لا نؤمنُ بإله ٍ فوقيّ واقفٌ كــ ” شرطيّ ” يعطينا مخالفات وغرامات على أيّ خطإ نفعله ! والضابط الكلّ ليس هذا الشرطيّ طبعـــًا ، بل له معنىً آخر أعمق جدّا . الإله الضابط الكلّ ، هو الإله الذي يعرفنا معرفة كاملة بلا غموض ولا تشويه . كثيرون يجدون صعوبات في هذا القول الأساسيّ في قانون إيماننا المسيحيّ ، إذ يرون أنّ الإعتراف بــ ” الله كأب ” ضابط الكلّ ، هو تعبير منحازٌ إلى جانب الرجال وهو أساسُ تسلط الرجال في المجتمع . ولكن لفظة َ ” أب ” ، عندما تـــُطلق على الله الذي هو فوق التمييز بين الجنسين ، يجبُ فهمُها على نحو رمزيّ . فهي تشير إلى أن الله هو المصدر الأخير والحاوي كلّ شيء والمتسامي في آن معا ، وهو ينبوعُ الحياة المبدِع ، الذي يلتفت إلى الإنسان حافظــــا إيّاه ومعتنيا عليه بمحبّته ورحمته .
هذا الإعتراف بالله كآب ضابط الكلّ يدعو الله من جهة الضابطَ الكلّ ، الذي يخلقُ كلّ شيء ، ويحملُ كلّ شيء ، ويقود كلّ شيء ، والذي يُمسك بيده العالم والتاريخ (ليس على طريقة الأساطير اليونانيّة بطريقة قدريّة ، بل من خلال عنايته الإلهيّة ) ، فالإله الضابط الكلّ هو الإله المعتني بأولاده ، وليس كمراقب يراقبُ الإنسان . فهذا الإله ليس طاغية ولا سيّدا مستبدا ، بل هو أبٌ صالح . فهو يعتني بعشب الحقل وبطيور السماء ، وأكثرَ من ذلك يعتني بالإنسان (متى 6 : 26 – 30) . والناسُ ليسوا عبيدًا له ؛ بل بالحريّ يتّخذهم له أبناءً وبنات ، وأصدقاء . ومتى صارَ الله ” كلا في الكلّ ” (1 كور 15 : 28) في سيادة الله الآتية ، عندئذ يبدأ ملكوتُ حرية أبناء الله وملكوت مجدِهم .
وعندما نسأل ، ما هي العناية الإلهيّة ؟
يجيبنا كتاب الــ youcat : الله يوجّه حياتي والعالم ، لكن بطريقة سرية . يقودُ الله الكلّ نحو كماله في سبل هو وحده يعرفها . ولا يسقط في أيّ وقت من يده ما خلقه (فهو يخلق ويحفظ في الوجود ) . الله يؤثّر في الأحداث الكبرى في التاريخ كما في الأحداث الصغرى لحياتنا الشخصيّة من دون أن يفترض ذلك تقييدَ حريّتنا أو نكون مجرّد دمىً لتصاميمه الأبدية . فبالله تكمنُ ” حياتنا وحركتنا وكياننا ” (أعمال 17 : 28) .
الله الآب الضابط الكلّ هو ، أنه يريد أن يكتب بشكل مستقيم على الخطوط المعوجّة في حياتنا . إنه فعلا ” الضابط الكلّ ” يضبطنا على إيقاع حقيقيّ لا مزيّف ، لا يضعنا في موقع نشاز مع الواقع ، هذا إن كنــــّا معه متحدين ؛ لكن إن لم نكن معه ، فمؤكّد أننا سنكون منحرفين إلى طرق أخرى مغايرة لطريقه ، وسنكون في مواضع حرجة تسبّب السقوط في آبار مظلمة .
يقول الأب هنري بولاد اليسوعيّ : ” حين أفكّر في الله الآب ، لا أفكّر فقط في كائن خلقني ثم ألقى بي في الدنيا – (بمعنى أنه دحرجني بعد أن خلقني من خلال منحدر ولم يعدّ يهتمّ بي ! ) – وقال لي : تصرّف بمفردك . كلّا ، فهو يعتني بي بإستمرار ، مثل الأب الأرضيّ الذي لا يكتفي بأن يعطي ابنه الحياة ، ثم يتركه أو يضعه في ملجأ ” .
يقول اللاهوتيّ السويسريّ هانس أورس فون بلتازاز : ” .. لئن كان العهد الجديد ، في كثير من مقاطعه ، يدعو الآب ” ضابط الكلّ ” ، فإننا ندرك الآن ، أن قدرة الله الكليّة لا يمكنها أن تكون سوى قدرة على بذل الذات بذلا شيءَ يستطيع ضبطه . فما هو ذلك الشيء الذي يمكنه أن يفوق قدرة إقامةَ حقيقة ” متساوية في الجوهر ” ، أي لها الحبّ ذاته ، والقدرة ذاتها ، وليست إلهــــًا آخرُ في الله ؟ ( في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان لدى الله ، وكان الكلمة الله ” (يوحنا 1 : 1 ) .
الكلمة ، اللوغوس الإلهيّ ، الضابط الكلّ على إيقاعه الرهيبْ ، إنه منذ البدء ” ضابط الكلّ ” ، يزن الكلّ بميزان إلهيّ لا أرضيّ . يعطي “المعيار الحقيقيّ لكلّ كائن ويشكّله بحسب إرادته التي لا تتناقض وحريّة الإنسان التي أنعمَ بها الله ، على الإنسان .
يعطينا أيضا الكاردينال اللاهوتيّ اللامع جوزيف راتسنجر (البابا بنديكتوس السادس عشر ) تعريفا لتعبير ” الضابط الكلّ ” : إن كلمة الضابط الكلّ ترتدي ، أو ما ترتدي ، معنى كونيّا ؛ أمّا المعنى السياسيّ الذي تحمله أيضا ، فقد اكتسبته في ما بعد ، واصبحت (بفعل ذلك) تعني الله بصفته ربّ جميع الأرباب …. إن قانون الإيمان المسيحيّ قد جمع بين الفكرة العائليّة وفكرة القدرة الكونيّة بغية وصف الإله الأوحد ، فسمّاه ” الآب ” و ” الضابط الكلّ ” ، معًا . وهو بهذا الفعل (يقول راتسنجر ) يعبّر تعبيرًا دقيقا عن المسألة صورة الله المسيحيّة ” أعني” الإنشداد بين السلطان المطلق والحبّ المطلق ، بين البعد المطلق والقرب المطلق ، بين كمال الوجود المطلق والرعاية للعنصر الإنسانيّ الأميز في الإنسان ، ذاك الإنصهار (هو الذي يحصل من تداخل الأقصى والأدنى ” .
يتبع
مراجع هذه الحلقة السادسة
1 – المسيحيّة في عقائدها ، نشره مجلس أساقفة ألمانيا ، ترجمة من الألمانيّة المطران سليم بسترس
2 – نؤمن (تأملات في قانون الرسل) ، هانس أورس فون بلتازار ، نقله إلى العربيّة الأب كميل حشيمه اليسوعيّ
3 – الله غير ما نتصوّره ، الأب هنري بولاد اليسوعيّ
4 – youcat ، التعليم المسيحيّ الكاثوليكيّ للشبيبة
5 – مدخل إلى الإيمان المسيحيّ ، الكاردينال جوزيف راتسنجر ، ترجمه الدكتور نبيل خوري