Maronite Patriarch Bechara Rai

Robert Cheaib - https://www.flickr.com/photos/theologhia/

وجه الرحمة هو الله

عظة البطريرك الراعي

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

“رابوني، أن أُبصر”

(مر 10: 51)

1. يظهر من هذه الحادثة، أنّ الأعمى كان بفضل إيمانه المبصر الحقيقي بين الجمع الغفير الذي كان يتبع يسوع. ففيما كان المارّ بالنسبة إلى الجماهير “يسوع الناصري”، رأى فيه الأعمى، بعين الإيمان،“المسيح المنتظر ابن داود”، و”وجه رحمة الله”، القادر على شفائه من عماه. ولهذا راح يصرخ إليه: “أيّها المسيح ابن داود! ارحمني” (مر10: 47). ولأنّه أدرك بإيمانه أنّ يسوع هو النور الآتي إلى العالم، لم يلتمس منه صدقةً مالية، كما من سائر الناس، بل النور لعينَيه المنطفئتَين. فعندما سأله يسوع: “ماذا تريد أن أصنع لك؟ أجاب للحال: رابوني، أن أُبصر” (مر10: 51).

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية هنا في بازيليك سيدة لبنان-حريصا لنحتفل مع أخوياتنا بعيدهنّ السنوي الذي هو عادةً في عيد بشارة العذراء مريم المتزامن هذه السنة مع الجمعة العظيمة. فإنّا نهنِّئ جميع الأخويات أعضاء وعمدات وأقاليم ومرشدين، ونهنّئ الرابطة مرشدًا عامًّا ورئيسًا ولجنة إدارية. نسأل الله بشفاعة أمّنا مريم العذراء، أن يبارك أخويّاتنا بفيضٍ من نعمه، كي يتقدّس أعضاؤها، وتزدهر وتنمو لتكون شهود إيمان، وخَدَمَة محبة وبُناة وحدة وسلام.

إن المقياس الأساسي للانتساب إلى أية أخوية هو التعمّق في الإيمان والمجاهرة به بالكلمة والموقف والأعمال، في كل ما يتعلق بحقيقة المسيح والكنيسة والإنسان. فالحقيقة المثلثة هذه هي نور العقل والقلب والضمير، بدونها وخارجًا عنها يهيم الانسان في ظلام.

3. وبالأسى والرجاء نحتفل بهذه الذبيحة الإلهية لراحة نفوس الأخوات الراهبات مرسلات المحبة للطوباوية الأمّ تريزا دي كلكوتا، اللواتي سقطن شهيدات الإيمان في عَدَن في اليمن في 4 أذار الجاري على يد مسلّحين وهنّ المرحومات الأخوات: Anselm من الهند، و Marguerite من رواندا، و Judith من كينيا، وReginette من رواندا التي كانت تستعدّ لإبراز نذورها الرهبانية المؤبّدة. وإذ بالنذور تلتزم الاقتداء بالمسيح مدى الحياة، فإنها بالاستشهاد مع أخواتها تبلغ الاقتداء التام به في شهادته وموته على الصليب، لفداء الجنس البشري؛ وتحتلّ معهن “المكان تحت مذبح الحمل المذبوح مع نفوس سائر المذبوحين في سبيل كلمة الله والشهادة التي شهدوها”، على ما نقرأ ف رؤيا يوحنا (6؛ 9).

4. إنّنا نتقدّم بالتعازي الحارّة من الأخوات الراهبات مرسلات المحبة اللواتي يواصلن خدمة المحبة في اليمن في أربعة أديار، ومن رئيستهنّ العامّة الحاضرة معنا، الأخت Prema، والرئيسة الإقليمية لمنطقة الشَّرق الأوسط الحاضرة معنا هي أيضًا، والجماعات الآتية من بيروت وبشري في لبنان، ومن الدويلع ودمشق في سوريا، فنحيِّي رئيسات الأديار الأربعة والراهبات الحاضرات معهنّ. ونقدّم تعازينا لجماعة الراهبات في دير حلب بسوريا، اللواتي يخدمن دار العجزة والمرضى هناك، ولم يستطعن المجيء بسبب الأوضاع الأمنية الراهنة. ونوجّه تعازينا مقرونةً بالصلاة إلى أهالي وعائلات الراهبات الشهيدات.

نقدّم هذه التعازي ونحتفل بهذه الذبيحة الإلهية مع السّادة المطارنة والرؤساء العامّين والرئيسات العامّاتوهذا الجمهور من الآباء والرهبان والراهبات. إن في قلوبنا رجاءً وعزاءً بأنّ الراهبات شهيدات الإيمان يتكلّلن بإكليل الشهداء، مع مَن سبقهنّ من راهبات سلكن طريق الاستشهاد، ولاسيّما الراهبات الثلاث اللواتي سقطن شهيدات برصاص مسلّحين في المنطقة نفسها سنة 1998.

كلّهن يشكّلن إكليل المجد حول رأس مؤسِّستِهن الطوباوية الأم تريزا دي كالوكوتا، التي تستعدّ الكنيسة الجامعة للاحتفال بإعلان قداستها وإدراجها في سجلّ القديسين في الأشهر القادمة على يد قداسة البابا فرنسيس  في بازيليك القديس بطرس بروما.

5. ونذكر بصلاتنا العاملين غير المسيحيين الذين استشهدوا مع الراهبات الأربع في دار العجزة في عدن، وقد وقفوا سدًّا منيعًا بوجه المسلّحين لمنعهم من الاعتداء على الراهبات. فقتلوهم جميعًا، ثمّ أطلقوا النار على الراهبات من دون رحمة، في يوبيل سنة الرحمة المقدّسة. نصلّي إلى الله كي يتقبّل استشهادهم في مجد السماء، ويعزّي عائلاتهم بفيضٍ من حنانه.

إنّنا نشكر الله على نجاة رئيسة الدير في عدن الأخت Sally من الهند التي لم تتواجد في مكان استشهاد أخواتها الراهبات الأربع. ويبقى القلق حول مصير الأب السالزياني Tom Uzhunnlil الذي كان يقيم في الدير، واختفى بعد الحادثة المؤلمة.

6. ويؤلم الراهبات جدًّا انّ الستّين مسنًّا الذين يعيشون في تلك الدار، هم في حالة صحّية تحتاج إلى عناية، ويبكون الراهبات والعاملين، ويطالبون ببقاء مرسلات المحبة فيما بينهم، لأنّهنّ يؤلّفن مع كلّ العاملين والمساعِدات والعجزة أسرةً واحدة بتعدّد أديانها، ويرون من خلالهم وجه الله – المحبة.

ومعلومٌ أنّ للراهبات مرسلات المحبة أربعة أديار في اليمن: ففي سنة 1973 افتتحن الدير الأوّل في منطقة الحديدة، وبعد سنة أسّسن الدير الثاني في منطقة تعز، والثالث سنة 1976 في العاصمة صنعاء، والرابع في عدن سنة 1992. في جميع هذه الأديار كما في سواها في لبنان وسوريا وغيرها، يتكرس الراهبات لخدمة المسنين والمسنات والمساجين والمعوقّين من كبار وصغار.

7. إنّ استشهاد الراهبات يزيد أخواتهن قناعةً واندفاعاً رساليًّا للبقاء في تلك البلاد، التي لا تعرف اليوم إلّا لغة الحرب والسلاح والقتل والدمار، وهي بأمسّ الحاجة إلى لغة إنجيل المحبة والسلام وقدسية الحياة البشرية. ليست لغة الإنجيل “العين بالعين والسّن بالسّن” (متى 5: 28)، بل لغة المغفرة والصلاة.

 

 

ونحن نؤمن أن بلدان هذا المشرق التي على أرضها تجلّى سرُّ الله الواحد والثالوث، سرّ الله المحبة والرحمة، والتي منها أُعلن إنجيل يسوع المسيح لخلاص كلّ إنسان، هي اليوم، أكثر من أيّ يوم مضى بأمسّ الحاجة إلى الوجود المسيحي الشاهد والفاعل، “كخميرةٍ في العجين، وملح في الطعام” (متى5: 13؛ 13: 33).

وكون “دم الشهداء بذارَ المسيحيّين”، على ما ردّد آباء الكنيسة فإن جمعية الراهبات مرسلات المحبة، كما الكنيسة وسائر مؤسساتها، ستنمو أكثر فأكثر، لأن بدم الشهداء يتواصل سرّ المسيح الكلي الذي هو الكنيسة المشبه “بحبة الحنطة التي، إذا ما وقعت في الأرض وماتت، أعطت ثمرًا كثيرًا” (يو 12: 24).

8. “رابوني، أن ابصر” (مر10: 51).

عندما أعاد يسوع البصرَ إلى عينَي أعمى أريحا، أراد أن يبيّن للجمع أنّه كان المبصر الحقيقي، وربّما الوحيد بينهم، بفضل إيمانه، فقال له: “إذهب! إيمانُك خلّصك” (مر10: 52). أجل البصر الحقيقي هو البصر الداخلي: بصر العقل المستنير بالإيمان والحكمة، وبصر الإرادة المستنيرة بمشورة الروح القدس والثبات في الرجاء، وبصر القلب المستنير بالمحبة وتقوى الله. وبالتالي العمى الحقيقي هو العمى الداخلي النابع، كما يقول قداسة البابا فرنسيس، من “هذيان الكبرياء والقوّة والنفوذ والمال (راجع رسالة الصوم، 3). هذا العمى الداخلي يُظلم الحياة الاجتماعية والسياسية، ويعمي عيون أصحاب السلطة والقرار عن رؤية ضحايا الشّر والظلم والاستبداد، وحالات الفقر والحرمان والجوع والبطالة واليأس من مستقبل أفضل. والعمى الداخلي يحوّل قلب صاحبه إلى “قلبٍ من حجر”، قلبٍ يفقد كلّ شعور إنساني وشفقة ورحمة، ويهيم في ظلمة مصالحه، وسجن أفكاره، وسلاسل نظرته الضيّقة ومواقفه المتحجّرة.

9. نقول هذا كدعوة موجّهة إلى كلّ صاحب مسؤولية في العائلة والكنيسة والمجتمع والدولة. ونقولها بنوع خاصّ إلى المسؤولين السياسيّين عندنا، في البرلمان والحكومة والمؤسّسات العامّة والأحزاب. ونتساءل مع الشعب اللبناني: كيف يمكن تبرير الوصول بالبلاد إلى هذه الحالة من التفكّك والانحلال؟ هل من مبرّر بعد اليوم، ومن باب الضمير الوطني، لإبقاء سدّة الرئاسة في فراغ منذ سنة وعشرة أشهر؟ ولتعطيل عمل المجلس النيابي المسؤول عن التشريع والمساءلة والمحاسبة طيلة هذه المدّة؟ ولجعل الحكومة في حالة تعثّر واللاقرار؟ ولفتح الأبواب على مصراعيها لتفشي الفساد في الإدارات العامّة، ولتغطية المفسدين المجرمين؟ وإلى متى هذا التجنّي السافر على الدولة والشعب، وعلى مصير الأمّة بأسرها الذي يطالب به الشعب بتظاهرات متواصلة مع ما تقتضي من تضحيات؟ وعلى مستوى الشرق الأوسط، أليس العمى الداخلي النابع من مصالح الدول الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، هو الذي افتعل الحروب وموّلها ومدّها بالسلاح والمرتزقة، وحجّر قلوب حكام الدول شرقًا وغربًا، فلا يرون قهر السكان الأبرياء الذين يهجّروه بالملايين من سوريا والعراق وفلسطين وسواها؟ وأولئك الذين يسقطون يوميًا ضحايا الإرهابيين؟ ولا يرون المشرّدين والتائهين على أبواب الدول وقد خسروا جنى العمر؟

أجل، فلنصلِّ كلّنا ونلتمس من نور المسيح مع أعمى أريحا: “يا معلّم، أن ابصر”، بالبصيرة الداخلية، وأن ننجو كلّنا من عمى العقل والإرادة والقلب.

10. وأنتِ، أيتها الأخويات التي تغني الكنيسة في لبنان، ويا أعضاءها والقيّمين على شؤونها، عيشوا دعوتكم الخاصة ورسالتكم في الكنيسة: وهي أن تبنوا في المجتمع الأهلي ملكوت المسيح، ملكوت المحبة والأخوّة والسلام، ملكوت إنماء الشخص البشري والمجتمع، بحسب إرادة الله. وبذلك تعملون على تقديس العالم عبر القيام بواجباتكم العائلية والكنسية والاجتماعية، تقودكم أنوار الروح القدس، وتظللكم عناية أمنا مريم العذراء، سيدة البشارة، وسلطانة الرسل والشهداء، وسيدة لبنان.

ومعًا نرفع نشيد المجد والتسبيح لله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

Staff Reporter

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير