تحدثنا في القسمين السابقين لهذه المقالة عن الحديث عن أرواح، شياطين، رذائل، وقد يبدو الأمر غير واقعي أو آني لكثيرين. إلا أن روح الضجر هو آني جدًا في زمننا، هذا الزمن الذي بنى قيمه على قائدة اللهو، التمتع والمتعة. سننظر في هذا القسم الثالث من المقالة إلى بعض وجوه آنية رذيلة الضجر.
1- فقدان المعنى
لعل أول مظاهر رذيلة الضجر (acedia) هو العدمية. العدمية في جوهرها هي كره ورفض للكيان بحد ذاته وهي انحلال الشخص البشري. هي امتلاك وسائل العيش دون امتلاك أسباب العيش. هي الكآبة الروحية (spiritual depression). قلنا سابقًا أن الـ acedia كانت تعني بالقدم عدم الإكتراث بالأقارب الموتى، و”ضجر” الإنسان المعاصر هو عدم الاكتراث بمعنى يجعل الحياة تستحق أن تعاش.
2- اليأس
هو أول أبناء العدمية. وقد كتب بشأنه يوسف راتزنغر عندما كان شابًا وهو يحلل ثورة التحرر من كل القيم في الـ 68: “بعد أن تذوقنا وعود الحرية اللامحدودة، يمكننا أن نفهم الآن بوضوح أكثر معنى ’ضيق وحزن الكون‘. فاللذات المحرمة فقدت جاذبيتها حالما لم تعد محرمة. وحتى عندما تمارس إلى أقصى الحدود، تظهر بلا طعمة لأنها محدودة، أما نحن فعطشنا لا متناهٍ”. هذه الخيبة تحمل إلى نوع من اليأس يميّز الشباب الذين رأوا الكثير في حياة قصيرة، وأدركوا أن ما من شيء مرئي يستطيع أن يروي غليلهم.
3- الحاجة للتغيير باستمرار
إذا كان الضجر يتجلى في حياة الرهبان بالهروب من الخلية، ففي حالة الإنسان المعاصر تتجلى بالحاجة الخانقة للتغيير المستمر، لحصاد خبرات جديدة، لتذوق كل أنواع الخبرات. أليس نجاح الرواية الإيروتيكية الرخيصة “خمسون ظلاً من الرمادي” تعبيرًا فصيحًا عن ركوض الإنسان المعاصر وراء تنوع الخبرات التي لا تعمق معرفته وحكمته بل تشتته باستمرار عن ذاته. فهذه الظلال الجنسية في الرواية، إنما تحجب اللقاء، تحجب الغاية الحقة وراء العلاقة الجنسية.
في سعيه القلق والمريض وراء ما هو جديد، يعمق الإنسان هوّة يأسه وعدميته، لأن كل جديد يضحي قديمًا حالما يلمسه الزمان.
هذه الظاهرة تتجلى بأشكال مختلفة ونجدها أيضًا لدى الأطفال. فبينما في أجيال سابقة – عادة – كان الأطفال يلعبون بلعبة جديدة لأيام وأسابيع، في عصرنا الاستهلاكي نجد الأطفال يتلقون كمًّا هائلاً من الهداية التي يملون منها بسرعة تتطابق عديدها. الإنسان المعاصر يدوس الخبرات بدل أن يجتازها.
4- الهرب من عظمة الذات!
ربما يشكل هذا البعد أحد مفاجآت تحليل رذيلة الضجر. فقد نظن أن من يبحث دومًا عن خبرات جديدة، عن غوص جديد في أشكال اللذات والمتع، هو أناني كبير. نعم ولا!! هو أناني لأنه يركز على ما يظن أنه يرضي ذاته، ولكنه ليس يحب ذاته بالمعنى السليم لسببين[1]. لا يحب ذاته بالمعنى السليم أي أنه بالواقع لا يريد خير نفسه، بل يهرب من نفسه في الخبرات؛ ولا يحب نفسه بالمعنى السليم لأنه يغوص في خبرات لا تحمل له فائدة مناسبة، ولا تحمله إلى خيره الحق وإلى الخير الأسمى.
وهنا يفاجئنا القديس توما عندما يتحدث عن أن استصغار الذات هو من ثمار رذيلة الضجر. فقد تعودنا أن نقول أن الكبرياء هو رأس الرذائل، إلا أن الأضداد تتلامس. فالكبرياء الكبير يلامس احتقار الذات الكبير. وكلاهما يعبّران عن نوع من الكبرياء. وقد قال القديس فرنسيس السالسي: “الكآبة الكبرى لا تخلو من الكبرياء”. فمن كان متواضعًا حقًا يعرف كم هو ضعيف وكم هو بحاجة للرب ولذا لا يغوص في كآبة كبيرة وفي يأس كبير.
بالعودة إلى هذه النقطة التي لا نسمع الكثير عنها في الأحاديث الروحية، يعلم القديس توما الأكويني أن هذه الرذيلة التي يمكننا أن نسميها “رذيلة النفس الصغيرة” تعارض فضيلة السخاء، سعة القلب وهي تتكون من عدم إمكانية النظر إلى الحياة بوجهة كبيرة، وجهة يقول لنا الكتاب أنها تصل إلى الشراكة في حياة الله نفسه!
5- الهرب من الله
العبارة الأخيرة من المقطع السابق تجعلنا نفكر بأن الهروب الذي يعيشه الإنسان المعاصر من خلال الانغماس في الخبرات اللامتناهية تعبير عن هروب من اللقاء بالذات وبالآخر. وهذا الهروب يظهر في بعده الأخير كهروب من الله. وهنا أيضًا كتب راتزنغر في شبابه: “طبيعة رذيلة الضجر هي الهروب من الله، هي الرغبة بأن لا يُزعجنا الله البتة”.
نعيش في أيامنا هذه بحسب نولت تجربة معاكسة لتجربة سفر التكوين في فصله الثالث. فبينها تجربة آدم وحواء كانت أن “يضحوا مثل الله”. تجربة الإنسان المعاصر هي الانتحار الميتافيزيقي الذي قد يصل إلى الانتحار الحقيقي. كم من الشباب تركوا رسالة بعد انتحارهم كتبوا فيها: لقد سئمت عيشًا لا معنى له.
عندما يفقد الإنسان الأفق المطلق، أفق الرب، أفق الحب الإلهي، يجد نفسه أمام خيارين: البحث عن اللامتناهي في المكان الخاطئ، في خبرات لامتناهي لا نتفك نفرغه أكثر فأكثر، أو الرضوخ لانتحار وجودي…
…
ولكن هل من دواء؟!
[1] (أدرك أن التعبير قد يثير اعتراض البعض. فكيف نتحدث عن حب ذات سليم؟ ألفت أن لهذه المقولة جذور عميقة في تعليم الآباء القديسين، وسننظر فيها في المستقبل. أقول ببساطة أن القديس هو من يحب نفسه بشكل سليم أكثر من أي شخص آخ
ر لأنه يختار الله والآخرين ويسدي نفسه خيرًا عميمًا، لا بل الخير الأعظم)