مشكلة الإنسان المعاصر هي الافتقار للفرح. لقد اكتشفنا وسائل كثيرة لكي نحصل على اللذة، ولكننا لم نكتشف سر السعادة والفرح. داؤنا الأساسي ليس الشر، بل البؤس. في رياضة روحية تلاها أمام البابا يوحنا بولس الثاني، تحدث كريستوف شونبورن أن الحزن هو شر يصيب الكنيسة كجماعة. وقد قال بهذا الشأن: “أزمة الكنيسة المعاصرة تكمن في أننا لا نؤمن بما فيه الكفاية بالخير الذي يريد الله أن يحققه في الذين يحبونه. نقص إيماننا الروحي والديني هذا كان يُعرف في العصور القديمة باسم “الضجر” (acedia)، أي الخمول الروحي”.
إن سرعة وسهولة الانتقال من الحزن إلى الشر يبين لنا أن هناك تواصل قوي بين ما هو نفسي وما هو روحي في حياتنا. وكان الآباء الروحيون يعرفون ذلك جيدًا، لهذا كرسوا اهتماما خاصًا لظاهرة الضجر. سننظر إلى هذه المسألة في قسمين أساسيين. القسم الأول تاريخي، وننظر فيه في التفكير المنهجي حول خطيئة الضجر. القسم الثاني هو آني وننظر فيه في آنية هذه الرذيلة الخطيرة جدًا.
الضجر الروحي: تعليم إيفاغريوس البنطي
لماذا سمّى الآباء الضجر “شيطان الظهيرة”؟ عادة نفكر بأن الشيطان يهاجمنا خلال الليل. وإلى حد ما، توقعنا لهجومه يجعلنا نكون على استعداد. بينما لا نتوقع هجومًا عندما تكون الشمس في أعلى نقطة في السماء وتنير كل شيء. ولهذا يضحي هجومه غير المتوقع قاتلاً ومدمرًا. فعندما نتوهم أن كل شيء في وضح النهار، يكون هجوم الظلمة الخاطف رهيبًا.
التحليل المنهجي الأول لرذيلة الضجر يعود إلى إيفاغريوس البنطي وذلك في تعليمه حول الأرواح الشريرة الثماني. وهذا التعليم يأتي من قراءة رمزية لكتاب تثنية الاشتراع الفصل السابع. يتحدث هذا الفصل عن الشعوب التي حاربها إسرائيل وقد رأى فيها الآباء رمزًا للشياطين والأفكار الشريرة التي تواجه النفس. الشر الأكبر، بحسب إيفاغريوس هو مصر الفراعنه التي هي رمز الكبرياء. فالكبرياء هو أصل الرذائل. أما الأرواح والأفكار الأخرى فهي: الشراهة، الزنى، الجشع (أو حب المال)، الكآبة، الغضب، الضجر والمجد الباطل”. (تختلف الترجمات نظرًا أنها تنطلق من اليونانية).
ينطلق إيفاغريوس من الرذائل الجسدية ليصل إلى الرذائل الروحية ويبين الترابط بينها. فالشراهة تؤدي إلى الشهوة، والشهوة بحاجة للمال لتحقق مآربها، ومنها يأتي الميل إلى حب المال، وعندما لا يملك الإنسان ما يكفيه من المال ليحقق رغباته يقع في أشراك الحزن، والغضب ومن ثمّ الضجر.
هذه الأفكار (logismoi) تجد أصلها في نزعتي الإنسان الأساسيتين وهما: الرغبة والغضب. الأولى تنبع من الطبع النفسي والثانية من الجسدي. وإلى جانب هاتين النزعتين، هناك في الإنسان العنصر الفكري. هذا وما يُخيف في روح الضجر هو أنه يشمل الأبعاد الثلاثة على حد سواء.
على صعيد آخر، من الجميل أن نفكر في أصل كلمة “ضجر”. فباليونانية ” akedía ” أصل الكلمة يعني “عدم الاكتراث”. وكانت تستعمل للحديث عمّن يهمل دفن موتاه. وفي تطبيق هذه النزعة على البُعد الروحي، نرى أنها تشير إلى عدم اكثراث وعدم مبالاة نحو الحياة الروحية، نحو خلاص النفس.
وبما أن آباء الكنيسة كانوا رهبانًا، فإن تجلي الضجر الأكبر كان في عدم المبالاة نحو حياة الخلوة التي تُعاش في الخلية (غرفة الراهب). فهذا الضجر والملل يتجلى في عدم إمكانية التعايش مع الذات ومع الجهاد الروحي.
أما دواء الضجر بحسب البنطي فهو: الدموع (دموع التوبة)، الصلاة والعمل، الأفكار المناقضة لوسوسات الشيطان، التأمل بالموت والثبات.
سننظر في القسم المقبل بتطور التفكير المنهجي وصولا إلى القديس توما الأكويني.
تعليم توما الأكويني
قبل أن يصل تعليم إيفاغريوس إلى القديس توما الأكويني، مر على يد بعض المعلمين الذين أضافوا خبرتهم وتعمّقهم للمسألة. نذكر على سبيل المثال كاسيانوس الذي حوّل الضجر إلى رذيلة الخمول. وقد أثّر في تعليمه هذا على القديس مبارك، مؤسس الحياة الرهبانية في الغرب.
وقام تلميذ القديس مبارك، البابا غريغوريوس الكبير بصياغة لائحة جديدة للرذائل المميتة فجعلها سبعة. أخرج غريغوريوس الكبرياء من اللائحة باعتباره رأس كل الرذائل والشرور. ودمج الضجر بالحزن. ولكي يصل إلى العدد سبعة أدرج رذيلة الحسد.
قام القديس توما الأكويني بالنظر في هذه التعاليم ساعيًا لكي يدمجها في نظرة موحدة. انطلق المعلم الملائكي من الترابط الوثيق بين الحياة الروحية والحياة الأخلاقية فقام بوصف الضجر كـ “الحزن أمام الخير الإلهي”. فالضجر هو الخطيئة الأولى ضد الفرح الذي يتولد من المحبة. هو بكلمة خطيئة ضد فرح المحبة (gaudium caritate).
بالنسبة لتوما الأكويني، الإنسان خُلق للسعادة. الخبرة الأولى التي يقوم بها الإنسان في مجال السعادة هي خبرة اللذة. من هذا المنطلق يفكر توما الأكويني بالنزعات، فهذه هي الخبرات الأولى والبدائية للسعادة. على رأس كل النزعات نجد الحب. فتوما الأكويني يدهشنا بتفاؤله الأنثروبولوجي إذ يقول أن الحب هو محرك تصرفاتنا كبشر، حتى عندما نفعل الشرور!! ماذا يقصد الأكويني بذلك؟ يقصد أن ما يدفع الإنسان للقيام بعمل ما هو حب شيء معيّن. قد يكون الحب خاطئًا وسيئًا، ولكنه بالواقع حب لشيء ما، ولو لم يحركه حب لشيء لما كان الإنسان ليقوم بأفعاله.
ولكن إذا كان صحيحًا أننا نتصرف انطلاقًا من الحب، كيف يكون أن يقوم الإنسان باختيار الشر؟ وكيف يكون أن يختبر الإنسان الكآبة والضجر في علاقته بالله الخير الأسمى والحب الأسمى؟؟
يجيب توما الأكويني: إن الإنسان يختبر الحزن في علاقته بالله لأنه يضطر أن يتخلى عن خيرات جسدية، زمنية وظاهرية، وهي في ميزانه أكثر ثقلاً من الخير الإلهي، الذي يظهر للإنسان في حالته الجسدية وكأنه أقل قيمة وواقعية من الخيرات الزهيدة التي يركض وراءها. وهنا بالتحديد يندرج الحديث عن رذيلة الضجر. فالضجر يدخل في علاقة الصداقة بين الله والإنسان، علاقة تحمل بحد ذاتها فرحًا عميقًا ولكنها بسبب طبعنا الضعيف والرذيل تضحي جافة، تعيسة وفاترة.
ويبقى السؤال الأخير في هذه المقالة: هل رذيلة الضجر الروحي آنية؟ سنتحدث عن هذا الأمر في القسم الثالث والأخير من المقالة.
تحدثنا في القسمين السابقين لهذه المقالة عن الحديث عن أرواح، شياطين، رذائل، وقد يبدو الأمر غير واقعي أو آني لكثيرين. إلا أن روح الضجر هو آني جدًا في زمننا، هذا الزمن الذي بنى قيمه على قائدة اللهو، التمتع والمتعة. سننظر في هذا القسم الثالث من المقالة إلى بعض وجوه آنية رذيلة الضجر.
1- فقدان المعنى
لعل أول مظاهر رذيلة الضجر (acedia) هو العدمية. العدمية في جوهرها هي كره ورفض للكيان بحد ذاته وهي انحلال الشخص البشري. هي امتلاك وسائل العيش دون امتلاك أسباب العيش. هي الكآبة الروحية (spiritual depression). قلنا سابقًا أن الـ acedia كانت تعني بالقدم عدم الإكتراث بالأقارب الموتى، و”ضجر” الإنسان المعاصر هو عدم الاكتراث بمعنى يجعل الحياة تستحق أن تعاش.
2- اليأس
هو أول أبناء العدمية. وقد كتب بشأنه يوسف راتزنغر عندما كان شابًا وهو يحلل ثورة التحرر من كل القيم في الـ 68: “بعد أن تذوقنا وعود الحرية اللامحدودة، يمكننا أن نفهم الآن بوضوح أكثر معنى ’ضيق وحزن الكون‘. فاللذات المحرمة فقدت جاذبيتها حالما لم تعد محرمة. وحتى عندما تمارس إلى أقصى الحدود، تظهر بلا طعمة لأنها محدودة، أما نحن فعطشنا لا متناهٍ”. هذه الخيبة تحمل إلى نوع من اليأس يميّز الشباب الذين رأوا الكثير في حياة قصيرة، وأدركوا أن ما من شيء مرئي يستطيع أن يروي غليلهم.
3- الحاجة للتغيير باستمرار
إذا كان الضجر يتجلى في حياة الرهبان بالهروب من الخلية، ففي حالة الإنسان المعاصر تتجلى بالحاجة الخانقة للتغيير المستمر، لحصاد خبرات جديدة، لتذوق كل أنواع الخبرات. أليس نجاح الرواية الإيروتيكية الرخيصة “خمسون ظلاً من الرمادي” تعبيرًا فصيحًا عن ركوض الإنسان المعاصر وراء تنوع الخبرات التي لا تعمق معرفته وحكمته بل تشتته باستمرار عن ذاته. فهذه الظلال الجنسية في الرواية، إنما تحجب اللقاء، تحجب الغاية الحقة وراء العلاقة الجنسية.
في سعيه القلق والمريض وراء ما هو جديد، يعمق الإنسان هوّة يأسه وعدميته، لأن كل جديد يضحي قديمًا حالما يلمسه الزمان.
هذه الظاهرة تتجلى بأشكال مختلفة ونجدها أيضًا لدى الأطفال. فبينما في أجيال سابقة – عادة – كان الأطفال يلعبون بلعبة جديدة لأيام وأسابيع، في عصرنا الاستهلاكي نجد الأطفال يتلقون كمًّا هائلاً من الهداية التي يملون منها بسرعة تتطابق عديدها. الإنسان المعاصر يدوس الخبرات بدل أن يجتازها.
4- الهرب من عظمة الذات!
ربما يشكل هذا البعد أحد مفاجآت تحليل رذيلة الضجر. فقد نظن أن من يبحث دومًا عن خبرات جديدة، عن غوص جديد في أشكال اللذات والمتع، هو أناني كبير. نعم ولا!! هو أناني لأنه يركز على ما يظن أنه يرضي ذاته، ولكنه ليس يحب ذاته بالمعنى السليم لسببين[1]. لا يحب ذاته بالمعنى السليم أي أنه بالواقع لا يريد خير نفسه، بل يهرب من نفسه في الخبرات؛ ولا يحب نفسه بالمعنى السليم لأنه يغوص في خبرات لا تحمل له فائدة مناسبة، ولا تحمله إلى خيره الحق وإلى الخير الأسمى.
وهنا يفاجئنا القديس توما عندما يتحدث عن أن استصغار الذات هو من ثمار رذيلة الضجر. فقد تعودنا أن نقول أن الكبرياء هو رأس الرذائل، إلا أن الأضداد تتلامس. فالكبرياء الكبير يلامس احتقار الذات الكبير. وكلاهما يعبّران عن نوع من الكبرياء. وقد قال القديس فرنسيس السالسي: “الكآبة الكبرى لا تخلو من الكبرياء”. فمن كان متواضعًا حقًا يعرف كم هو ضعيف وكم هو بحاجة للرب ولذا لا يغوص في كآبة كبيرة وفي يأس كبير.
بالعودة إلى هذه النقطة التي لا نسمع الكثير عنها في الأحاديث الروحية، يعلم القديس توما الأكويني أن هذه الرذيلة التي يمكننا أن نسميها “رذيلة النفس الصغيرة” تعارض فضيلة السخاء، سعة القلب وهي تتكون من عدم إمكانية النظر إلى الحياة بوجهة كبيرة، وجهة يقول لنا الكتاب أنها تصل إلى الشراكة في حياة الله نفسه!
5- الهرب من الله
العبارة الأخيرة من المقطع السابق تجعلنا نفكر بأن الهروب الذي يعيشه الإنسان المعاصر من خلال الانغماس في الخبرات اللامتناهية تعبير عن هروب من اللقاء بالذات وبالآخر. وهذا الهروب يظهر في بعده الأخير كهروب من الله. وهنا أيضًا كتب راتزنغر في شبابه: “طبيعة رذيلة الضجر هي الهروب من الله، هي الرغبة بأن لا يُزعجنا الله البتة”.
نعيش في أيامنا هذه بحسب نولت تجربة معاك
سة لتجربة سفر التكوين في فصله الثالث. فبينها تجربة آدم وحواء كانت أن “يضحوا مثل الله”. تجربة الإنسان المعاصر هي الانتحار الميتافيزيقي الذي قد يصل إلى الانتحار الحقيقي. كم من الشباب تركوا رسالة بعد انتحارهم كتبوا فيها: لقد سئمت عيشًا لا معنى له.
عندما يفقد الإنسان الأفق المطلق، أفق الرب، أفق الحب الإلهي، يجد نفسه أمام خيارين: البحث عن اللامتناهي في المكان الخاطئ، في خبرات لامتناهي لا نتفك نفرغه أكثر فأكثر، أو الرضوخ لانتحار وجودي…
…
ولكن هل من دواء؟!
[1] (أدرك أن التعبير قد يثير اعتراض البعض. فكيف نتحدث عن حب ذات سليم؟ ألفت أن لهذه المقولة جذور عميقة في تعليم الآباء القديسين، وسننظر فيها في المستقبل. أقول ببساطة أن القديس هو من يحب نفسه بشكل سليم أكثر من أي شخص آخر لأنه يختار الله والآخرين ويسدي نفسه خيرًا عميمًا، لا بل الخير الأعظم)