القوش، الخميس 30 أغسطس 2012 (ZENIT.org). – القوش بلدة عريقة تقع على بعد 48 كم شمالي الموصل، جاثمة قبالة جبل يُعرف باسمها في منطقة باعذرى، وهي عريقة في القدم، وتاريخها مدعاة فخر واعتزاز وصفحات مشرفة، تحدت نوائب الزمان وعاندت قسوة الأيام لتبقى شامخة شموخ الجبال. المسيحية فيها راسخة منذ القدم، ومنها قام بطاركة ومطارنة وكهنة ورهبان وراهبات بأعداد غفيرة.
تشتهر القوش بمواقعها المسيحية، أهمها دير مار ميخا النوهدري، وكنيسة مار كوركيس. وكنيسة القوش كانت خورنة تابعة إلى أبرشية الموصل، ومطران الموصل أو البطريرك كان يدير شؤونها الدينية حتى تاريخ 19/3/1961، حيث أصبح مثلّث الرحمة المطران أبلحد صنا مطرانا لأبرشية ألقوش المستحدثة، وبذلك يكون المطران صنا أول مطران لالقوش بعد المطران مار ميخا النوهدري. وأبرشية ألقوش تشمل:” خورنة القوش، شرفيه، تللسقف، باقوفا، باطنايا، مجمع جمبور، الشيخان (عين سفني)”. واليوم يرعى أبرشية القوش المطران مار ميخا مقدسي.
أما مزاراتها التي كان لها مناسبات خاصة هي: مزار مار يوسف، مار زديقا، مار سهدونا، مار يوحنا، مرت شموني، مار شمعون، مار قرداغ الذي تحول إلى كنيسة في السنوات الأخيرة. أما من آثارها هيكل النبي ناحوم الذي تجدد عام 1796، ويذكره بنيامين الطليطلي في رحلته (1165 – 1173). كان اليهود يزورونه ويقيمون فيه مراسيمهم اليهودية، كما كانوا يحتفلون بعيده شعبيًا في مدخل كبا دمايا (كهف المياه)، وقد كانت عائلات يهودية تقطن القوش حتى عام 1948.
ومن المشاهير الذين اشتهروا في الحياة الكلدانية، القس كوركيس يوحانا، تولى النيابة البطريركية في مطلع القرن 19 مع أنهُ كاهن متزوج، والقس الراهب دوميانوس كونديرا الذي خدم في الموصل والقوش، وله مؤلفات كثيرة ومن الخطاطين المتميزين، والقس أوراها شكوانا (1850 – 1931) الطقسي والخطاط، والقس إيليا هرمو (1856 – 1932) الخطاط، والمطران ارميا مقدسي (1828 – 1929) صاحب القواعد المطبوع في روما، والمطران اسطيفان كجو (1884 – 1953) وكتاباته عن الأنبا جبرائيل دنبو، والقس يوسف عبيا (1880 – 1965) الواعظ والشاعر، والمطران اسطيفان بلو مؤلف تاريخ الرهبانية الانطوانية الهرمزدية والكنيسة الكلدانية، والمطران افرام بدي المرنو الشهير، القس دميانوس كونديرا (1803 – 1868)، الخوري يوسف كادو (1892 -1971) … وغيرهم.
هذه كانت القوش ذكرناها ببعض السطور فقط مع مواقعها المسيحية ومزاراتها ومشاهيرها الكلدانيين. هذه البلدة التي مهما تعاقبت السنين ومروا عليها أجيال وأجيال، وقعها يبقى في نفوس وقلوب أبناءها، وتبقى مصونة أمام جبلها الشامخ، وسيرتها الخالدة يفوح شذى عطرها على مرّ الأزمان. وقد شهدت بعد عام 2007 – 2008 عمليات أعمار كثيرة فيها، منها بناء مستشفى في وسط البلدة، وافتتاح أسواق ومجمعات، وتبليط شوارع …. الخ. عدد سكان القوش الحاليين يبلغ حوالي 5000 نسمة، وربما لكان أكثر لولا هجرة أهاليها إلى خارج العراق خلال السنين الماضية وما زال. وهنا يطيب لنْا أن نذكر الأديرة الموجود في القوش لأهميتها، ونبذة مختصرة عن كل واحد منهما وكالاتي:
1 ـــ دير الربان هرمزد:
دير الربان هرمزد يقع على بُعد 2.5 كم إلى الشمال الشرقي من القوش، صرح محفور في قلب الجبل على علوّ 500 م، يشرف على سهل فسيح ينبسط فيه دير السيدة. مؤسسهُ الربان هرمزد من بلاد فارس، وراهب دير الربان برعيتا ثم دير الرأس (ريشا، في جبل مقلوب، وناسك مع يوزاداق في جبل نوهدرا، كتب قصته شمعون تلميذ يوزاداق. وقد توافد إلى الربان هرمزد المتوحد رهبان وعلمانيون، لاسيما من دير بسقين (شمال شرقي القوش) ومدرسة مار ايثالاها (دهوك)، فابتنى لهم الربان هرمزد ديراً وكنيسة بهمة أهالي القرى المجاورة:” كوركيس وكرويال من القوش، والثري خوداوي شوبحي من باقوفا، وذلك ما بين سنتي 628 و 647.
