كشف لنا يسوع أن “الله محبة” (1 يو 4، 8. 9). لقد بين عن ذلك في كلماته، في أفعاله، في حياته وفي مماته، موت الصليب. إن التجسد بحد ذاته هو كلمة حب بليغة، هو إعلان حب وكشف عن حب الله. يعلمنا ديونيسيوس الأريوباجي أن “المحبة هي قوة مُوَحِّدة”، والتجسد إنها هو اتحاد الله بطبيعتنا لكي يرفعها، لكي يؤلهها.
في صلاة من الليتورجية الافخارستية بحسب الطقس الماروني، نجد تعبيرًا جميلاً للوحدة التي نتحدث عنها: “وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا ، وناسوتنا بلاهوتك ، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ، ووهبتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا لك المجد إلى الأبد”.
“الله محبة” يعني أمرين اثنين: إن كل أفعال وصفات الله هي أفعال محبة، وقبل كل ذلك، الله هو محبة في ذاته، في كيانه الأعمق. سننطلق من البعد الأول، الذي هو بعد تصرف الله نحو الخلائق، لكي ننظر في ما بعد في كيانه الذاتي بحسب الوحي الإلهي.
الله ليس إلا محبة
لا يمكننا أن نفهم معنى “الله محبة” إلا إذا فهمنا أن الله ليس إلاّ محبة. فمن السهل أن نعتبر المحبة من بين مختلف صفات الله، ولكننا لا نصل بهذا الشكل إلى إدراك جذرية إله المسيحيين. يدعونا الأب اليسوعي فرنسوا فاريون للمرور في نار النفي. ومن خلال مقاربة تكاد تكون استفزازية يتساءل اللاهوتي: هل الله كلي القدرة؟ ويجيب: كلا، الله ليس إلا محبة؛ هل الله لا متناهٍ؟ – كلا، الله ليس إلا محبة.
ويشرح فاريون أجوبته لافتًا إلى أن كلية قدرة الله وقوته لا علاقة لها بقوة ديكتاتور متغطرس أو قوة قنبلة نووية مدمرة. يجب أن ندرك أن كلية قدرة الله هي كلية قدرة الحب وأن الله لامتناهٍ بمعنى أن حبه لا حد له، حبه هو اللامتناهي.
بكلمات أخرى، الله لا يستطيع أن يفعل إلا ما يستطيع الحب فعله، والله لا يستطيع أن يريد إلا ما يريده الحب، والله لا يستطيع أن يكون إلا ما يستطيع الحب أن يكون.
هذا الإطار يبدل كل نظرياتنا وأفكارنا بشأن الله. إن الكثير من الملحدين لم يكونوا ليعتنقوا الإلحاد لو لم تكن فكرتهم بشأن الله غريبة وغير مقبولة لدرجة أنه يمكننا أن نقول مع خوان آرياس: “لا أؤمن بهذا الإله”. فما من مؤمن يقبل بإله من هذا النوع. يجب علينا أن نعمِّد صورتنا وفكرتنا عن الله، أن نمررها بمنخل يسوع. التبشير الجديد يبدأ هنا.
إن الإنجيل هو مقياس يؤهلنا أن نقيس ونوطد فكرتنا بشأن الله. من يرى يسوع يرى وجه الله الحق. عندما ينطق يسوع بالتطويبات، عندما يلخص الشريعة بوصيتي محبة الله ومحبة القريب، عندما يغفر الخطايا، عندما يعانق الأطفال ويعلّم البسطاء، عندما يحب حتى المنتهى فينحني عند أقدام تلاميذه ويغسلها، عندما يموت غافرًا ومسلمًا روحه في يدي الآب… مع قائد المائة، ننظر إلى يسوع هذا، ونرى كيف عاش ومات ونعلن إيماننا: “كان هذا الرجل حقًا ابن الله” (مر 15، 39).
عندما نتأمل بحياة يسوع ندرك أن “الحب ليس صفة من صفات الله، بل إن صفات الله جميعها هي من صفات المحبة” (فرنسوا فاريون). الارتداد الحق هو تحويل نظرتنا بشأن الله، تغيير عقليتنا، تغيير نظرتنا؛ لا يجب أن نخلق الله على صورة أفكارنا بشأنه، بل أن نحول فكرتنا بشأن الله من خلال التبحر والتأمل بحبه الذي ظهر لنا في يسوع المسيح
(يتبع)