رسالة الاباتي سمعان أبو عبدو بمناسبة عيد مار أنطونيوس الكبير أبي الرهبان

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

روما، الاثنين 18 يناير 2010 (zenit.org). – ننشر في ما يلي رسالة الاباتي سمعان أبو عبدو الرئيس العام للرهبانية المارونية المريمية في حفل تجديد النذور الرهبانيّة بمناسبة عيد مار أنطونيوس الكبير أبي الرهبان

 

” اليومَ، في عيدِ مار أنطونيوسَ الكبير أبينا، نجدَّدُ عهودَنا للربِّ كما في كلِّ سنة، مُتوّقفينَ للتأمّلِ والاقتداءِ بشخصيّةِ صاحبِ  هذا العيد أبي الرهبان وكوكبِ البريّةِ، هو الذي استهواهُ جمالُ وجهِ الربِّ، فتركَ العالمَ وراحَ يبحثُ عن ” الضروريِّ الأوحدِ” في عزلةٍ وصلاةٍ وعملٍ وتأمُّلٍ.

          مع أنطونيوسَ تتحوَّلُ الصحراءُ المُقْفِرَةُ واحاتٍ للعبادةِ والصلاةِ والمحبَّةِ، يحرِثُها تلاميذُ أنطونيوسَ فتُنبِتُ القيمَ المسيحيَّةَ والإنجيليّةَ والرهبانيّةَ الخالدةَ، محققينَ دعوةَ المسيحِ لهم، ساعين لعيشِ المشوراتِ الإنجيليّةَ: العفَّةِ والفقرِ والطاعةِ.

          تكمنُ عظمةُ أنطونيوسَ في أنَّهُ كانَ الأرضَ الخصبةَ لحبّاتِ الحنطةِ التي وقعت فيها فأثْمَرَتْ غلالاً جمّةً. أجلْ، لقد شُغِفَ بكلمةِ الربِّ التي سَمِعَها ” إذا أردتَ أن تكونَ كاملاً…” (متّى19/16-22) فَزَهدَ بالدّنيا، وقَطنَ البراري والقِفارَ، واحتملَ البردَ والحرَّ، صارفاً حياتَهُ بالأمانةِ والتقشُّفِ، ناهجاً السبيلَ لنا ولجميعِ النسّاكِ والرهبان. ويبقى اسمُ أنطونيوسَ مثالاً لنا ولكلِّ الرهبانِ على مرِّ الزمانِ نوراً وعبيراً وظلَّ سماءٍ.

          إخوتي الرهبانِ!

          يتميَّزُ عيدُ أبينا القدّيس أنطونيوس هذهِ السنة بأنَّهُ يصادِفُ في السنةِ الكهنوتيَّةِ التي أقرَّها قداسةُ البابا بندكتُس السادِسَ عَشَرَ للاحتفالِ بِذكرى مرورِ مئةٍ وخمسينَ عاماً على وفاةِ شفيعِ الكهنة القدّيس جان-ماري فيانيه، المعروف بخوري آرس، وقد أعلنَ قداسةُ البابا هذهِ السنة سنةً خاصّةً للكهنةِ وذلك في عيد قلبِ يسوعَ الأقدسِ الذي وافقَ في التاسِع عَشَرَ من حزيران 2009، وهو اليومُ المكرَّسُ تقليديّاً للصلاةِ من أجلِ قداسةِ الكهنةِ.

وأرادها سنةَ صلاةٍ للكَهَنةِ وَمَعَهُم ولأجلِهم. سنةَ تجديدٍ للروحانيّةِ الكهنوتيّةِ وتجديدٍ لكلِّ كاهنٍ…

وشعارُ هذه السنةِ: “أمانةُ المسيحِ، أمانةُ الكهنة ” “Fidélité du Christ, fidélité du prêtre ”

وَهَدَفُها بحسبِ قداستِهِ هو المساهمةُ في تفعيلِ الالتزامِ لأجلِ التجدُّدِ الداخليِّ لجميعِ الكهنةِ حتّى تكونَ شهادتُهُم الانجيليّةُ فاعِلةً ومثمرةً في عالمِ اليوم.

