّر (يوحنا 8 : 32 ) . اليوم كما في كلّ الأزمان تصحّ وصيّة يسوع بالإعتراف الصريح والجريء : “ كلّ من يعترفُ بي قدّام الناس أعترفُ به أنا أيضا قدّام أبي الذي في السماوات ، وأمّا من ينكرني قدّام الناس فإنّي أنكره أنا أيضا قدّام أبي الذي في السماوات " متى 10 : 32

هذا الإعتراف ، هو مسؤوليّة كلّ المسيحيين . ولكي يكون هذا الإعترافُ صريحًا ، لا بدّ من وجود وحدة في الإعتراف . لا شكّ في أنّ الشقاقات والتحزّبات قد انتشرت في الكنيسة منذ بدايتها . لذلك ، نقرأ في عدّة مواضع من العهد الجديد تحريضا على الوحدة :  1 كور 1 : 10  ، أفسس 4 : 3 – 6 

لاريب في أنّ وحدة الكنيسة في الإيمان لا يمكن ، ولا سيّما في النظرة المسكونيّة الراهنة ، أن تعني " نمطا واحدًا ولونا واحدًا " ، بل هي وحدة في " تعدّد طرق الكرازة " ، وصيغ العبادة ، واللاهوت ، والتنظيم الكنسيّ " . ولكن ألا  يجبُ أن تكون أيضا وأوّلا وحدة ً في الحقيقة ؟

التعدّد المشروع يجبُ تمييزه من التعدّد في تعابير إيمانيّة متناقضة . في تعدّدية ٍ تنمو بدون حدود وبشكل ٍ عشوائيّ لا يعودُ هناك أيّ معنى للبحث عن الوحدة والسعي إليها . وفي وضع كهذا ، لا يمكنُ بعد أن يجتمع المسيحيون للعبادة ولا أن يتلوا معًا قانون الإيمان .  إذن ، متى فقدت المسيحيّة وضوحها فقدَ الإيمانُ أيضا صدقيّته . لذلك يجبُ علينا أن نشكر لله نعمته علينا بإنه يقود كنيسته بالروح القدس إلى عمق الحقيقة في وسطَ غموض مُضلّل ومُدمّر ، وإنه يفعلُ ذلك من خلال البشر وبطريقة بشريّة .

إذن ، ما هي العقيدة ؟ ليست ملحقا يضاف إلى الإنجيل الأصليّ ، ولا هي وحي جديد ، بل هي تفسيرٌ للوحي الواحد الذي وافانا مرّة وإلى الأبد . يقوم به المسؤولون في الكنيسة ويُلزِمُ الكنيسة كلّها ، وذلك في معظم الأحيان لتحديد الوحي ضدّ تأويلات ٍ ضالّة وناقصة ومشوّهة . لذلك تتّسم العقيدة بسمتين : فيجبُ أوّلا أن تتعلّق بحقيقة ٍ هي من مضمون الوحي وجامعة ... ويجبُ ثانيًا أن يعرضها المسؤولون في الكنيسة عرضا نهائيّا ومُلزمًا للجميع . والكنيسةُ ، بفعلها هذا ، لا تعتمدُ على ذاتها وفكرها الذاتيّ ، بل على حضور يسوع المسيح الدائم وعلى مؤازرة الروح القدس ، الذي وُعدت بأنه سيقودها إلى الحقيقة كلّها .. يوحنا 16 : 13  

تجلّي يسوع … عند مرقس ومتى (ستّة أيّام ٍ ) ، وعند لوقا (ثمانية أيام) … هل هناك تناقض، أم ماذا؟

الكلّ الآن ، على الأغلبْ ، عرفَ معنى تجلّي الربّ يسوع على الجبل … لكن ، الكثيرونَ يقفون حيارى أمام قضيّة الأرقام في الإنجيل … ! فهنا سنرى ما معنى ” الستّة أيّام ” التي من بعدها أخذ يسوعُ الثلاث تلاميذ معه على جبل ، على إنفراد وتجلّي بمرأىً منهم ..!

الإنسان أمام الله.. التخلّص من مأزق العقل الفلسفي المجرّد (8)

لنلقيَ النظر قليلا كخاتمة لهذه الفقرة من شذراتنا لبعض ما قاله وذكره اللاهوتي الالماني اللامع فالتر كاسبر، يذكر هذا الكاردينال ، أن المؤرّخ، لا يضيف إضافةً لاحقةً الى التاريخ سؤالا يوجّه صوب بعدٍ، يجيب فيه اللاهوتي بالاعتراف بالله ربا للتاريخ، لكن التاريخ ذاته، هو من يطرح هذا السؤال. وأن المقصود ليس جوابا يدلّ على المعنى، ولا برهانا على الله إنطلاقا من التاريخ. إذن، ليس المقصود محاولة نعت أحداث تاريخية خاصة بافعال الله، أو حكم الله، وهذه المحاولة تتجاوز كثيرا قدرات المؤرخ الذي ليس هو بنبيٍّ.. المقصود هو، أفق مسائل، في هذا الأفق التاريخ موجود حتما دائما وبه يتحرك، وبدونه يستحيل فهمه.