بعد أن أبرزت نذورها الإحتفاليّة ، جاهدت من أجل الكمال ، ربّما بتقوى أكثر من الفطنة ، لأنها سرعان ما مرضت ، فاضطُـــرّ والدها إلى أن يأخذها إلى مدينة قريبة للعلاج . بيد أنّ العلاج كان أسوأ من المرض ، وأعيدت تريزا إلى بيتها الوالديّ في أفيلا لتنتظر الموت . ودخلت في غيبوبة دامت أربعة أيّام ، فكانت راقدة وكأنها ميتة . وتم تحضير قبرها في دير التجسّد ، والوحيد الذي منع دفنها هو والدها . واستعادت صحّتها تدريجيّا لتعود إلى الدير ، ولكنها ظلت مشلولة فترة من الزمن . وحين تعافت تمامًا في آخر الأمر ، نسبت شفاءها إلى شفاعة القديس يوسف ، فصارت تكنّ له منذ ذلك الحين ، تقوى عميقة .
يمكننا أن نجد تعليم القديسة تريزا في ثلاثة من أعمالها الشهيرة : السيرة ، طريق الكمال ، المنازل . والأخير المذكور هم الأهمّ الآن في طرحنا . وخلافا لكثير من المقالات في الصلاة قبل زمن القديس اغناطيوس ، فقد كانت مؤلفات القديسة تريزا عمليّة أكثر منها نظريّة ، وصفيّة أكثر منها تفسيريّة ، مع بصيرة لا تقدّر بثمن من خبرة ٍ شخصيّة وملاحظة ٍ دقيقة لسلوك الآخرين .
المـــنازل … إنها تصوّر النفسَ كقصر ٍ مؤلّف من عدّة أجنحة أو شقق ، ويجلسُ المسيح في وسطه على عرش ملكا . كلّما تقدّمت النفس في ممارسة الصلاة ، انتقلت من شقة إلى شقة أخرى . وبعد أن تمرّ بسبع شقق ، ربّما تصل إلى أعمق الحجرات . وخارج القصر عتمة ، وفي الخندق الذي يحيطُ بالقصر مخلوقات كريهة تتعفرّ بالطين . حين تعتزم النفس سلوم طريق الصلاة وتتخلّى عن الأشياء المخلوقة ، تدخل القصر ويتوجّب عليها أن تتبعَ طريق الصلاة الذي يمرّ أوّلا بثلاث مراحل من الصلاة الفاعلة أو الزهديّة ، ثمّ بأربع مراحل من الصلاة المنفعلة أو الصوفيّة .
ما الذي تقصده القديسة تريزا من هذا ؟
يقول P.Eugene – Marie (I want to see God) : ” في رأيي ، ليست الصلاة شيئا آخر غير حوار صداقة ، التكلّم مرارًا وحدنا مع الذي نعرف أنه يحبّنا . إنه حوارٌ محبّ بين صديقين ، وتقدّم الإنسان في الصلاة هو علامة أكيدة على تقدّمه في الحياة الروحيّة . وعلى الرغم من أنّ القديسة تريزا تدرك أهميّة المعرفة ، تلحّ على أنّ التقدّم في الصلاة ليس التوافق الكبير في الفكر بل التوافق الكبير في الحبّ . بالإضافة إلى ذلك ، وكما هو حال القديس يوحنا الصليب ، فإنها مدافعة كبيرة عن حريّة النفس في إخضاع ذاتها لعمل الروح القدس . لهذا السبب ، كانت حريصة دومًا على صون النفس من إستبداد منهج ٍ موضوع . فالقديسة تريزا لا تساوي مجمل الحياة الروحيّة بممارسة الصلاة . وهي تعالج أيضا مواضيع مختلفة كمعرفة الذات ، والتواضع ، والمحبة الأخويّة ، والإرشاد الروحيّ ، والصداقة الروحيّة ، والزهد ، والرسالة ” .
رحلة النفس عبر مراحل الصلاة الثلاث بحسب ” المنازل ” ، ونجدُ هذا في المنازل الآولى . النفس في حالة المبتدئة وتعيش في النعمة ، لكنّها لا تزالُ متعلّقة كثيرًا بالأشياء الأرضيّة ، ومعرّضة دومًا لخطر الإبتعاد عن رغباتها الصالحة . إنّ ممارسة الصلاة في هذه المرحلة هي لفظيّة صرفة .
عندما توشك النفس على دخول المنازل الثانية ، تبدأ بممارسة الصلاة العقليّة ، على الرغم من وجود فترات متكرّرة من الجفاف والصعوبات التي تدفعُ النفس إلى التخلّي عن بذل الجهد . بالإنتقال إلى المنازل الثانية ، تدخل النفس في المرحلة الأخيرة من الصلاة الطبيعيّة أو المكتسبة ، وهي تسمّى صلاة الخلوة المكتسبة . إنها وعي لحضور الله . ومن شدّة حيويّة هذا الحضور ، تتحد كل القدرات في حالة خلوة ٍ مع الله وانتباه ٍ إليه . وتشير القديسة إلى أنّ هذا النمط من الصلاة يتعزّز إذا نمّت النفس وعيا لحضور الله فينا ، وأخضعتْ ذاتها كليّة للمشيئة الإلهيّة ، وجاهدت دومًا لتعيش في حضور الله حتى حين تنخرط في إنشغالات أخرى غير ممارسة الصلاة .
المنازل الأربعة تــــُدخِلُ النفس إلى أوّل أنواع الصلاة الصوفيّة ، وهي صلاة فائقة الطبيعة ومفاضة . تسمى بالتسمية العامة : صلاة الهدوء . إنها خلوة مفاضة أو منفعلة ، وهي اتحاد حميم للفكر مع الله ، بحيث تتمتّع النفس بوعي ٍ حيّ لحضور الله .
بيد أنّ كمال الصلاة في المنازل الرابعة ، هو صلاة الهدوء بالمعنى الحرفيّ . إنه نوع من الصلاة تغرق الإرادة فيه بحبّ الله ، وتتحد بالله لأنه صلاحها الأعلى . ومع ذلك ، تظل الذاكرة والتخيّل حرّين أو ” غير مرتبطين ” ، وقد يهدّدان ، في بعض الأحيان ، ببلبلة النفس . لذلك ، تنصح القديسة تريزا بأن يظلّ الشخص هادئا ومختليا أمام الله ، ويستسلم تماما لذراعي الحبّ الإلهيّ .
إنّ هدف العمل الإلهيّ في النفس هو جذب كل القدرات وتثبيتها في الله . وبالنتيجة ، في المنازل الخامسة ، تدخل النفس في صلاة الإتحاد ، وهي تشمل مختلف درجات التركيز . ففي صلاة الإتحاد البسيط تختلي كلّ قدرات النفس في الله . حينها تدرك النفسَ أنّ الله صار حاضرًا بطريقة تجعلها ” حين تعود إلى نفسها ، لا تشكّ قط أنها في الله وأن الله فيها ” .