أودُّ إخوتي أن نتأمَّلَ معاً في سرِّ الإفخارستيّا، مستندينَ إلى بعضِ أفكارٍ قيِّمةٍ وردَتْ في الإرشادِ الرسوليٍّ للبابا بندكتس السادسِ عَشَرَ وعنوانُهُ: “سرُّ المحبّة” ويتمحورُ حولَ سرِّ الافخارستيّا نبعِ وذروةِ حياةِ الكنيسةِ ورسالتِها، وقد أصدرَهُ في العام 2007.

صحيحٌ أنَّ القديسَ أنطونيوسَ لم يمارسِ الكهنوتَ، لكنَّهُ قدَّمَ ذاتَهُ قرباناً حيّاً يذوبُ كلَّ يومٍ فداءً عن البشريَّةِ كلِّها. كما كانَ يتأمَّلُ ويغرفُ من مائدةِ الكلمةِ التي كانَ يستنِدُ إليها، فيُغذّي نفسَهُ بالكتابِ المقدَّسِ ويتقدَّمُ يوماً بعد يومٍ في القداسةِ والكمالِ.

بمقابلِ ذلكَ، كان القدّيسُ جان-ماري فيانيه مُقتنِعاً بأنَّ حماسةَ الحياة الكهنوتية تعتمدُ على القدّاسِ، وفي هذا السياقِ يقول: ” إنَّ سببَ فتورِ الكاهن يكمنُ، مع الأسفِ،  في إهمالِ القدّاسِ الإلهي! كم أنَّ الكاهنَ جديرٌ بالشفقةِ عندما يقومُ بذلكَ كما لو كانَ شيئاً عاديّاً.”

وفي هذا الإطارِ، يفتَتِحُ قداسةُ البابا الإرشادَ الرسوليَّ “سرَّ المحبّةِ”، قائلاً: الإفخارستيّا المقدّسةُ هي العطيَّةُ التي فيها يُعطي المسيحُ ذاتَهُ مُظهِراً محبَّةَ اللهِ اللا محدودةَ لكلِّ إنسانٍ. في هذا السرِّ العجيبِ، يَظهَرُ “الحبُّ الأكبرُ” الذي يدفعُ إلى “إعطاءِ الحياةِ للأحبّاءِ”(يو15/13) (عدد1، ص3).

هو يحبُّنا للغايةِ ويُعطينا جسدَهُ ودَمَهُ بلا انقطاع. في الإفخارستيا يتحوَّلُ الربُّ غِذاءً للإنسانِ المُتَعطِّشِ إلى الحقِّ والحريَّةِ، وفي هذا السرِّ أيضاً يُظهِرُ لنا يسوعُ حقيقةَ الحبِّ الذي هو جوهرُ اللهِ بالذاتِ. “لذا، فسرُّ المذبحِ هو دائماً مركزُ الحياةِ الكنسيَّةِ. بفعلِ الإفخارستيّا تولدُ الكنيسةُ دوماً من جديد” (عدد6، ص11). ودعوني أقول معكم أنّ حياتنا الرهبانية والكهنوتية تعتمد بطريقة مميزةٍ على الإفخارستيا، ممارسةً وعيشاً.

يسوعُ في الإفخارستيّا يُعطي حياتَهُ كلَّها ويظَهرُ على أنَّهُ النبعُ الأوّلُ لهذا الحُبّ.

قبلَ أن يُسْلِمَ الروحَ، قالَ يسوعُ : “لقد تمَّ كلُّ شيءٍ.” (يو19/30).

نعم، في سرِّ طاعَتِهِ حتّى الموتِ والموتِ على الصليب (راجع فليبي2/8)، تمَّ العهدُ الجديدُ الأبديُّ، فيسوعُ هو الحَمَلُ الفِصْحِيُّ الذي قدَّمَ ذاتَهُ برضاهُ ذبيحةً عنّا مُتمِّماً العهدَ الجديدَ الأبديَّ.

