كلمة الاباتي بولس نعمان، تحضيراً ليوبيل القديس مارون

المارونية رسالة تحرير مشرقيّة

جل الديب، الخميس 28 يناير 2010 (zenit.org). – ننشر في ما يلي مداخلة الأباتي بولس نعمان رئيس عام الرهبنة اللبنانية المارونية الأسبق، التي القاها خلال اللقاء الذي نظمه المركز الكاثوليكي للإعلام بمناسبة السنة اليوبيلية 1600 على وفاة القديس مارون (410 – 2010)، تحدث فيها عن “المارونية، رسالة تحرير مشرقية”.

” قيل في المارونيّة الشّيء الكثير، ويقال اليوم فيها وعنها الشّيء الأكثر، ذٰلك أنّها كانت ولا تزال حاضرةً وفاعلةً في محيطها، لها ما له من الوهن والضّعة، ومن الرّفعة والمكانة. حضور متواصل ومتكامل روحيًّا وفكريًّا، حياتيًّا ونضاليًّا، من ساعة النّشوء سنة 452 حتّى السّاعة 2010.

1552 سنة من الحضور الدّائم، الفاعل والمنفعل، نستعرضها بإيجازٍ، لا على سبيل المفاخرة والتّقويم، بل في محاولةٍ لفهم ثوابت ومحرّكات وأساليب عيش هٰذه الجماعة المشرقيّة الملتزمة، الّتي أحدثت أهمّ انقلابين، في محيطها المشرقيّ المونوليتيّ، على المستوى الاجتماعيّ والحضاريّ: الوطن التّعدّديّ الحرّ والمستقلّ، والإنسان المنفتح على الحضارات.

“جماعة بيت مارون”، كما ذكرهم التّاريخ لأوّل مرّةٍ، هم فئة من المسيحيّين الأنطاكيّين المعترفين بعقيدة طبيعتي السّيّد المسيح الإلهيّة والإنسانيّة الّتي أثبتها مجمع خلقيدونية سنة 451، والقاطنين في نطاق بطريركيّة أنطاكية:

من قيليقيا في الشّمال الغربيّ إلى فلسطين في الجنوب، ومن فينيقيا السّاحليّة في الغرب، إلى “العربيّة” في الشّرق، حسب التّنظيم الرّومانيّ بعد إصلاح الإمبراطور “ديوكلاسيان” سنة 284.

على أثر هٰذا المجمع، انشطرت الكنيسة المسيحيّة إلى قسمين كبيرين:

–         لا خلقيدونيّين، الّذين يوحّدون الطّبيعة في المسيح، وهم:

الأقباط والأحباش من بطريركيّة الإسكندريّة؛ السّريان الأورثوذكس والنّساطرة من بطريركيّة أنطاكية؛ الأرمن الأورثوذكس من بطريركيّة القسطنطينيّة.

–         وخلقيدونيّين ثنائيّين، الّذين يعترفون بأنّ للمسيح طبيعتين، إلٰهيّة وإنسانيّة كاملتين، وهم:

بابا روما والكنيسة الغربيّة؛ بطريركيّة القسطنطينيّة والرّوم البيزنطيّون؛ الملكيّون من بطريركيّة أنطاكية، أي الرّوم والكاثوليك والموارنة.

العقيدة الخلقيدونيّة هٰذه، هي تأكيد صريح لإنسانيّة المسيح الكاملة، لأنّ أحدًا لم ينكر على المسيح طبيعته الإلهيّة. هٰذا الاعتقاد النّظريّ يستتبع مواقف عمليّةً وحياتيّةً تتحوّل، مع الزّمن، وبفعل الأمانة في الممارسة والعيش الحياتيّ الصّادق، إلى مؤثّراتٍ حضاريّةٍ. طبعت المجتمع المارونيّ منذ نشأته.

