إن فرحة إعلان قداسة الشهداء المسابكيين الثلاثة فرنسيس ورفائيل وعبد المعطي (والرهبان الفرانسيسكان الثمانية)، ترتبط دومًا بأحداث أَليمة في شرقنا، وذلك ليس بصُدفة:
١- استشهدوا في أحداث ١٨٦٠: كانوا من اللامعين في مجتمعهم أيام السلطنة العثمانية، التي كانت تتعامل مع حالة الإنقسام الطائفي الحاد بارتباك، أدّى إلى تدخل الدول الأوروبية وقناصلها، فدعمت المسيحيين في المنطقة، الذين دخلوا المدارس وتعلموا اللغات الأجنبية، فازدادت تعاملاتهم التجارية مع الخارج، وأصبحوا فاحشي الثراء (خاصة في بيروت ودمشق). واقترحت الدول تقسيم لبنان إلى مقاطعتَين (نظام القائم مقاميتَين) فكانت الطريق التي تربط بيروت بدمشق هي الحد الفاصل بين المقاطعة المسيحية والمقاطعة الدرزية. هذا التقسيم زاد من وَقع الأزمة التي تحولت في سنة ١٨٦٠ إلى فتنة مؤسفة بين المسيحيين (خاصة في جبل لبنان) من جهة، والدروز والمسلمين من جهة أخرى. امتدت هذه الأحداث إلى مناطق واسعة في سوريا، خصوصًا في دمشق. لقد كان المسيحيون الأثرياء في دمشق يزيدون ثراء بسبب براعتهم في التجارة، وتعاملهم من خلال الموانئ البحرية مع الغرب (الذي كان يمر في ازمة اقتصادية وكساد مواسم الحرير)، وكان الوالي العثماني يستدين من المسيحيين مبالغ كبيرة، وكثير من المسلمين يبيعون املاكهم للمسيحيين. كان لشرارة الفتنة الطائفية التي حصلت في لبنان وقعها على مدينة دمشق: ثار جميع المتضررين من الوضع القائم آنذاك، وهاجموا الحي المسيحي (باب توما)، فارتكبوا مذبحة رهيبة كانت قمتها في ليل ١٠-١١ تموز ١٨٦٠. كان فرنسيس مسابكي (متزوج وله ثمانية اولاد) من أغنياء دمشق، تاجر حرير، وقد أَدان والي دمشق العثماني مبلغا كبيرًا من المال. كان أخواه رفائيل (عازب) وعبد المعطي (متزوج وله خمسة أولاد) مع أخيهما الأكبر في عمله وجهده، وكان الإخوة الثلاثة من الملتزمين بعمل الخير وملازمة الكنيسة والصلاة (ومن أبنائهم من صاروا كهنة وراهبات)، فكان نجاحهم في حياتهم الروحية، وعملهم، ومجتمعهم، سببًا أساسيًّا ليأتي مُنفّذو المذبحة ويطلبونهم بالإسم من بين المسيحيين الذين اختبأوا في تلك الليلة المشؤومة في دير الفرانسيسكان في دمشق. فنالوا إكليل الشهادة عندما طلب منهم المهاجمون نكران إيمانهم المسيحي حتى يَسلَموا من القتل، فما كان منهم إلا أن أعلنوا ثباتهم في الإيمان واستشهدوا مسيحيين مع ثمانية من الرهبان الفرانسيسكان.
٢- أُعلنتهم الكنيسة طوباويين (سنة ١٩٢٦) خلال أحداث الثورة السورية الكبرى (١٩٢٥-١٩٢٧): في تلك الفترة، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، تم تطبيق إتفاقية سايكس- بيكو، التي سمحت بموجبها لفرنسا بالسيطرة على سوريا ولبنان، فكان الإنتداب الفرنسي سنة ١٩٢٠. قسم الفرنسيون المنطقة التي سيطروا عليها إلى دويلات، ما جعل الكثير من الزعماء في سوريا ولبنان يُقدمون سنة ١٩٢٥ على الإنتفاضة في وجه الفرنسيين تحت لواء سلطان باشا الأطرش، فكانت المعارك في كل المنطقة، تسببت بمذابح كثيرة، ودفعت بالفرنسيين إلى إعدام الكثير من الوُجهاء في سوريا ولبنان. وفي سنة ١٩٢٦، في عز الحرب والإنتفاضة، أعلن الفاتيكان الشهداء فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي طوباويين.
٣- أعلنتهم الكنيسة قديسين في وسط كل الأحداث الأليمة التي تعصف بالشرق الأوسط في هذه الأيام: لن نُطيل الشرح التاريخي هنا، لأن أحداث هذه الأيام نعرفها وتؤلمنا، ونحن نعيشها اليوم في لبنان وسوريا وفلسطين وكل الشرق الأوسط، وفي وسطها يأتي إعلان قداسة المسابكيين…
الشهداء المسابكيين هم شفعاء شرقنا… يمكننا أن نسمع السؤال التالي في معرض كلامنا عنهم: “لماذا نبش القبور والكلام عن الفتنة الطائفية واستشهاد المسابكيين؟ ألا يكفينا ما جرى؟” يأتي الجواب كالتالي:
– لن نتعلم ولن نبني اوطاننا على أساس التسامح والعيش المشترك إلا إذا قرأنا التاريخ، وتعلمنا من مآسيه دروسًا للمستقبل.
– مع المذبحة التي نفذها الثوار آنذاك بتواطؤ والي دمشق العثماني، كان هناك الكثير من الزعماء المسلمين (منهم عبد القادر الجزائري) الذين حموا المسيحيين في بيوتهم وحافظوا عليهم في موقف إنساني كبير يُبنَى عليه اليوم…
– إن قول الحقيقة والنقاش بها هما المدماك الأول في بناء الغفران والمسامحة والسلام في وطننا.
– إن استشهاد المسابكيين في ١٠ تموز ١٨٦٠ هو علامة مشرقة في هذا الشرق. هو درس لنا جميعًا، من خلاله نتعلم كيف علينا أن نتجذّر في شرقنا، وأن ننفتح على الآخَر بدون خوف، وأن نكون شعبًا واحدًا يحترم الإنسان وينبذ التعصب والقتل.
في قلب أزمة ابراهيم، جاء الملائكة الثلاثة ليُبشّروه بقرب نهاية مشكلته، إذ سوف يكون له ولد من سارة امرأته.
في قلب ازمة النبي دانيال في قصر نبوخذ نصر مَلك بابل، كان معه الفتية الثلاثة الذين رفضوا السجود للملك ونزلوا إلى قلب النار ليشهدوا لإيمانهم ويكونوا علامة رجاء للشعب المَسبي.
وفي قلب أزمة شرقنا، استشهد المسابكيون الثلاثة ليقولوا لنا بأن نهاية آلامنا آتية، وسنبقى هنا شهودًا لإيماننا ولحب المسيح، ومعهم سنكون علامة رجاء لشرقنا المسبي.
فيا أيها الشهداء المسابكيون القديسون: نناديكم بالدموع! إشفعوا بشرقنا الجريح واطلبوا لنا السلام! آمين.