في تذكار إهتداء بولس الرسول ، لا بدّ من كلمات ٍ – ولو أنها لا تكفي – تقال حول هذا الكشف الإلهيّ … فهل هو إهتداءٌ أم أمر آخر ؟!
فغالبًا ما أطلقَ على رواية أعمال الرسل (فصل 9) عنوان ” إهتداء شاول ” . إلاّ أنّ مفسّرا معاصرًا كبيرًا واختصاصيّا ببولس استنكرَ بشدّة هذا التعبير ، فكتبَ : ” لن يرضى بولس أبدًا أن يتحدّث أحد عن اهتدائه ! وقد يرتضي ، في أحسن الأحوال ، أن يقال بأنه ، مع بقائه في الشجرة ذاتها ، غيّر موقعه بين الأغصان ” . وبالفعل ، لم يتحدّث بولس قطّ عن ” إهتداء ” إلاّ في ما يتعلّق بوثنيّين قدامى ، كالتسالونيقيّين : ” اهتديتم إلى الله وتركتم الأوثان لتعملوا لله الحقّ الحيّ ” (1 تس 1 : 9) .
قد كُتب الكثير حول تحوّل (إنقلاب) بولس الرسول ، ومن وجهات نظر متعدّدة طبعًا . لقد حدث هناك تحوّل بالتأكيد ، لا بل إنقلاب كامل في المنظور 180 درجة . فبشكل غير منتظر ، بدأ القدّيس بولس يعتبر ” خسرانا ” و ” أقذارًا ” كلّ ما كان يعتبره سابقـا المِثال الأعلى ، وحتى سبب وجوده (فيلبّي 3 : 7 – 8 ) . غالبًا – لا بل كثيرًا – ما نضع نحن أيضا مثالا أعلى نضرب له التحيّة ونتبعه ، لكنّ ، وبعد التحوّل الجذريّ في العلاقة مع الربّ ، سنعتبرُ كل مثالاتنا الفذّة وكأنها قذارات الحياة .
جنون الصليب والكشف الإلهيّ لأبوّة الله ليسوع ابنه !
على طريق دمشق ، كشف إله اسرائيل لبولس عن كونه أبا يسوع المصلوب . وكشف لوقا في رواية سفر الأعمال ، عن معنى هذا الحوار المدهش : من أنت يا ربّ ؟ – أنا يسوع الذي أنت تضطهده ” (رسل 9 : 5 ) . فيسوع ، ذاك المسيح الكاذب الذي حرّف إيمان اسرائيل ، ذاك المحكوك عليه ونُفّذ فيه حكم الإعدام بصفة لصّ ، يلتقيه بولس حيّـــــا ، في قلب معرفته لله . وهكذا ، لم يعد الصليب ، إذن ، فشلا ذريعـــًا ، بل كشفــــًا للسر الخلاصيّ ، ولمحبّة الله في أقصى درجاتها وكأنها جنونٌ وهوىً . فهذا ما يسمى ” إهتداءًا ” ، هو ، بالأحرى ، ” إنقلابٌ تجاه يسوع ” .. فعوضا عن محاربة رسالة الدجّال المصلوب (بحسب شاول المتطرّف) ، هوّذا شاول ( المنقلبْ لبولس) ، يعلنها على رؤوس الملأ وينشرها بصفتها ” إنجيلا ” ، أي بشرى سارة بشأن محبة الآب . ” من خلال كشف يسوع تسقط الأقنعة والقشور من الذات والغشاوة ” .
إنّ هذا الإنقلاب في صورة الإله أنارَ فَهم بولس الصليبْ كواحد ٍ من أعظم مصادر الوحي الإلهيّ . وفَهِمَ بولس ، في نور الصليبْ ، أنّ قدرة الله تظهر في أقصى حدود الضعف . وأنّ ” كلّ الجماعة التي كان شاول يضطهدها ، هي يسوع وهم أعضاءٌ في جسد واحد ” .
يقول ش . رينييه : ” أنّ لقاء بولس بالمسيح على طريق دمشق يعتبر نواة حياته وتجربته الروحيّة وفكره اللاهوتيّ ” . إذن ، من المستحسن والمنطقيّ أن نضعَ كلمة ” كشف ” بدلا من كلمة ” إهتداء ” ؛ إنه كشفٌ صادر عن اختيار الله بحريّة . ففي نظره ، ” نزع الربّ الستار الذي كان يمنعه عن رؤية مجده في وجه المسيح يسوع ” (ب . بوني) . ويضيف أيضا ( Paul Bony) : ” … إذا أردنا الكلام عن إهتداء يجب القول فورًا أن المقصود ليس إهتداءً أخلاقيّا ولا تغييرًا في الديانة …. لقد وعى بولس أكثر من أيّ وقت ٍ آخر أنه ابن اسرائيل ، بل هو إهتداء إلى الله كما ينكشفُ في يسوع المسيح ؛ فالمسألة هي مسألة ” إلتفاف نحو يسوع المصلوب ” . لقد تحوّل بولس من إنسان يريد الإمساك والإستحواذ على الله وإمتلاكه إلى شخص مـــُستَحوَذ من قبل الربّ القائم ( المسيح قبضَ عليّ ، كما يقول بولس ) .
حدث الإنقلاب والتغيير لدى بولس ، لم يأتِ من تفكير شخصيّ ، بل بسبب حدث هامّ ولقاء مع القائم من الأموات . ” كان العماد في الكنيسة القديمة يسمّى ” الإستنارة ” ، لأنّ هذا السرّ يُنير ويجعلنا نرى بالفعل . وما نعتبره هكذا لاهوتيّا ، يتحقّق في بولس جسديّا أيضا : فقد شفيَ من عماه الداخليّ ، فأمسى يرى جيّدا” (البابا بنديكتوس السادس عشر) . ويسأل البابا بنديكتوس ، لماذا لم يفسّر بولس حدث دمشق كهداية ؟ هناك فرضيّات عدّة ، ولكنّ السبب جليٌّ جدا بالنسبة لبنديكتوس : فهذا التغيّر في حياته ، هذا التحوّل لكلّ كينونته ، لم يكن ثمرة تطوّر سيكولوجيّ ، ثمرة نضوج أو نموّ فكريّ وأخلاقيّ ، بل أتى من الخارج : لم يكن ثمرة فكره ، بل ثمرة لقائه مع يسوع المسيح . بهذا المعنى لم تكن هداية وحسب ، ولا نضوجًا لشخصيّته ، بل كان ” موتا وقيامة له شخصيّا ” . ماتت له حياة قديمة ، وولدت حياة جديدة مع المسيح القائم . اللقاء هذا هو التجدّد الحقيقيّ الذي غيّر كلّ معاييره وأصبح يسوع القائم من الأموات هو مقياسه ومعياره لا أفكاره المسبقة وتطرّفه المستحِوذ عليه ، لأنّ ” تطرّفه وعنجهيّته أضحيا أقذارًا ” .
Robert Cheaib - theologhia.com
من إرهابيّ متطرّف لمبشّر ورسول المسيحيّة الأعظم !
هل نتكلّم عن إهتداء بولس ؟