لم يكن تكريس شهر أيار لمريم العذراء موجوداً في الكنيسة قبل القرن الثامن عشر، ولكننا نعلم أنّ الكنائس الشرقيّة كانت تكرّس ثلاثة أشهر من السنة لمريم العذراء. ففي ترنيمة ليتورجيّة قديمة نقرأ: “ليكن تذكار المباركة ثلاث مرّات في السنة: في كانون يكون تذكارها على الزروع (سيّدة الزروع)، وفي أيّار على السنابل (سيّدة الحصاد)، وفي آب يكون تذكارها على العناقيد (15 آب)، بما أنّ هذه العناقيد تصوّر سرّ الحياة”. من هنا، نستنتج أنّ الكنائس الشرقيّة كانت تعيّد لمريم العذراء في شهر أيّار قبل أن تتبنّى الكنائس الغربية ذلك في القرن الثامن عشر.
وفي مقال نشره موقع lexamoris.com الإلكتروني، نقرأ أنّه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت العبادات الشعبيّة بتكريس الأشهر لقدّيسين، نذكر منها على سبيل المثال أنّ آذار كُرّس للقديس يوسف مع موافقة البابا بيوس التاسع في 12 حزيران 1855، وحُدّد عيده في التاسع عشر منه.
أمّا شهر أيّار فكان أوّل شهر يُكرّس بأكمله لإكرام قدّيس، وقد بدأ هذا التكريم يظهر بقوّة في روما بمبادرة من الآباء اليسوعييّن في المعهد الروماني التابع لهم. ومن روما انتقل هذا التكريس إلى الولايات التي كانت خاضعة للسلطة البابويّة، ومنها إلى كلّ العالم الكاثوليكيّ.
لكن من الجدير بالذكر هنا أنّه قبل هذا التاريخ، كانت الكنيسة الغربيّة تكرّم مريم خلال شهر أيّار، بطريقة متواضعة ومحليّة دون انتشار واسع. ففي القرن الرابع عشر كان الراهب الدومينيكي هنري سوزو، في فترة تفتّح الورود، يدعو المؤمنين إلى تحضير أكاليل من الورود للعذراء الطاهرة. وفي الحقبة عينها كان القديس فيليب نيري يدعو الشبيبة إلى إكرام العذراء إكراماً خاصّاً في شهر أيّار، وكان يجمع الأطفال والشبيبة حول مذبح العذراء ليقدّموا لها مع الورود، الفضائل الروحيّة التي كانوا يريدون أن يعيشوها. أمّا في مقاطعة الألزاس، فقد كانت فتيات مكرّسات يدرن من باب إلى آخر لجمع الورود بهدف تزيين مذابح العذراء خلال شهر أيّار. وفي القرن السادس عشر والسابع عشر، بدأ الكبّوشيّون والفرنسيسكان بالاهتمام بهذا الشهر، فكتب راهب كبّوشيّ ثلاثين قصيدة مريميّة لإكرام العذراء في أيّار، كما بدأ الفرنسيسكان يصلّون صلاة فرض العذراء في كنيسة القديّسة كلارا الملكيّة. أمّا الدومينيكان فبدأوا سنة 1701 في مدن إيطالية بتكريم مريم طوال شهر أيّار.
ومن إيطاليا انتقل هذا التكريم المريمي في أيّار إلى فرنسا عشيّة الثورة الفرنسيّة، على يد الطوباويّة لويز دو فرانس، ابنة الملك لويس الخامس. وبعد الثورة، إبّان فترة إعادة النظام الملكيّ لفترة وجيزة في فرنسا، عمل الكرسيّ الرسوليّ على تشجيع التقوى والإكرام المريميّ، كسبيل لمواجهة العداء ضدّ المسيحيّة وضدّ الكنيسة، على الرغم من اعتراض العديدين. وبقي هذا العداء للشهر المريميّ، ومن خلاله للسلطة الكنسيّة، حتى بعدما أعطى البابا بيوس السابع موافقته عليه.
ونصل إلى شرقنا الحبيب حيث بدأت هذه العبادة تظهر في لبنان وسوريا وفلسطين بشكل خاصّ، نتيجة لعمل المرسلين والمبشّرين اللاتين، من يسوعيّين وكبّوشيّين وفرنسيسكان ودومينيكان وآباء لعازريين، فانتشرت هذه العادة في ربوعنا وصار أيّار شهر مريم، وهو لم يكن بجديد على الشرقيّين الذين كانوا قد بدأوا بإكرام مريم في أيار قبل دخول هذه العادة الى الكنيسة الغربية بحوالى الألف سنة.