“فالإفخارستيّا في ذاتِها، هي هذا الجديدُ الأصيلُ الذي يعرضُ ذاتَهُ علينا عندَ كلِّ احتفالٍ. (عدد9/ص15).

–         الوحدة والحياة في الإفخارستيا.

وبعدُ، فإنَّ ا الإفخارستيّا تمثِّلُ وحدتَنا في كلِّ مرّةٍ نأكُلُ فيها من الجسدِ الواحدِ ونشربُ من الدمِ الواحدِ. وكلَّما أقمنا ذبيحةَ القدّاسِ، تتولَّدُ فينا علاقةَ وحدةٍ قويّةٍ تشُدُّنا كنسيّاً ورهبانيّاً. وبهذا نستطيعُ أن نعيشَ ونفهمَ كيف أن
َّ الإفخارستيّا هي “سرُّ المحبَّة”.

إلى هذا، فالإفخارستيّا هي أيضاً سرُّ حياة: ” كما أنَّ الآبَ الحيَّ أرسلَني، وأنا أحيا بالآبِ، كذلكَ أيضاً من يأكُلُني يحيا بي” (يو6/57). في هذا الكلام، يؤكِّدُ لنا يسوعُ أنَّ من يأكلُ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد (يو6/51) .

إنَّ الحياةَ الأبديّةَ تبدأ فينا منذُ اليومِ، وفي كلِّ مرّة نتناولُ جسدَ المسيحِ ودمَهُ نصبِحُ شركاءَ في الحياةِ الالهيّةِ.

“فالمسيحُ يغذّينا إذْ يوحِّدُنا بهِ”، يجذِبُنا إليهِ. من هنا يظهرُ الاحتفالُ الإفخارستيُّ بكلِّ قِواهُ، كينبوعِ الحياةِ المسيحيّةِ وذروتِها، كما أنّه في الوقتِ ذاتِهِ بدءُ  و كمالُ العبادةِ الجديدةِ والنهائيّةِ (عدد 70 ص89). إذاً الإفخارستيّا هي التي تجدِّدنا وتعطينا الحياةَ أفراداً ورهبانيّةً.

دعوني أقول معكم أنَّ لا حياة رهبانية بدون وحدةٍ بين أعضائها ومع المسيح. ولا رهبانية بدون حياة تنبع من كلمة المعلم الألهي الذي دعى كل واحد منّا. وبهدي الروح القدس نعمل وتبق الرهبانية.

          إخوتي الرهبان!

          بعد أن اكتَشَفْنا مجدَّداً معنى الإفخارستيّا كسرِّ محبّةٍ وحياةٍ وفيها تكمُنُ قوّةُ الإنسانِ وحياةُ الرهبانيّةِ، أصبحَ من الطبيعيِّ أن نطرحَ بعضَ الأسئلة على ذواتِنا وحولَ إقامةِ الإفخارستيّا في رهبانيّتنا، من دونِ أن تغيبَ عنّا علاقتُنا بالمسيح الذي دعانا، ذلكَ “أنَّ مجدَ اللهِ هو الإنسانُ الحيُّ وحياةَ الإنسانِ هي رؤيةُ الله” (عدد71 ص100).

وبناءً على ما تقدَّمَ نسألُ: كيفَ نحتفل بالذبيحة الالهية ونعيشُ القدّاسَ يوميّاً؟

هل نحنُ بحاجةٍ إلى فهمٍ أعمقَ للعلاقةِ بين الإفخارستيّا والحياةِ الرهبانيّة اليوميّة؟

هل نعي فِعْلاً حقيقةَ دورِنا ككهنةٍ في الرهبانيّةِ المارونيّةِ المريميّة؟

هذا التشديدُ يأخذُ اليومَ معنىً خاصّاً بالنسبةِ إلينا جميعاً، فما هو دورُ الإفخارستيّا في حياتِنا الرهبانيّةِ، نحنُ الذينَ ندرسُ الفلسفةَ واللاهوتَ ونصبِحُ كهنةً ونعيشُ في أديارِ الرهبانية ونعملُ في مؤسّساتِها ورعاياها ورسالاتها؟

مثلُ السيدِ المسيحِ ونعمتُه هما اللذان يساعداننا على فحص الذات وعدم الركون الى دائرة التراخي أوالانغلاق.فهل نعمل على بناء علاقةٍ شخصية مع المسيح من خلال عيش سر الإفخارستيا؟ إنّ الكاهن الراهب يستمر كاهناً راهباً بمقدار نموه الانساني والروحي والرهباني وليس بالمركز أو السلطة أو المال. فإنَّ لا هويةَ للكاهن خارجاً عن المسيح.  

“إنَّهُ لأمرٌ ذو مغزىً أن يَدْعُوَ القدّيسُ بولسُ في الرسالةِ إلى الرومانيين (12/2) إلى الحياةِ بحسبِ عبادةٍ روحيَّةٍ جديدةٍ، مُذَكِّراً في الوقتِ عينِهِ بضرورةِ التغييرِ في طرقِ الحياةِ والتفكيرِ: “لا تتمثَّلوا بالعالمِ الحاضِرِ، لكن تحوّلوا بتجديد طريقةِ تفكيرِكم لكي تعرفوا ما هي إرادةُ اللهِ: ما هو صالحٌ، ما هو قادرٌ أن يُرضي اللهَ وما هو كامِلٌ”. هكذا يُنبِّه رسولُ الأمم إلى أنَّ العلاقةِ بينَ العبادةِ الروحيّةِ الحقيقيّةِ وضرورةِ تجديدِ طريقةِ تفكيرِنا هي جزءٌ لا يتجزّأُ من الشكلِ الإفخارستيِّ للحياةِ المسيحيّةِ.

“عندئذٍ لا نبقى أطفالاً نهتزُّ ونسيرُ على غيرِ هُدىً بِحسبِ كلِّ تيّاراتِ الأفكار” (أف4/14) (عدد77 ص109-110).

” إنَّ القداسةَ وَجَدَتْ مركَزَها دائماً في سرِّ الإفخارستيّا ” (عدد94 ص122). هكذا عاشَ الآباءُ المؤسِّسون وهكذا فعلَ الرهبانُ عبرَ حياةٍ رهبانيّةٍ على امتدادِ ثلاثمايةِ وخمسَ عشرةَ سنةٍ بمن فيهم جناديوس موراني والأبُ الناسكُ أنطونيوس طربيه والكثيرونَ من أبناءِ الرهبانيّة: مؤسِّسون ومرسلونَ وحُبساءُ وشُهداءُ وقديسون، وقد استشهدوا أمامَ القربانِ بعدَ أن جعلوا في الإفخارستيّا مركزَ حياتِهم، متمثِّلينَ القدّيسَ أنطونيوسَ الكبيرَ  الذي قدَّمَ حياتَهُ قرباناً لله تعالى. وها نحنُ اليومَ، نسألُهم أن يشفَعوا بِنا لنكونَ على خُطاهم في تقديمِ ذواتِنا قرابينَ تُرضي اللهَ.

          إخوتي!

          في هذهِ اللحظاتِ، أضعُ الرهبانيّةَ بكلِّ أعضائِها تحتَ نظرِ أمِّنا العذراءِ مريمَ “إمرأةِ الإفخارستيّا” فهي تعلِّمُنا وتقودُنا إلى ابنِها يسوعَ القائمِ من الموتِ. ومن العذراءِ نتعلَّمُ كيفَ نُصبحُ رهباناً إفخارستيّين وكنسيّين، فيتجدَّدُ في حياتِنا الإندهاشُ الإفخارستِيُ فنختبرُ حقيقةَ الكلمةِ التي بها فارقَ يسوعُ تلاميذَهُ ليبشِّرَ الآخرين: “أنا معكَم طولَ الأيّامِ حتّى نهايةِ العالَمِ.” (متّى28/50) (عدد97 ص127). آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير