Robert Cheaib - Theologhia.com

" أنتم أطهار … " سرّ وقدوة – عطيّة وواجب (الوصيّة الجديدة) بحسب البابا بنديكتس السادس عشر

الفصل الثالث عشر من إنجيل يوحنا يقول فيه يسوع لتلاميذه ، في حادثة غسل الأرجل : ” أنتم أطهارًا ” . فهبةُ الطهارة ِ هي عملٌ من الله . ولا يستطيع الإنسان من تلقاء ذاته أن يصير أهلا لله ، أيّا كان […]

Share this Entry

الفصل الثالث عشر من إنجيل يوحنا يقول فيه يسوع لتلاميذه ، في حادثة غسل الأرجل : ” أنتم أطهارًا ” . فهبةُ الطهارة ِ هي عملٌ من الله . ولا يستطيع الإنسان من تلقاء ذاته أن يصير أهلا لله ، أيّا كان نظامُ الطهارة الذي يلجأ إليه . ففي كلمة يسوع الرائعة والبسيطة ” أنتم أطهارًا ” تعبير مختصر لسموّ سرّ المسيح . الله الذي ينزلُ إلينا يجعلنا أطهارًا . فالطهارة عطيّة .
لكن ، يبرزُ هنا إعتراضُ (يقول بنديكتس ) : بعد ذلك ببعض آيات ، يقول يسوع : ” فإذا كنتُ أنا الربّ والمعلّم قد غسلتُ أرجلكم ، فيجب عليكم أنتم أيضا أن يغسل بعضكم أرجلَ بعض . فقد جعلتُ لكم من نفسي قدوة ً لتصنعوا أنتم أيضا ما صنعت إليكم ” (يوحنا 13 : 14) . ألا نجد أنفسنا بإزاء رؤية أخلاقيّة بحتة للمسيحية ؟
يتحدّث رودلوف شناكنبورغ عن تفسيرين متناقضين لغسل الأرجل في الفصل 13 : التفسير الأوّل ” لاهوتيّ “، وهو أكثر عمقا … ويفهم عملية غسل الأرجل حدثا رمزيّا ، يشير إلى موت يسوع ؛ التفسير الثاني نموذجيّ صرف ، يتوقف عند تواضع يسوع في غسله الأرجل . يؤكّد رودلوف أنّ التفسير الثاني هو ” إختراعٌ تحريري” ، ولا سيّما وأن ” التفسير الثاني ، بحسب رأيه ، يتجاهل ، على ما يظهر ، التفسير الأوّل ” . لكن هذا التفكير محدود جدا ، وشديد الإرتباط بنماذج منطقنا الغربيّ . بحسب يوحنا ، أنّ عطية يسوع وفعاليّتها المستدامة لدى التلاميذ يسيران معًا في وجهة واحدة .
لقد لخّص الآباء الفارق بين التصوّرين وبين علاقاتهما المتبادلة في مقولتي السرّ والقدوة . بلفظة السر لا يقصدون هنا سرّا خاصّا ، لكن ، سرّ المسيح بكامله – في حياته وموته – إذ فيه يأتي إلى لقائنا نحن البشر ومن خلال روحه يأتي فينا ويحوّلنا . لكن هذا السرّ ” يُطهّر ” الإنسان حقا ، ويجدّده من الداخل ، يصبح حينئذ ديناميّة لوجود جديد . والطلب أن نعمل ما عمله يسوع ليس ملحقــًا أخلاقيّا للسرّ ، أو شيئا ينقضه . فهو يتأتّى من ديناميّة العطيّة الجوهريّة ، التي بها يجعل الربّ منّا بشرًا جددًا ، ويتقبّلنا في ما هو خاصّ به .
هذه الديناميّة ” ديناميّة العطية الجوهريّة ” ، التي يعمل ، هو نفسه ، من خلالها الآن فينا ، ونعمل نحنُ بوساطتها فيتماهى عملنا مع عمله ، تظهر بجلاء خاصّ في قول يسوع التالي : ” من آمن بي يعمل هو أيضا الأعمال التي أعملها أنا ، بل يعمل أعظم منها ، لأني ذاهبٌ إلى الآب ” (يو 14 : 12 ) . نجدُ هنا ، يقول بنديكتس السادس عشر ، تعبيرًا دقيقـــًا لما تعنيه في أثناء غسله الأرجل هذه الكلمات : ” جعلتُ لكم من نفسي قدوة ً ، يصبح تصرّف يسوع تصرّفَنا ، لأنه هو الذي يعمل فينا .
إذن ، إنطلاقا من هنا ، علينا أن نفهم أيضا الكلام على ” الوصيّة الجديدة ” التي بها ، بعد المقطع حول خيانة يهوذا ، عاود الدعوة إلى غسل ِ أرجل ٍ متبادَل ، وحوّل هذا العمل إلى مبدإ (يو 13 : 34 – 35) . يتساءل البابا ، علامَ تقومُ جديّة الوصيّة الجديدة هذه ؟ لأنّ جديّة العهد الجديد هي هنا ، في النهاية ، أساس الموضوع ، وبالتالي السؤال عن ” جوهر المسيحيّة ” ، نجد مهمّا التطرّق إليها بإنتباه ٍ خاصّ .
قيلَ إنّ الجديّة – خارج وصيّة محبّة القريب التي كانت موجودة من قبل – تظهر في العبارة ” أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم ” ، أي في المحبّة حتى درجة الإستعداد للتضحية بالحياة الخاصّة من أجل الآخر . فإذا كان جوهر ” الوصيّة الجديدة ” وكمالها يقوم على ذلك ، فيجب تحديد المسيحيّة ، حينئذ ، على أنها نوعٌ من الجهد الأخلاقيّ الأقصى . على هذا النحو ، يفسّر كثيرون العظة على الجبل : قياسًا على ما رسمه الطريق القديم ، طريق الوصايا العشر – التي تصف على نحو ما طريق الإنسان المتوسّط ، فتحت المسيحيّة ، مع العظة على الجبل ، الطريق السامية المبنيّة على تطلّب جذريّ ، التي تجلّى فيها مستوىً إنسانيّ جديد ، في قلب الإنسانيّة .
لكن ، مَن يستطيع القول عن نفسه ، في الواقع ، أنه سما على ” وسطيّة ” الوصايا العشر ، وتركها خلفه كأي شيء مكتسب ، ومشى أبدًا في إتجاه العلى ، في ” الشريعة الجديدة ” ؟ كلا ، فجديّة الوصيّة الجديدة الأصليّة ، لا يمكن (يقول البابا بنديكتس) أن تكون في سموّ التصرّف الأخلاقيّ . المهمّ ، في الحقيقة ، حتى في هذه الكلمات ، ليس النداء من أجل تصرّف أعظم ، بل الأساس الجديد للكيان الذي أعطيَ لنا . الجديّة لا تستطيع أن تتأتّى إلاّ من عطية الكيان مع المسيح ومن الكيان فيه .

Share this Entry

عدي توما

1

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير