يرى الراهب اليسوعيّ الإسبانيّ مالدونا (1533 – 1583) أنّ الإحتمال الثاني أقرب إلى الصحّة . ويُطرَح السؤال نفسه عندما نُقِلَ يسوع إلى شرفة الهيكل وإلى قمّة الجبل . هل كان ذلك نقلا فعليّا أم رؤيا داخليّة أحدثها الشيطان في نفس يسوع؟
يميلُ جان كالفان إلى الرؤيا العاديّة ، في حين يؤكّد مالدونا واقعيّة المشهدين ، ويشير إلى أنّ يسوع لم يطِر في الجوّ . المشكلة التاريخيّة الأشدّ جديّة في روايات تجارب يسوع هي مشكلة الترتيب الذي قُدّمت به . فمتّى ولوقا لا يقدّمان ترتيبَ الأحداث نفسه : فالتجربة الثانية بحسب متى ( على شرفة الهيكل ) هي الثالثة عند لوقا ، والعكس بالعكس ، وهنا يتّفق مالدونا وكالفان في الرأي .
يقول كالفان : يجب ألاّ يعيقنا كثيرًا أن يروي لوقا في مرحلة ثانية ما رواه متى في مرحلة ثالثة ، لأنّ الإنجيليّين لم يحرصا على أن يتتبّعا تماما التسلسل التاريخيّ ، ولا التزما دومًا كاملَ الترتيب الزمنيّ ، بل التزما فقط تقديم مجموعة مختصرة النقاط الأساسيّة ، كي يضعا أمام أعيننا ، كما في لوحة أو مرآة ، أكثر ما كان يلزمنا أن نعرفه عن أعمال المسيح وأقواله .
يكتبُ مالدونا الراهب اليسوعيّ ، بطريقة أشدّ إعتدالا ، أنه لا ينبغي أن نقلق لهذا الإختلاف ” لأنه ليس من عادة الإنجيليّين – كما باقي كتّاب القصص المقدّسة – أن يطابقوا بين رواياتهم والتسلسل الزمنيّ ” . وتـــُطرح أيضا أسئلة أخرى تسمحُ للتفسير بأن يترك ظاهر النصّ ليغوصَ في أعماقه . وهي تدور حول معنى صوم يسوع وتجاربه .
إنه صومٌ كامل ، كما يُلاحظ مالدونا ، لأنّ يسوع صام ليلا ونهارًا ( لا كاليهود الذي يُسمح لهم بالأكل ليلا) . ولكن ، لماذا أربعين يومًا ؟ أوّلا لكي نتأمل شخص يسوع بالمقارنة ببطلي العهد القديم موسى وإيليّا . وأيضا لأنّ الرقم ” أربعين ” يتوافق وعدّة روايات كتابيّة ، ويخفي في داخله بعض الأسرار التي حيّرت القدّيس أوغسطينوس (بحسب مالدونا الذي يستعملُ كثيرًا دراسات الآباء في تفسيره ) .
ثمّة نقطة أخرى لليسوعيّ الإسبانيّ تستحقّ الذكر : الصوم الكامل لمدّة أربعين يومًأ أثار الجوع عند يسوع . ولكنّ الكتاب المقدّس لا يذكر هذا التأثير في حالتي موسى وإيليّا . لقد تمّ ذكره إذا عمدًا : إنّ يسوع ، في نهاية هذا الإمتحان المضني ، أصبح ضعيفا جدّا ، وأراد أن يواجه الشيطان وهو بالتحديد في هذا الوضع المهين ، لا في جلال مجده الإلهيّ . أما دافع تجربة الكلمة المتجسّد فيظهر لدى مالدونا بطريقة مدرسيّة صرفة ، إذ يجمعُ بعضَ العموميّات التربويّة ، في حين يدخل كالفان أكثر في تفاصيل كلّ تجربة ، ويُظهر البعد المثاليّ لدى المسيحيّين في مقاومة يسوع الشيطانَ .