البيئة والأخلاق
- عمد الفيلسوف ألدو ليوبولد Aldo Leopold (1887-1948) إلى تشجيع الأخلاقيّات في مجال البيئة محاولاً الربط بين النظريّات الأخلاقيّة والفلسفيّة واللاهوتيّة والتطبيق. فاعتبر أنّ كلّ جسم حيّ هو محور حياة، له غايته وقيمته الداخليّة. الأخلاقيّات في مجال البيئة تساعد على الإجابة على التحدّيات الجديدية التي تطرحها التقنيّات في تقدّمها السريع والتي لديها تداعيات خطرة أحياناً على الإنسان، على التنوّع البيولوجي وعلى الأرض.
- نعتقد دائماً أننا عندما نتكلّم عن الأخلاق في مجال البيئة، نقصد حماية أسس الحياة والإجابة المنطقيّة على كلّ تهديم يحصل لمختلف أشكال الحياة. ولكن هل نحن أعلى من البيئة وكأنّ لدينا سلطة مطلقة عليها ؟ هذه النظرية محدودة لأنّها تضع الإنسان بعلاقة خارجيّة مع البيئة وكأنّه مفصول عنها. فلكي نخرج من الأزمة البيئيّة علينا أن نستنبط علاقة جديدة مع الطبيعة بعيداً عن الإنفصال أو الإنصهار. وهذا يتطلّب منّا الإعتراف بإنتمائنا البيولوجي ووجودنا الجسديّ في هذا العالم. فنحن كأبناء الله بعلاقة مع الأرض.
- إنّ التكلّم عن البيئة والأخلاق مرتبط بحماية البيئة[1]. التي تستدعي أن يكون الإنسان بتواضع جزءاً أساسيّاً من هذه الخليقة. الملفت أنّ كلمة تواضع humus تعني الأرض. هذا التواضع يضعنا في مكاننا الصحيح بمعنى أننا لسنا كائنات فضائية ولا أصحاب الأرض إنما وكلاء ومستفيدين ممّا أعطانا إياه الرّب. نحن بعلاقة إرتباط مع الطبيعة وجسدنا أرضي ومن خلال هذا الجسد نقوم بهذا الإختيار ونعي علاقتنا بالخليقة. يقول اللاهوتي أوليفيه كليمان : لا يوجد إنقطاع بين العالم والإنسان؛ العالم مشمول في الطبيعة البشرية والإنسان يحوي بذاته جميع مكونات الخليقة.
- ولكن الإنسان ليس فقط microcosme إنما على صورة الله وهو قادر أن يدخل في علاقة مع الخالق مّما يجعل طبيعته روحانيّة وبه تتحقق المصالحة والوحدة بين العالم الحسّي والعالم الروحي فلا يعود ينظر نظرة فوقية إلى الخليقة. إنّ دور الإنسان ليس فقط حماية الطبيعة بل أيضاً المشاركة في حركة تحوّل الطبيعة لكي يعيد لها شفافيتها. هذا الدور الملفت للإنسان يجعل منه كائناً ليتورجيّاً يحمل العالم إلى الله كي تبقى الخليقة ساحة لقاء ومكان شراكة مع الله. الأخلاق تساعدنا على إعادة التفكير بموقع الإنسان في هذا العالم ونوعيّة علاقته مع الطبيعة. فلا يمكن للإنسان أن يبقى فاتحاً بل يصبح متأمّلاً ومواطناً مع آخرين في هذا العالم.
- التصرّف بأخلاقيّة عالية لا يعني وضع كلّ التقنيّات في سلّة واحدة، بل طرح الأسئلة الصحيحة تسهيلاً لتطبيق المبادئ الأخلاقيّة. هذا يتطلّب وعياً وتفكيراً حول طبيعة الأعمال، أهدافها، نطاقها ومبرّراتها. من هنا ضرورة هذه الأخلاقيّات لأنّها تعطي معنى للخيارات المأخوذة وللنتائج المرجوّة على كلّ المستويات بهدف إبقاء أرضنا لنا وللأجيال الآتية. وهذا يتطلّب تضحيات كثيرة ومسؤوليّات كبيرة.
