المسيحيّة ، لا تعرف الله المجرّد المطلق والفلسفي ، بل الله الثالوث الواحد . (الله العلائقي – الوحدة والكثرة). ولا تقول أبدا بتعدد الجواهر فيه ، كأن يكون هناك ثلاثة جواهر إلهية معا ، لكن ، ما نقصده ، الجوهر العلائقي الواحد .
الله ، لا يمكن أن يوضع في اطار وقالب جامدين ، أو كما تقول بعض الفلسفات الحلوليّة ، أنّ الله جزءًا من هذا العالم الذي خلقه ، فيصبح هنا الله ، شيئا يوضع في مكان ما ، في حيّز ما ، أو كتكملة عدد أو كحاجة أو قطعة من هذا العالم . الله ليس آلة عمياء نشغّلها حسب ما تشاء رغائبنا ومصالحنا ، وهذا مع الأسف ، ما نراه اليوم في عالمنا المعاصر ، عالم التقنية والاتصالات ، عالم هائج متراكض سريع . عندما نستعمل الله فقط كحاجةٍ ما من حاجات الانسان المريضة .
الله ، ليس نظريّة رياضيّة يمكن بواسطته تجميع المعلومات الدقيقة في ورقة ما ، وعمل الملاحظات العامة ، والمبرهنات الحسابية ، مع كون الخطأ والصواب مسموحا بهما في هذه العمليّة ؛ لكي نصل في الآخر إلى إظهار من هو الله الواحد . عندما نقول أو يقال لنا ، إن الله واحدٌ أحد ، يجب بالاحرى ، فهم معنى هذا التصريح . وأيضا – وهذا هو المهمّ والأكثر واقعية في معرفتنا لله – إظهار كيف عرفت وأيقنت الشعوب والديانات أن (الله واحدٌ) ، وما معنى الوحدة هذه ..؟
إنّ هذا البند من قانون الإيمان المسيحيّ الذي يلجأ إليه المسيحيّ منذ ألفي سنة (الإيمان بإله واحد) ، ليؤكّد إيمانه ، يرقى إلى زمن أقدم بكثير ؛ إنه النسخة المسيحيّة عن المجاهرة اليوميّة بالإيمان التي كان يقوم بها بنو اسرائيل ” إسمع يا اسرائيل إن الربّ إلهنا ربّ واحد ” كما ذكر في الحلقة السابقة . فقانون الإيمان المسيحيّ ، منذ كلماته الآولى ، يكرّر قانون إيمان اسرائيل ، وبحثه عن الله ، وتجربة الإيمان لدى اسرائيل : هكذا يصبح صراعه من أجل الله بعدًا من أبعاد الإيمان المسيحيّ ، هذا الإيمان الذي لم يكن ليوجد لولا هذا الصراع .
يقول جوزيف راتسنجر في كتابه ” مدخلٌ إلى الإيمان المسيحيّ ” ، إننا نلمسُ هنا ، لمامًا ، ناموسيّا أساسيّا من نواميس تاريخ الأديان والإيمان : وإن تطوّر هذا الإيمان حصل ، دائمًا ، بصورة مرتبطة مع ما سبقه ، من دون أن يكون ثمّة أيّ إنقطاع كليّ ” .
إيمان اسرائيل لم يولد فجأة ، إنما تنامى في مناخ من الصراعات ومن المجابهة مع معتقدات الأمم المجاورة ، متوسّلا عمليّات الانتقاء والتأويلات الجديدة بما تتضمّنه من الإستمرار والتحوّل في آن واحد . إذن ، ” يهوه ، إلهكَ ، هو ربٌّ واحد ” ، هذه المجاهرة الإيمانيّة الأساسيّة هي بمثــــــابة قماشة الخلفيّة بالنسبة إلى قانون إيمانـــــنا ؛ إنها تعني ، رفض آلهة الشعوب المجاورة ؛ إنها اعتراف جهريّ ، بالمعنى التام للكلمة ، لا مجرّد رأي في جملة الآراء ، بل خيار وجوديّ . وتعني أيضا ، هذه المجاهرة الإيمانيّة ، من حيث كونها رفضا لتعدد الآلهة ، رفض تأليــــــــــه القوى السياسيّة والظاهرات الكونية مثل الموت والحياة .
عندما نعترف نحن المسيحيّون بالله ، لا نتكلّم عن الإله الذي تتحدّث عنه أساطير القرون القديمة في قصص الآلهة . ولا نتكلّم أيضا عن الإله الذي يختبره المتصوّفون في قلوبهم ، ولا على إله الفلاسفة . إننا نعني ” إله التاريخ الحيّ ” ، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ( خروج 3 : 6 ، متى 22 : 32 ) ، إله اسرائيل . وأخيرًا ، الله الذي هو إله ربنا يسوع المسيج .
وحدانيّة الله إذن ليست وحدانيّة الذرّة بل إنها وحدانية العلاقة والتمايُز ، إنها وحدة – وتمايُز . إن الله هو خصوبة دائمة وليس إنعزالا مطلقـــــــــــــــًا . وحدانيـــــــــّة الله ليس رياضيّة ؛ المسيحيّون لا يؤمنون بـــ “رياضيّات الله الواحد ” بل ، ” سرّ الثالوث الواحد ” . فوحدانيّة الله ليست ” عدديـــّة ” (ليست 1 في الرياضيّــــات ) ، بل إنه وحدة محبّة .