في قداس الأحد الماضي، في كنيستي في ناعور، جلست خلاله أراقب الناس كعادتي، ففي مراقبة الناس صلاتي ومناجاتي لهم ولله، ولنفسي، فأجد فيهم الإلهام والكلمات والمشاعر والألم والعزاء في نفس الوقت. نظرت لأب، عراقي، يجلس وحيدا على طرف المقعد يستمع للصلاة، وإذا بابنته التي تقارب الثلاث أعوام تحضر وتطلب أن تجلس في حضنه، فاحتضنها بعطف وألم شديدين، هندم فستانها وغطاها بذراعيه كأنه يحميها وأغدقها بحضن ملئه حب ودفء وقلق، وأغلق عينيه كمن أراد أن يغطيها برموشه وكإني سمعته يناجي الرب ويناجيها في قلبه ويقول:
“ربي، لا تسمح أن تذُق إبنتي ما ذقناه…
ربي، لقد عِشتُ في زماني طفولة سعيدة، آمنة مطمئنة، مستقرة، وكبرت في وطني وبين أهلي وكان مستقبلي واعدا آمنا مستقرا، تعلمت وعملت ثم تزوجت وأنجبت، ولم أحلم بحياة أجمل وأكثر استقرار، ثم عملت ليعيش أبنائي نفس الحياة.. وقد شَهِدتَ يا رب ما حصل لنا، لم نتوقع ولا بأوحش كوابيسنا أن يحصل، هُجّرنا وضُربنا وتم إهانتنا بصورة تفوق الوصف والتعبير، تدمرت حياتنا وهربنا حفاة جياع لمستقبل مجهول.. قبلنا الإعانات والصدقات ونحن أهل العز والكرم.. وها قد مر عام ونحن على نفس الحال.. لا أعلم كيف أتقبل الوضع، هل أفرح وأشعر بالاطمئنان والاستقرار الوقتي الذي حصلنا عليه بسبب كل من مد يد المساعدة والعون لنا وأننا بقينا أحياء سالمين، على الأقل ظاهريا، إلى الآن.. أم أخاف وأقلق لمستقبل قريب بعيد مجهول، فإلى متى سنبقى بدون هوية ولا وطن ولا مستقبل واضح..؟!
ربي، أشفق على ابنتي، هي ابنتك أيضا، وأنا أثق بمحبتك لأبناءك، وإني أؤمن بك وبقدرتك، فاكتب لها فرحا قريبا، مستقبلا آمننا، وطناً يحتضنها وتحتضنه، فليس هناك أغلا وأثمن من الوطن..
ربي، أنا أب، وأنت أب، احميها لي ودعني أراها صبية قوية بالمحبة، صلبة بالحق والعدل، حنونة كأم، لا تجعلها ظالمة وابعد عنها الظلم، تنادي للحب والسلام والفرح، وتمسح الألم والحزن عن الآخرين، تحب الأرض والبشر ولا تكرههم بسبب أفعالهم، بل تشفق عليهم ولا تدينهم…
ربي،لا تدع قلبها ينغلق من الألم والظلم الذي عاشته ورأتنا نعيشه بل دعه ينفتح لينادي بالحب بالعدل بالسلام، وابقى معها ودعها تبقى معك ولا تفارقك..
استجب يا رب لصلوات وأنات أب مكسور موجوع ولكن قوته وثباته منك..”
هنا، حاول الأب أن يضع ابنته تتمدد على الدرج لتكمل نومها، ولكنها أبت أن تفلته، وتشبثت أكثر بعنقه، فما كان عليه إلا أن احتضنها ثانية، وبقيت هي متشبثة برقبته وكأنها تناجيه وتقول له:
“أبتِ، أعلم ألمك، أشعر به، أعلم بما تفكر وأحس به، صحيح أنني صغيرة جدا، ولكني بالفترة السابقة شاهدت ما جلعني أكبر كثيرا وأشعر كثيرا، ورأيتك صامدا مصليا حنونا برغم كل الألم والجِراح، ولهذا أحبك أكثر ولن أتركك، أثق بك واعتبرك صخرتي وقوتي وأمني وأماني..
يا رب، عرفتك من خلال أبي الذي يصلي لك ويتحدث عنك كثيرا، مع إني منك منذ البدء، ولكني بإدراكي البشري أحتاج لمسيرة طويلة لأعرفك أكثر، فأرجوك، احمي عائلتي وأبي وكل الناس، وبقلبي الصغير أقول لك أحبك، وأحب أبي وكل الناس فأسعدهم وطمئن قلوبهم..”
وهنا وقفنا لتلاوة صلاة الأبانا، كأننا جميعا اتحدنا لنتلوها عن نية الأب وابنته وعن نية كل من يمثلونهم من مهجرين ومتألمين وصامدين..