سلوكيّاتنا الجديدة
- نحن مدعوين لنغيّر نظرتنا للأمور لتصبح “نظرة حب”. لا يجب أن تبقى معرفتنا بالخليقة معرفة علميّة فقط بل أيضاً “معرفة تشاركية” لكي تتجسد بعدها بأفعال تحترم الطبيعة ولا تستغلّها. للأسف أضحت المعرفة اليوم شفاء لغليل الإنسان الذي لا يعرف أن يضع حدوداً لرغباته. كلّنا نريد ولا شك أن تزداد معرفتنا ولكن بهدف المشاركة لا السيطرة. نريد أن نعرف بحب أن ننفتح على الروح القدس الذي يريدنا أن نغيّر ونحسّن بإحترام لقوانين الخليقة. لذا نحن مدعويين، على ضوء الروح، لرؤية العالم بنظرة جديدة، نظرة تأمل وإحترام وعلاقة تضامن وتبادل وليس نظرة إستملاك وإستغلال. هذه المعرفة التشاركية، تدفعنا إلى الإعتراف بحدود الخليقة وإلا فلا قيمة لأي شيء ولا حياة لأي شيء. للأسف أصبح لدينا إنجيل تطويبات جديد “طوبى لمن يمتلكون”، إنجيل الإستهلاك الذي يوهمنا أنّه يمكننا أن نتوصل إلى الإكتفاء الذاتي وذلك بسعينا الدائم لتحقيق رغباتنا كمن يقول ينقصك أمر واحد، إذهب واشتريها وتكون سعيداً. هذه الرغبة الدائمة بالحصول على الأشياء، تعبّر عن خوف من الفراغ، من المحدودية ومن الموت. هذه اللّذة بالحصول على الأشياء لا تروي عطش الناس فقط بل تولّد التبذير للثروات الطبيعية. نحاول هنا تخدير قلق الناس من دون التوصل إلى حلول.
- نحن مدعوين إلى عمل تمييز دائم بين حاجاتنا ورغباتنا وبين ما هو ضروري لحياتنا، بين ما هو وهم أنّه يعطينا الفرح والسعادة بالإستهلاك الدائم وبين ما هو شرعي لنموّنا. إن إدارة رغباتنا بحاجة إلى الروح القدس لنعرف ما هو فعلاً مصدر حياتنا .
- نحن مدعوين إلى توبة عقليّة وروحيّة تساعدنا في علاقتنا الجديدة مع الطبيعة ويكون لها تأثيراتها على حياتنا اليومية وطرق عيشنا. الإنسان لا يمكنه أن يبقى في حالة سيطرة دائمة على الطبيعة والخليقة لكي تتمكن الطبيعة من أن تعيش. فبدل أن نكون أسياد الطبيعة، نحن خدام الحياة مثل الرب يسوع المسيح الذي أراد أن يكون خادماً وأن ينمحي لا لتحقيق ذاته بل لكي يترك مجالاً للآخر ويفعّل الحياة في الآخر. الرب ظهر بامحائه وبرفضه إستعمال السلطة. هل نحن قادرين روحياً أن نضبط رغبتنا بالسيطرة ؟ هل نحن قادرين أن نضع قوّتنا في خدمة الآخرين وخاصة الأكثر ضعفاً ؟ إنّ دعوتنا الإنسانية هي خدمة الحياة وهذا يؤدي بنا إلى الزهد والإنضباط وضبط النفس الطوعي. هذا الزهد يندرج ضمن مسيرة توبة وتطهير للرغبات من أجل تعبير صادق عن التضامن مع الطبيعة. هذا الزهد ليس قهراً ولا تعذيباً إنما بساطة إرادية من أجل تحرير الذات والآخر.
- نحن مدعوين لنكون حكماء، بمعنى أن نقيّم بشكل جيد الأشياء وكيفية ارتباطها ببعضها البعض وأن نقبل أن نتعلم مما نراه ونختبره. التحدّي الذي نواجهه اليوم ليس فقط ترتيب بيتنا المشترك والإبقاء على الحياة فيه إنّما إعادة إكتشاف حرّيتنا وقدرتنا على أخذ القرارات. لأنّ علينا الإختيار بين البقاء بحالة العمى أو فتح ضمائرنا ووعينا. إن الأزمة البيئيّة هي علامة من علامات الأزمنة التي تدخل تاريخنا كواقع جديد يتطلب منا استقباله. إنّ فن الحياة يتناغم مع الطبيعة ولا يمكن فرضه فقط بالقوانين بل بالإرادة الطيية وبالإنفتاح على النعمة.
موقف شخصي
– هذا العالم هو لنا، ولا يمكن للإنسان أن ينظر إلى البيئة الطبيعيّة بمنظار الإستغلال الآنيّ والظرفيّ ويستخدمها للإستهلاك دون التفكير بنتائج أفعاله. ما من أحد اليوم يرفض التقدّم في العالم. هو مخطىء من يعتقد أنّ علينا توقيف كلّ تقدّم لنبكي على الأطلال ونقول “رزق الله على إيام زمان”. ولكن، بعد إختبار طويل، تبيّن ولا شك أنّ هناك نماذج تقدّم غير قادرة على تأمين احترام البيئة.
– لا يمكننا فصل العدالة تجاه الفقير والإلتزام في المجتمع عن الإهتمام بالبيئة وبالسلام الداخلي. لذا من الضروري توحيد العائلة البشريّة بأسرها للبحث عن تنمية مستدامة لبناء بيتنا المشترك.
– أعتقد أنّ علينا تجديد الحوار لمعرفة الأسلوب الواجب اتباعه في بناء مستقبل أرضنا. كلّنا معنيّون بما يحدث فنحن بأمسّ الحاجة للتضامن العالمي وللمشاركة في المواهب لإصلاح الأضرار الناجمة عن تعدّياتنا، كل حسب موقعه، على خليقة الله. إنّ واقع التلوّث، والتغيرات المناخيّة والحياة وفقدان التنوّع البيولوجي وتدهور نوعيّة الحياة البشريّة والتفكك الإجتماعي يدفعنا للتساؤل، أين وصلت بنا سياسات الإستهلاك والهدر ؟ إنّ تدهور البيئة الطبيعيّة ليس منفصلاً عن تدهور البيئة البشريّة، فكلّنا سنتأثّر بهذا التدهور وبخاصة الأكثر ضعفاً. كلّنا مسؤولون لإبقاء التجدّد والتنوّع، فلننتبه للجمال الموجود في العالم ولنكن بتواصل مستمرّ مع الطبيعة ولنعير إنتباهنا لها بعطف وبإندهاش ولنستخدم التكنولوجيا الإبداعيّة من أجل حماية عالمنا ولنسعى لتحقيق الخير العام والعدالة بين الأجيال.
– يعد السياسيّون شعبهم، في الحملات الإنتخابيّة، بمستقبل واعد على كلّ المستويات وبأنّهم سيؤمّنون لأولادهم بيئة نظيفة. بالمقابل تُتخذ كلّ الإجراءات من أجل استهلاك أكبر وأذيّة أكثر للطبيعة وللبيئة. كلّ وعودنا ما هي إلا إجراءات خجولة وآنيّة وأجوبة عاجلة وجزئيّة للمشاكل التي تظهر في مجال التدهور البيئي ونفاذ المخزونات الطبيعيّة والتلوّث. لذا أرى أنّه من الضروري مواجهة النموذج التكنوقراطي الذي يدير العالم من وراء الشاشة وينسى أنّ هناك الملايين ممن يحصدون النتائج السلبيّة لهذه السياسات الغير آبهة بالناس. إنّنا بحاجة إلى مواطنيّة إيكولوجيّة نتربّى فيها ليس فقط على حفظ القوانين وزيادة الرقابة بل على تحوّل شخصنا وترسيخ قيمنا لنقول وطني – بيئتي – عالمي . عندها كل الممارسات والسلوكيّات تصبح ممكنة وكل التضحيات تصبح واردة.
– نحن نحتاج إلى توبة إيكولوجيّة شخصيّة وجماعيّة نخلق فيها دينامكيّة التغيير في كلّ واحد منّا. فلا ندع صراعاتنا ومصالحنا وانشغالاتنا الآنيّة تنتزع منّا فرح الرجاء ببيت مشترك يجمع الكلّ بسلام وبمحبّة.
خاتمة
الأزمة البيئيّة لا تخصّ علاقة الإنسان بالبيئة بل بذاتنا. الوقت ليس للبكاء لأنّ هناك كوارث طبيعيّة وبيئيّة. الوقت ليس لإعطاء التكنولوجيا كلّ المجال لإصلاح الأزمة. الوقت اليوم لإعادة النظر بعلاقاتنا كبشر مع باقي المخلوقات.
[1] – تتضمّن حماية البيئة عدّة أهداف : بيئة غير ملوّثة بشكلٍ عامّ، بيئة طبيعيّة وبيئة متنوّعة. فالبيئة الغير ملوّثة لا تعني بالضرورة بيئة متنوّعة. إذ نجد في بعض الأماكن حيث نشجّع لزراعة غير ملوّثة، إختفاء أنواع عدّة من العصافير نجدها في مناطق زراعيّة أكثر تلوّثاً. نجد أحياناً رغبة بإنتاج كهرباء غير ملوّثة (عبر بناء سدود مائيّة)، ولكن هذا العمل يقضي على أنوع من الأسماك المهمّة والضروريّة. إنّ بيئة طبيعيّة naturelle، لا تعني بالضرورة متنوّعة. كما أنّ التنوّع البيولوجي biodiversité يتطلّب تدخلاً دائماً للإنسان للحفاظ عليه. لا شكّ أنّنا نسعى لكي تبقى الموارد الأساسيّة، كالماء والهواء والنظام البيئي، تقوم بعملها لخدمة الإنسان وتمنع التلوّث كي لا نقلّل من فائدة هذه الموارد. ولكن هذا لا يعني أنّ بقيّة المحاولات التي تبقي الحفاظ على التنوّع وعلى طبيعة البيئة هي بالأمر السهل.