رسالة سرّ الـمُصالحة:
لما كانَ في الكنيسةِ نفوسٌ بالِغَةٌ بالروحانيَّةِ وساعِيَةٌ بشكلٍ تِلقائيٍّ لعيش هذا “السرّ” الـمُقَدَّس بشكل مُتَكرِّر وميكانيكيّ، والاِعتِرافِ بالأَخْطاءِ والهَفواتِ ذاتِها، معَ نوعٍ منَ الشُّعورِ الـمُصطَنَعِ بالذَّنب، يُصبِحُ من الضّرورَةِ الحيَويَّةِ دَعوتُها للتَّمَيُّزِ بِنُموِّها الرّوحانيّ وتَوظيفِهِ “سينِرْجْيًّا” مع المسيحِ لِخلاصِ الآخرين. يَقتَضي هذا التّميُّز منها أن تَخرُجَ أولًا من قَوقَعَةِ خَطايا باتَ ذِكرُها وَسواسًا أكثرَ منهُ اعتِرافًا وأن تَحمِلَ على قَلبِها خَطايا الآخَرين، ثُمَّ بأن تُضيفَ بِصِدقٍ على “اعتِرافاتِها” الـمُتَكَرِّرَةِ نِيَّتَينِ لا بُدَّ مِنهُما لِكَي تُصبِحَ رَسولَةَ سِرِّ الـمُصالَحَةِ هذا:
النيَّة الأولى: تَذكُرُ فيها مَنْ تَرغَبَ بِأَنْ تَحْمِلَ معَ المسيح بِخَطاياهُم على قَلبِها حتّى يَتوبوا بدَورِهِم، بدءًا بأَقرَبِ النَاسِ إليها، إيمانًا منها بما يلي:
- بأنَّ نِعمَةَ السِرّ الـحّالةِ بالرّوحِ القُدُسِ على قَلبِها قادِرَةٌ أن تُحَلَّ بِواسِطَةِ قَلبِها في قُلوبِ مَن تَذكُرُهُم وبالتّالي تَدفَعُهُم نحوَ التّوبَةِ الذّاتيَةِ والـمُصالَحَة. (القِدّيسة مونيكا وابنها مار أوغُسطينوس)
- بأن نِعمَةَ إشراكِهِمْ باعتِرافِها وتَوبَتِها عَنهُم، والقَصدُ بالتّعويضِ بالإماتاتِ والأعمالِ الصالحةِ عمّا يُمكِنُ أن يَكونوا قَد أخْطَأوا هُم بهِ ضِدَّ مَحبَّة القَريبِ واللهِ، تُساهمُ بخَلاصِهم، في حالِ تَعَرَّضوا لخطر الموتِ دون استعداد، فلا تهلك نفوسهم إذ يلجون، بشكل خارق، التوبة والغفران.
- بأنها بالتّالي قادِرَةٌ، بنِعمَةِ المسيحِ اللامُتناهيَةِ المسكوبَةِ في “سرِّ الاعتِراف” كَما في “سرِّ الاِفخارِسْتيَا” أن تُساهِمَ في خَلاصِ الآخرينَ لأَنَّها أرادَتْ وتُريدُ، بكلِّ جَوارِحِها، أن تُكمِلَ في جَسَدِها ما نَقُصَ من آلام المسيح عنهم (قو 1، 24) بِحمْلِ صَليبِهم مَعَهُ، بالقَدْرِ والطَّريقَةِ اللّذَين يَشاءَهُما هُوَ. (القدّيسَتان رِيتا ورَفقا، ناهينا عن مار بولس صاحب تلك الكلمات الـمُلهَمَة)
النيَّة الثانية: أن تَقصُدَ بأن تَفيَ، لَيسَ فَقَط عَن خطاياها التي قد وَفَتْ عَنها مِرارًا وتَكرارًا، أنّما أيضًا عن خَطايا مَن حَمَلَتْ خَطاياهُم على قَلبِها الـمُفعَمِ بحُبِّ المسيحِ وحُبِّ خلاصِ “الخَروفِ الضّال” معَهُ، وذلكَ، إضافةً إلى الإماتاتِ التي سَبَقَ ذِكرُها، بأَعمالِ الرَّحمَةِ التَطْبيقيَّة معَ صِغارِ الـمَلكوتِ الذينَ عدّدّهُم المسيحُ في إنجيل الدينونة العظمى.(مت 25، 31-46)
إن النفسَ الـمُزمعةَ أن تكونَ رسولةً لهذا السّرّ الـمُعِدِّ لاتِّحادٍ “سينِرْجِيٍّ” بالمسيحِ يَأتي بالعَجائب، تُؤمنُ إيمانًا ثابتًا بأنَّهُ كَما حَمَلَ يَسوعُ بخطاياها عَلَيها هيَ بِدَورِها أن تَحمِلَ مَعَهُ بخَطايا الآخَرين، وتؤمِنُ إيمانًا ثابتًا أيضًا، مبنيًّا على شفاعةِ والدةِ اللهِ العذراءِ مريم، بأنَّ نِعمَةَ الروحِ القُدُس الّتي تُعطَى بهذا السرّ هي نَفسُها التي تُكتَسَبُ بِسرِّ الاِفخارِستيَّا (الـمُناولة)، وبأنَّ إضافةَ نِعمَةِ هذا السِّرِّ على نِعمَةِ ذاكَ تؤسِّسُ للسّينِرْجْيا الخَلاصيَّةَ الـمُحدِثةً للعَجائِب. (مت 21، 21 -22)
النيَّة الثالثة: أن تَطلُبَ منَ الرّبِ بَحرارَةٍ، قبلَ كُلِّ سِرٍّ تُقدِمُ عَلَيه، أن يَجعَلَها رَسولَةً صالِحَةً لِوَحدَةِ جَسَدِهِ الـمُقَدَّسِ بـمُساهَمَتِها بِتَوبَةِ الخَطأةِ التي دَعا هوَ بالذاتِ لَها (مر 1، 15؛ مت 4، 17 ؛ لــو 4، 14-15)، وكما أتى في البيت الثالث من مَسبحةِ النور.
إن “فعلَ الندامةِ الثالث” يَليقُ بِهذِهِ النَّفوسِ الوَرِعَةِ الـمُدرِكَةِ ليَكونَ لها فَرضا مُقدَّسًا ومُقَدِّسًا من فُروضِ تَعَبُّدِها لِلمَسيحِ، لها أجرُهُ عندَ الله بأن ترى، في هذهِ الحَياةِ، الخَطأةَ يَتوبونَ والـمُصالحاتِ تَتِمُّ بِشَكلٍ غير مُتَوَقَّعٍ، وفي الحياةِ التّاليةِ، فَرَحٌ معَ المسيحِ بِعَودَةِ كُلِّ مَن كَانَ ضالًا فَوُجِدَ ومَيْتًا وعاشَ عن يَدِها.