1. ربّنا يسوع أصبح بعد قيامته مسيح الإيمان، بحيث لا نعرفه بعَين الجسد بل بعَين الإيمان، لا بعَين العقل بل بحُبّ القلب. وأصبحتْ هويّتَه الجديدة آثارُ صلبه، المرئيّة في ذبيحة القداس، وفي أجساد الأخوة المتألِّمين وأرواحهم. وبتنا نلمسها فيهم بمحبّتنا وأفعال الرحمة الجسدية والروحيّة. هذه هي أبعاد لقاء الربّ بتوما الرّسول. فلمّا رأى توما، المشكّك بقيامتة لشدّة الصدمة، آثار صلبه، آمنَ بألوهيّته، هاتفًا: “ربّي وإلهي!”. هذا الهتاف كان ثمرة الإيمان، الذي وهبَه إيّاه الربّ يسوع بقوله: “كن مؤمنًا لا غير مؤمن” (يوحنا 20: 27).
2. يُسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهية، والكنيسة تُحيي عيد الرّحمة الإلهيّة، الذي ثبّته القديس البابا يوحنا بولس الثاني في الأحد الذي يلي أحد القيامة، والمعروف “بالأحد الجديد” وعمّمه على الكنيسة جمعاء. نُحيي هذا الإحتفال مع جماعات الرحمة الإلهيّة الآتية من مختلف المناطق اللبنانيّة. فنرحّب بجميع أعضاء هذه الجماعات والمسؤولين فيها، ونحيي بسيادة أخينا المطران جورج اسكندر، الذي يُشرف عليها ويرعاها بعنايته الروحيّة، ومرشدها العام وسائر الآباء المرشدين. وإنّنا نلتمس من الله “الغنيّ الرّحمة” (أفسس4: 2) بشفاعة القديسة ماري – فوستين، أن يفتح قلوبنا على رحمته، التي بلغتْ ذروتها بتجسّد الإبن الإلهي وموته على الصليب لفداء الجنس البشري، وقيامته من الموت لتبريرنا، وأن نصبح بدورنا “رحومين كما الآب رحيمٌ هو” (لو 6: 36).
3. وفيما نرحّب بكم جميعًا، نُحيّي بشكلٍ خاصّ عائلة المرحوم الدكتور بطرس الهاشم، زوجته السّيدة كارلا أبي صالح، وابنَيه وابنتَه وسائر أنسبائه، والوفد المرافق من العاقورة العزيزة. وقد ودّعنا معهم بكثيرٍ من الأسى والرجاء العزيز الدكتور بطرس منذ أسبوعَين. فكانت الخسارة بموته كبيرة على مستوى عائلته الطريّة والعاقورة ككلّ والطبّ والتعليم الجامعي وقضاء جبيل. لكنّنا على يقين من أنّه ينعم بالسعادة الأبدية، بفضل إيمانه وأعماله البارّة وآلامه التي أشركته في آلام الفادي الإلهي. وفيما نذكره بصلاتنا نُجدّد تعزية الرجاء لأسرته ومحبّيه وأصدقائه الكُثُر.
4. كما نحيي الوفد الفرنسي الحاضر معنا.
Je salue cordialement les amis français présents parmi nous qui sont en mission éducationnelle et médico-sociale et de développement. je leur souhaite un bon séjour au Liban.
ونحيي الوفد البولوني.
Saluto cordialmente i nostri amici di Polonia chi sono in pellegrinaggio in Libano. Li ringrazio per il bollettino spirituale e pastorale che pubblicano in lingua araba e collaborano con il Centro Cattolico d’Informazione per la sua diffusione.
ونحيي ايضًا الوفد العراقي الذي يزور لبنان برفقة الاب توماس امين سرّ غبطة البطريرك ساكو، ومعهم نصلي من اجل السلام في العراق وفي كل بلدان الشرق الاوسط.
5. لقد آلمنا جدًا فاجعة مقتل الطفلة بتينا رعيدي برصاصة طائشة في قرطبون- جبيل منذ ثلاثة أيام. إننا نعرب عن تعازينا الحارّة لوالديها وعائلتها وسائر أنسبائها. الآن وهي ملاك في السماء، نصلي لكي يرحمنا الله ويكفّ شعبنا عن استعمال السلاح بشكل عشوائي. وكم يؤسفنا أنه لا يصغي ولا يلتزم بما نوجه مع السادة المطارنة من توجهات في هذا الشأن.
6. إنّ لقاء المسيح القائم من الموت وتوما وسائر الرسل هو دعوة إلى الإيمان بالمسيح ابن الله، الذي صارَ إنسانًا وافتدى كلّ واحد وواحدة منّا بموته على الصّليب، ومنحَنا الغفران والمصالحة مع الله. ولذا قالَ لتوما: “طوبى للّذين لم يرَوني وآمنوا” (يو20: 29). ولهذه الغاية كتبَ يوحنا إنجيله “لكي نؤمن أنّ يسوع هو المسيح إبنُ الله، فإذا آمنّا، نلنا باسمه الحياة الأبديّة” (يو 20: 30-31).
7. الإيمان عطيّة من الله، لكلّ إنسان، لكي يُنير عقله وقلبه بنور الحقيقة والمحبّة. بهذا النور نعرف الله، وندخل في شركة معه “فالبارّ بالإيمان يحيا” (روم1: 7)؛ ونبني علاقاتنا الإنسانية والإجتماعيّة مع الناس، على أساس من العدالة والإحترام والتّضامن والتعاون. ذلك أنّ “الإيمان الحيّ يفعل بالمحبّة” (غلا 5: 6).
8. من تجلّيات رحمة الله أنّه يكشف لنا ذاته خالقًا وفاديًا ومقدِّسًا، في الكُتُب المقدّسة وتعليم الكنيسة؛ ويهبنا ذاته في سرّ القربان ذبيحة فداء وطعامًا سماويًّا للحياة الأبدية، وفي سرّ التوبة أبًا غفورًا. كلّ ذلك لكي نؤمن ونعطي جواب الإيمان بخضوع العقل للحقيقة الموحاة، وبالتزام الإرادة في العمل بموجبها، وبحفظها في القلب كمعين محبّة ورحمة وفقًا لحاجات المحيط الذي نعيش فيه: أكنا في العائلة أم في الكنيسة، في المجتمع أم في الدّولة.
9. كشفَ الله لنا وجهه الرحوم بظهور الرب يسوع لراهبة من جمعيّة راهبات سيدة الرحمة في فرصوفيا (بولونيا)، هي القديسة ماري – فوستين سنة 1931. وظهرَ كما هو في هذه الصورة الموضوعة أمامنا، والتي طلبَ منها أن ترسمها كما هي وتكتب في أسفلها: “يا يسوع أنا أثق بك”، وأن يتمّ تكريمها في كنيسة الدير، ثمّ تنشرها في العالم أجمع.
إنّنا ننظر إلى هذه الصّورة ملتمسين رحمة الله المُفاضة علينا منها، بالشّعاعَين الأبيض والأحمر الخارجَين من جهة قلبه. إنّهما يُذكّران بالماء والدّم اللّذَين سالا من المكان نفسه، عندما طعنه أحد الجنود بحربة، وهو ميت على الصليب (راجع يو 19: 34). فالماء يرمز إلى المعموديّة التي تُطهّر النفوس، والدم إلى سر القربان الذي يُعطي الحياة للنفوس. هكذا ظهرت رحمة الله كجواب على خطايا البشر وشرورهم.
وبيده المرفوعة يُباركنا بعطيّة الشعاعَين، وبنظرة عينَيه يرمقنا والبشرية جمعاء، بنظرة رحمة وغفران كانت هي إيّاها نظرته من على الصليب، كما قالَ للرّاهبة ماري – فوستين. إليه ننظر بثقة، ولا سيّما في سنة الرحمة المقدّسة التي نعيشها متّحدين بنوايا قداسة البابا فرنسيس. ونعيشها وفقًا للطرق الثلاث التي أعطاها الرب يسوع للراهبة ماري-فوستين لممارسة الرحمة نحو كلّ إنسان: “الأولى بالأعمال، والثانية بالكلام، والثالثة بالصلاة.
10. دخلت رسالة الرحمة الإلهية في عمق نفس القديس البابا يوحنا بولس الثاني، ابن بولونيا. وشهد قائلًا: “كانت رسالة الرحمة قريبة دائمًا مني وعزيزة على قلبي. وقد أدرجها التاريخ في سياق التجربة المأساوية للحرب العالمية الثانية، فأمست الدعم المعين ومصدر الأمل للأمّة كلّها. كانت تجربتي الشخصية، وأخذتُها معي إلى الكرسي الرسولي، فشكّلت صورة حبريّتي”.
في الواقع، بعد رسالته الأولى بموضوع “فادي الإنسان” (1979)، كانت رسالته الثانية بموضوع “الرحمة الإلهية” (1980). يعتبر البابا يوحنا بولس الثاني أن “الرحمة هي جواب الله على الشّر الذي يعمّ العالم في الوقت الحاضر. ولذا، هي رسالة مطمئنة هدفها الأوّل الإنسان المثقل بتجارب مؤلمة، أو يرزح تحت وطأة الشّر الخارجي أو شرّ ذنوبه، ويكاد يفقد كلّ أمل في الحياة، ويسقط في إغراء اليأس”.
لمثل هذا الإنسان تشرق رحمة الله بالنور الخارج من قلب الإله الفادي، الذي ينيره ويبيّن له الطريق، ويملأه بالرجاء. فيهتف من صميم قلبه: “يا يسوع إنّي اثق بك”. كم من النفوس تعزّت بهذه الصلاة، هذا التسليم البسيط ليسوع يخترق حياة كلّ إنسان ويبدّد الغيوم الأكثر تلبيدًا.
11. عالمنا بحاجة إلى رحمة الله، فهي، في ضوء عيد القيامة الذي نعيشه، الضمانة للجميع على السواء: لمفتعلي الشر والأزمات والحروب، ولأولئك الذين يقعون ضحاياها. هذه الضمانة هي أن الشّر في النهاية لا ينتصر، بل الخير هو المنتصر في نهاية المطاف؛ وأن الحياةَ تنتصر على الموت، والحبَّ ينتصر على البغض، والبناءَ على الهدم، والتجرّدَ على المصلحة الذاتية. هذه الضمانة راسخة فينا، مهما كثر الشّر، وتفشّى الفساد، ومهما اختبأت النوايا السيئة وراء الأقنعة المزيّفة. فلا بدّ والحالة هذه من نشر عبادة الرحمة الإلهية في الرعايا، والتنشئة عليها، اكليروسًا وعلمانيين، والقيام بما توجب من أعمال ومبادرات مادية وروحية ومعنوية.
12. لا يمكن أن يعيش الناس بسلام في البيت والمجتمع والكنيسة والدولة من دون الرحمة. ولا يمكن أن نأمل بخلاص وطننا لبنان من أزمة فراغ سدّة الرئاسة ومما تبعها من خراب في المؤسسات الدستورية والعامة وتراجع في الاقتصاد والتجارة والسياحة، ما لم تسكن الرحمة في قلوب المسؤولين. ولن تقف الحروب الدائرة في المنطقة، وتُصاغ حلول سياسية للنزاعات في فلسطين والعراق وسوريا واليمن وليبيا وسواها، ويُعاد النازحون والمهجرون واللاجئون والمخطوفون إلى أوطانهم وممتلكاتهم، من دون رحمة تحرّك قلوب حكام الدول المعنية ومنظمة الأمم المتحدة.
13. فلنرفع أنظارنا وقلوبنا، ونحن نعبر الباب المقدس إلى المسيح وجه رحمة الآب، ونلتمس رحمة الله علينا لمغفرة خطايانا وشرورنا، راجين أن يسكبها في قلوبنا وفي قلب كل انسان، لكي تعود إليه انسانيته ومشاعرها التي تجعله على صورة الله. فله وحده كل تمجيد وتسبيح، الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.