فالتّجسّد الإلهيّ يعني عمليًّا، دخول الإلٰه في التّاريخ، في الزّمان والمكان، تتميمًا لعمليّة الخلاص، وفق هٰذه العقيدة، فإنّ الإلٰه المتجسّد يسوع لم يعد انتظارًا أو حنينًا، كما أنّه ليس فكرةً في الذّهن أو صفةً لموصوفٍ تجهله، بل هو قدوة ومثال عيشٍ، إنّه إنسان ينشئ علاقةً كيانيّةً مع كلّ إنسانٍ، ليمكّن الإنسان بدوره من أن ينشئ علاقةً إلهيّةً مع الإله-الإنسان يسوع، الوسيط الوحيد بين الله والنّاس. فالاشتراك الإلهيّ بالطّبيعة الإنسانيّة، يخوّل الإنسان المؤمن حقّ الاشتراك الفعليّ بالطّبيعة الإلهيّة، وهٰذه هي عمليّة الخلاص، كما نصلّي في القدّاس: «وحّدت يا ربّ لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك… أخذت طبعنا لتعطينا طبعك، لك المجد…».

فالمسيحيّة، من هٰذا القبيل ومن هٰذا المنطلق التّجسّديّ، هي تلاقٍ مع كلّ إنسانٍ في إنسانيّة يسوع الشّاملة، وهي ديناميّة تطوّرٍ وصيرورة، قد يدخل المسيحيّ بالهويّة في خطّها أو يظلّ عاجزًا عن فهم أبعادها. فهو يحقّق مسيحيّته بقدر ما يسمو بإنسانيّته، والسّموّ في الإنسانيّة هو تلاقٍ مع كلّ إنسانٍ وانفتاح عليه، لأنّ كلّ إنسانٍ مفتدًى بيسوع المسيح بالقوّة.

والمارونيّة، لأنّها تاريخيًّا، التزام نضاليّ خاصّ في الدّفاع عن إنسانيّة يسوع الكاملة، عرفت أن تعيش الحالة التّجسّديّة هٰذه، منذ التّأسيس والنّشأة، وقد كوّنت مجتمعًا شاملاً، لا حصريًّا، لا يرفض الغير لأنّه مختلف، بل يفتّش عنه لأنّه مختلف، كما أنّها اعتبرت الوحدة في التّنوّع ثراء للإنسان، وأنّ كلّ ما هو إنسانيّ لا يجب أن يكون غريبًا عنها…

ولأنّ الموارنة عاشوا حالتهم هٰذه، ملتزمين ومنتظمين، أطول مدّةٍ من الزّمن، كوّنوا جماعةً متراصّةً، شاملةً، لا حصريّة، تقبل الغير مع فروقاته، ولا ترفضه لأنّه مختلف، بل تفتّش عنه لأنّه مختلف تتميمًا لرسالتها، لذٰلك أدرك أمراء لبنان وحكّامه، الغيارى على استقلال لبنان في تعدّديّته، هٰذه الصّفات في المجتمع المارونيّ، فسمحوا لهم، لا بل أغروهم وأرغموهم، منذ القرن السّادس عشر، على التّوسّع والتّوزّع في كافّة أنحاء لبنان، وفي مختلف ضياعه وقراه، من الشّمال إلى الجنوب، ليكونوا اللّحمة والملح الّذي يشدّد الرّبط والصّلات بين مختلف عائلات لبنان وطوائفه، كما طُلب منهم، في منطقة جزّين بالتّحديد، أن يؤلّفوا حدًّا يفصل بين شيعة الجنوب ودروز الشّوف، من تخوم نيحا في الشّرق حتّى مدينة صيدا في الغرب، وأكثر الّذين عاشوا معهم في لبنان، شهدوا لهٰذه الصّفات والمزايا الجامعة والموحّدة الّتي سمحت ومهّدت لقيام وتكوّن وطنٍ تعدّديٍّ في قلب الإمبراطوريّة العثمانيّة التّوتاليتاريّة.

ولأنّهم ع
َرفوا أيضًا، أن يكوّنوا جماعةً ملتزمةً جوهريًّا ووجوديًّا، ولأنّهم أحبّوا الأرض اللّبنانيّة المضيافة وارتبطوا فيها وأخصبوها، كان لهم تاريخ عريق، انبثق عن عيشهم وعملهم وتفكيرهم أدب وحضارة إنسانيّة مميّزة، كانت من الشّرق وفي خدمة الشّرق والعربيّة بنوعٍ خاصٍّ، خدمة يعرفها القاصي والدّاني، ولا مجال الآن لتعداد صفات هٰذه الخدمة الإنسانيّة الّتي خلقت حضارةً تجلّت للعيان في فكرهم وأدبهم وفنّهم وموسيقاهم. وقد انعكست على حضارة الشّرق العربيّ.