والدير ما زال مُتحفظا بآثار مهمة رغم التخريبات التي لحقت به في السنوات الأخيرة بسبب أوضاع شمال العراق، أهمها: (ضريح المؤسس ) يدخل إليه الزائر من هيكل الثالوث الأقدس، فيلقي مذبحًا حجريًا منقوشًا وملونًا، يعلوه قوس حجري مكتوب باللغة الطقسية (الكلدانية) يشير إلى تاريخ الدير ومؤسسهُ.
تحيط بالدير من جهاته الثلاث القمم العالية، وفي عمق الوادي أشجار خضراء صيفا وشتاءً. ونلتقي في المجاز قبور بطاركة، تسع ألواح رخامية كبيرة تؤرخ تسعة بطاركة، وصبيًا منذورا للبطريركية، جميعهم من آل أبونا (بيث آوون)، وما بين سنتي 1497 و 1804، تحمل صورة إيمان كل منهم. ونجد هيكل الثالوث الكبير بمساحة 23x 6 م، قبته بيضوية ذات أشعة تتوسطها فتحة بمثابة المركز. والأبواب المرمرية محفورة ومزخرفة، وعلى المرمر كتابات تاريخية وأدعية وصلوات. أما الإيوان الكبير فمزين بنسر وأسد وثعبان وكتابة اسطرنجيلية ممتدة كشريط كامل. وهناك غرفة مبنية سنة 1867، ويدخل الزائر منحنيا إلى صومعة الربان هرمزد عبرّ ممّر ضيق متعرج ومظلم (بحشوكي) يتوسط الصومعة صليب مربع الصلبان.
وفي هيكل الربان المؤسس إلى يمين الدهليز حيث قبور البطاركة (14) صليبًا مختلفة الأشكال، وقبة من القبات المقرنصة، ويتبرك الزائر من فتحة في المذبح بالحنان (تراب القديسين). ولعل بيت القديسين وبيت الشهداء يرجعان إلى تجديد تم عام 1694. وأعجب ما في الموضع غرفة الطعام ذات قياس 10 x5 م، منقورة في الصخر متفاوتة الارتفاع، عموداها قطعتا جبل، يليها المطبخ والمخزن، وجميعها أشبه بكهوف متشعبة الدروب متباينة الأحجام، مقاعد
ها حجرية، وجزئها المائي يحمل نقش صليب وزخارف دائرية ونباتية.
والقلالي أو صوامع الرهبان متناثرة في الجبل حول أطراف الدير، يبلغ عددها نحو 400، يتم الصعود إلى بعضها بدرج، أشهرها قلاية الأربعين درجًا، وأمام كل قلاية بستان صغير للحبيس المنقطع عن العالم، وفي صدر كل منها مكان مرتفع من الصخر عادة هو السرير. وفي الحائط كّوة منقورة ومزخرفة لحفظ الكتاب المقدس والكتب الروحية، وأخرى لحفظ الثياب والأمتعة، وأحيانًا مائدة صخرية للكتابة والطعام.
وعديدة هي الغرف المنقورة تحت الأرض والمتداخلة أحيانا كالتي تحت هيكل الثالوث الأقدس، وكثيرا ما كانت تكسى الغرف التي تحت مستوى الأرض بالملاط والقار لمنع الرطوبة وحفظ الغلة والمؤونة في البعض منها. وعلى مقربة من بنايات الدير (مقبرة الغرباء)، وفي بدايات الطريق الجبلي كهف أحمر (كهفا سموقا)، بينما في أعلى الجبل (كرم) زالت معالمه في السنوات الأخيرة.
هذه كانت جولتنا المختصرة في أروقة دير الربان هرمزد، ورغم العديد من النكبات والمصائب التي تعرض لها من تدمير وسلب ونهب، وحرق المخطوطات النادرة، وتعذيب رهبنته وحبسهم وتشريدهم منذ تأسيسهِ، يشعر فيها من يزوروه أنهُ في عالم آخر، عالم ملئ بالقداسة والرهبنة، ويحتفل في كل عام بذكراه في شهر نيسان، يتوافد إليه العديد من الزوار للتبرك، وقد شهد في السنوات الأخيرة العديد من حملات التعمير والترميم، وأصبح بحق مثلما قال عنه الكاتب الفرنسي (الأب مارتان):” أن بنيان دير الربان هرمزد المدهش، وموقعه الجذاب، يجعلان هذا الأثر المجيد لا مثيل لهُ في الغرب، ولا شبيه لهُ في الشرق”.
2 ـــ دير السيدة (حافظة الزروع):
قلنا في حديثنا أعلاه أن دير الربان هرمزد تعرض للكثير من المصائب المتكررة، مما حمل الرهبان على بناية دير آخر في السهل، يكون ملاذا لهم وقت المحن، وهو (دير سيدة الزروع) الذي شرعوا بتشييده سنة 1858.
لقد كان الدير للرهبان الكلدان منذ تأسيسه وحتى عام 1993، شيد بعد أن جدد الأنبا دنبو الرهبانية المشرقية، وخلفه الأنبا حنا جرا، ثم الأنبا ايليشاع (اليشع) الياس، لقد تم تشييد الدير في عهده، واكتملت كنيسته عام 1861، وفيها ضريح البطريرك يوسف اودو، والأنبا شموئيل جميل (+1917) وبعض المطارين الرهبان.
وكان أقدم قسم وبحسب ما مؤرخ في كتاب الأب ألبير أبونا، بناه الأنبا اليشاع هو الرواق الداخلي الخاص بالرهبان، وعلى مرّ السنين أضيفت أقسام أخرى إلى الدير تجاوبًا مع زيادة عدد الرهبان وتشعب اهتماماتهم وأعمالهم، فكانت ثمة أراضي واسعة تابعة للدير ويجب استغلالها مباشرة أو عن طريق أناس من القوش أو من قرى أخرى، يقومون بفلاحتها وزراعتها وجمع غلاتها وفرز حصة الدير والاستفادة من البقية. وكان للدير أيضا عدد كبير من المواشي يستغلونها لمعيشة الرهبان وللاحسان إلى الآخرين.
وكانت في الدير عادة حميدة وهي أن عددا من النساء الخبازات يعكفنْ كل صباح على صنع الخبز، ثم يعرض أمام باب الدير ليستفيد منه كل عابر سبيل. وكان الدير يستقبل الزائرين والضيوف لبعض الوقت وأحيانا لبضعة أيام، ويقدم لهم جميع وجبات الطعام، بالإضافة إلى الغرف والفرش للنوم، لذا فقد اضطر المسؤولون أن يضيفوا إلى دير الرهبان هرمز قسمًا خاصًا بالضيوف في الفناء الخارجي، وفي وقت لاحق تم بناء ميتم وألحق بالدير ليكون موضعا لتربية الأولاد الذين لا معيل لهم.
وقد تخرج من الدير منذ تجديد الرهبنة عام 1808 وحتى أيامنا وبحسب كتاب الأب يوسف حبي، أكثر من 1400 راهب و 160 كاهنًا و 20 مطرانًا وبطريركًا واحًدا. ويضم الدير متحفًا كنسيًا وشعبيًا مفتوحًا للزيارة في موقع قديم، أما مكتبتهِ الشهيرة فقد نقلت إلى دير الرهبان الكلدان في بغداد، ووضع فهرسة أولى لها المطران أدي شير، ثم الأب الدومنيكي فوستين ثم الأبوان حداد وجاك. ورغم انتقال الرئاسة العامة إلى بغداد، فما يزال الدير متحفظًا بأهميته التاريخية، يقصده الألوف للتبرك والصلاة والراحة، وعيدهُ يقع في 15 أيار من كل عام (عيد العنصرة، حلول الروح القدس على التلاميذ) والمعروف بعيد مريم العذراء حافظة الزروع.
المصادر:
العلامة المؤرخ الأب ألبير أبونا/ مؤلفه ديارات العراق- بغداد 2006 /ص 109 – ص113
الأب الدكتور يوسف حبي/ كنيسة المشرق الكلدانية – الأثورية – لبنان 2001/ ص103 – ص106