هٰذه الحضارة اتّصفت بالوحدة والشّمول، وحدة من حيث الينبوع المباشر الأصيل، وشمول من حيث الارتباط بالرّوافد الشّرقيّة والغربيّة.

وبهٰذه الطّريقة، ومع الزّمن، استطاعوا أن يحقّقوا ما حلموا به، أي الوطن التّعدّديّ الحرّ والمستقلّ، والإنسان المنفتح والمطلّ على الحضارة العالميّة.

يقول البابا يوحنّا بولس الثّاني في إرشاده الرّسوليّ إلى اللّبنانيّين[1]: «هٰذا البلد الحضاريّ الفريد من نوعه، والّذي ليس كباقي الأوطان، فيه نمت وترعرعت عدّة جماعاتٍ بشريّةٍ، وفي الواقع اليوم، كما في الأمس، يدعى فيه أناس متباينون على الصّعيد الثّقافيّ والدّينيّ إلى العيش معًا، على الأرض نَفْسِها، إلى بناء أمّة حوارٍ وعيشٍ مشتركٍ، وإلى الإسهام في خير الجميع. كما تسعى اليوم، جماعات مسيحيّة وإسلاميّة إلى جعل تقاليدها أكثر حيويّةً… إنّه وطن مركّب يتألّف من عناصر متعدّدةٍ، ومن الضّروريّ والملحّ أن تتربّى فيه الضّمائر على السّلام والمصالحة والوفاق بين جميع عناصر الأمّة… وأن تتعافى وترضى بالتّعدّديّة رضًى كاملاً، حتّى تتوفّر للمواطنين الشّروط الضّروريّة لإقامة حوارٍ حقيقيٍّ (92) حتّى يبقى لبنان بلدًا ديمقراطيًّا منفتحًا على الآخرين في حوار الثّقافات والدّيانات ويكون قادرًا على تأمين وجودٍ كريمٍ للجميع (98)» [2].

في نهاية هٰذا الموجز، أعود إلى حيث ابتدأت، إلى تلك الظّاهرة الفريدة في تاريخ الشّرق المتقلّب والصّاهر للأوطان، إلى ديمومة وفعاليّة هٰذه الجماعة الصّغيرة المتواضعة، إنّما الواعية والمدركة لذاتها ولرسالتها، والّتي عمّرت سحابة ألفٍ وخمس مئة وخمسين سنة من الوجود الواعي والمتكامل دينيًّا واجتماعيًّا، لدرجة أنّها أصبحت محورًا للوجود الإنسانيّ في الشّرق، يفخرون بها إذا عملت ما يدعو إلى الفخار، ويأسفون لها إذا عملت ما يدعو إلى الأسف.

علّ قادتها الرّوحيّين والزّمنيّين يدركون اليوم دورهم الإنسانيّ الطّليعيّ في هٰذا الشّرق، من خلال وعيهم لرسالتهم الخاصّة، رسالة الإنسان الحرّ والمحرّر «فيترهّبون ويزهدون»، كما يقول مفكّرنا الكبير “شارل مالك”، ويُقبِلون على القيادة كأنبياء وكرائين يتخطّون الطّوائف بما فيها المارونيّة، ليُدركوا الإنسان الحرّ والمحرّر.

Share this Entry

[1]  رِسَالَةٌ مُتَلْفَزَةٌ إِلَى الْبَطَارِكَةِ وَالأسَاقِفَةِ الْمُجْتَمِعِيْنَ فِي بكركي في 25/5/1990.

[2]  مِنْ مَقَالٍ لِلأَبَاتي “بولس نعمان” فِي «قضايا وأفكار من أجل “رجاء جديد للبنان”» – دير سَيِّدَة النَّصر نبيه-غوسطا 1998، ص. 112.

Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير