” من أجل راعويّة للثقافة“، وثيقةٌ كنسيّةٌ صدرت عن “المجلس الحبري للثقافة“، في 23 ايّار 1999، في عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس على التلاميذ.. يجدر العودة اليها، ونحنُ في زمن ” البشارة الجديدة”، نستوحي منها، لننطلقَ في ورشة تثقيفيّة للشبيبة.
لقد حاوَلَتْ هذه الوثيقةُ الإجابةَ على الطلبِ الملّح الذي وجهّه قداسةُ البابا يوحنا بولس الثاني الى المجلسِ الحبريّ للثقافة: ‘‘عليكم مساعدةُ الكنيسة كلّها للاجابة عن هذه المسائل الاساسيّة للثقافات المعاصرة: كيف يمكنُ لرسالة الكنيسة ان تكونَ بمتناول الثقافات الجديدة والاشكال الحالية للمعرفة والفهم؟ كيف تستطيعُ كنيسةُ المسيح ان تُسمعَ صوتها للفكر الحديث الشديد التباهي بإنجازاته، وهو في الوقت ذاته شديدُ القلق على مستقبل العائلة البشرية؟“.
إنّ جوهرَ كلّ ثقافة، كائنٌ في اقترابها من اعظم الاسرار، وهو سرّ الله. والرهانُ النهائي لكلّ ثقافة دينيّة هو: “كلُّ ايمانٍ لا يتحوّلُ الى ثقافة هو ايمانٌ غيرُ ناضج، وغيرُ مفهومٍ ومعاشٍ بأمانة”. فكيف يمكن لنا ان نلجَ مفهومَ الايمان والثقافة؟
اولا: الايمان والثقافة
1– انَّ الكنيسةَ، في عصرنا، وهي رسولةُ المسيح، فادي الانسان، تنظر نظرةً متجدّدةً الى البُعد الثقافي للشخص البشري، وللجماعات البشرية. والمجمعُ الفاتيكاني الثاني، وخاصة الدستورُ الراعوي حول الكنيسة في عالم اليوم “فرح ورجاء “، والقرارُ المجمعي في نشاط الكنيسة الارسالي “الى الامم”، وسينودوساتُ الاساقفة حول التبشير بالانجيل في عالم اليوم، والتعليمُ المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، وللشبيبة، والارشاداتُ الرسولية للبابا الطوباويّ بولس السادس، والبابا القدّيس يوحنا بولس الثاني، هذه جميعُها تقترح، بهذا الخصوص، تعليماً غنياً، ميّزته الجمعيّاتُ الخاصة المتوالية لسينودس الاساقفة، قارةً تلوَ قارّة، والارشاداتُ الرسوليةُ التي يصدرها الابُ الاقدس بعد كلَّ سينودس. والسينودس الاستثنائي المنعقد سنة 1985، بمناسبة مرور عشرين سنة على إنتهاء اعمال المجمع الفاتيكاني الثاني، والذي اعاد البابا يوحنا بولس الثاني التذكيرَ به في رسالته (المسيح الفادي)، يُبرزُ المثاقفةَ، وعمليّةَ التثقّف، والتعمّقَ في معطيات الثقافة، “كتحوّلٍ حميمٍ للقيم الثقافيّة الحقّة بأندماجها في المسيحيّة، وتجذّر المسيحيّة في مختلف الاوساط والثقافات البشرية” (عدد 52).
إنَّ التدقيقَ في مختلف المجالات الثقافية التي تقترحُها هذه الوثيقة يظهر المجالَ الواسع الذي تمثّله الثقافة، والطريقةَ الخاصة التي ينمّي الناسُ بواسطتها علاقتَهم مع الطبيعة ومع اخوتهم، ومع ذاتهم، ومع الله، من اجل بلوغ وجودٍ إنساني تام (راجع فرح ورجاء عدد 53). لا ثقافةٌ الاّ من الإنسان، وبالانسان، وللانسان. انها كلُّ نشاط الانسان، وذكاؤه وعواطفُه، واحاسيسُه، وعاداتُه، ومرتكزاتُه الاخلاقية. الثقافةُ امرٌ طبيعيٌّ بالنسبة الى الانسان، الذي لا تكتسب طبيعتُه خصوصيّةً لها الاّ بالثقافة.
“إنَّ رهانَ راعويةٍ للثقافة هو اعادةُ كمالِ وجه الإنسان كمخلوقٍ على صورة الله وكشبهه” (تك 1:26)، وذلك بانتزاعِه من تجربةِ الإنبهارِ بالذات واعتبارنفسه مستقلاً عن خالقه. فلا يمكن الإنكارُ أنَّ الانسانَ يضع ذاتَه دائماً في وسط ثقافةٍ خاصة، ولكن لا يمكن الانكارُ ايضاً أنَّ الإنسانَ لا يُحَدَّدُ كلُّه بهذه الثقافة.
2– قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني في منظمة الاونسكو: “إنَّ البعدَ الاوّلَ والاساسيَّ للثقافة، هو الاخلاقيةُ السليمة: الثقافةُ الاخلاقية” ، و “عندما تكون الثقافاتُ متجذّرةً، بعمقٍ، فيما هو انساني، فانها تحمل في ذاتها الشهادةَ على انفتاح الانسان النوعي على الكونية والسموّ” (الايمان والعقل، عدد 70
3– لقد تبدّلت ظروفُ حياة الإنسان، في السنوات الاخيرة من الالف الثاني، بشكل عميق، ممّا جعل المجمعُ الفاتيكاني الثاني يتحدّث، بدون تردّد، عن “عصر جديد من التاريخ” (فرح ورجاء، عدد 54). هذه الحالةُ، بالنسبة الى الكنيسة، هي الزمنُ المؤآتي لتبشيرٍ جديدٍ بالإنجيل، وانتم دُعاتُه والعاملون فيه، وهي تشكّلُ الخطوطَ الجديدةَ للثقافة.. زمنٌ فيه تحدّياتٌ كثيرة، ونقاطُ ارتكازٍ لانطلاقةٍ اكثرَ حيويّةً من أجل الثقافة.
في الوضع الثقافي الراهن، وفي مناطقَ واسعةٍ من العالم، تسيطر الفرديةُ الجامحة، معتبرةً ذاتها مقياساً للحقيقة ومعيارها ( الايمان والعقل، عدد 47). واللاّفتُ هو انّه، تحت ضغوطٍ متنوّعة، كالفقر، وتردّي الحالةِ الاقتصاديّة،وعدم إنماء المناطق النائية، والمحرومة من الخيرات ومن الخدمات الضرورية، وكذلك في بعض البلدان، بسبب النزاعات المسلّحة التي ارغمت الملايين من البشر على ترك اوساطهم العائلية والثقافية، عَرَفَ العالمُ هجرةً ونزوحاً يساهم في تضخّم التجمّعات المُدُنيّة الكبرى بسرعة هائلة. الى هذه الضغوط، ذاتِ المستوى الاقتصادي والاجتماعي، تضاف إغراءاتُ المدينة، والرفاهيّة والتسلية التي توفّرها، والتي تنقل وسائلُ الاتصال الاجتماعيّة صورةً عنها. وبسبب فقدان التخطيط اصبحت ضواحي المدن الكبرى تشكّل في الغالب نوعاً من “أحزمةِ بؤسٍ“، ومن تجمّعاتٍ لامحدودة لأُناسٍ اقتُلعوا من جذورهم في الريف، فصاروا محرومين سياسياً، ومُهَمَّشين اقتصادياً، ومعزولين ثقافياً.
“إن الإنسلاخَ الثقافيَّ ذي الاسباب المتعدّدة، يُبرز بالمقابل الدورَ الاساسي للجذور الثقافية. إن الانسانَ الذي تعرّضَ كيانُه للانسلاخ، او لضياع هويّته الثقافية، يتحوّل الى حقلٍ مناسبٍ لنموّ الممارسات اللاانسا نية”. لم يُظهر الإنسانُ مرّةً، كما أظهرَ في هذا القرن العشرين، الكثيرَ من الطاقاتِ والنبوغ، وكذلك لم يعرف التاريخُ، كما عرفَ تاريخُ هذا القرن، الكثيرَ من السلبيّات وإنتهاكِ الكرامة البشرية، وهي ثمارٌ مريرةٌ للرفضِ او لنسيان الله. انَّ القيمَ المرفوضة في الحياة الخاصة، تُفسدُ الحياةَ الخُلُقيّة، وتُضعفُ الحياةَ الروحية. والمفهوم المخيف لـ “ثقافة الموت” يندّدُ بثقافةٍ مضادّةٍ تظهر علناً التناقضَ المحزنَ والمخيفَ بين ارادةٍ اكيدةٍ للحياة ورفضٍ عنيدٍ لله، ينبوع كل حياة (حياتنا الإنجيلية، عدد 11-12 و19-28).
“إن تعليمَ الاجيالِ الشابّةِ على عيش هويّتهم الخاصة من ضمن التنوع، هو مهمّةٌ ذاتُ افضليةٍ في التربية الثقافية، علماً بأنَّ بعضَ جماعاتٍ ضاغطةٍ لا تتردّد عن استخدام الدّين لاغراضٍ سياسية لا تمتّ اليه بصلة”.
ثانيا: العائلة والتربية
4– العائلة مهدُ الحياة والحب، وهي ايضاً ينبوعُ الثقافة. إنها تستقبل الحياةَ، وهي مدرسةٌ إنسانية يتعلّم فيها الزوجان ان يُصبحا اهلاً مسؤولين. إنَّ مسارَ النموّ الذي توفّره العائلةُ في جماعةِ حياةٍ وحبّ، يتجاوز في بعض الحضارات نواةَ القربى، ليشمل مثلاً العائلة الكبرى… وعندما يطاول البؤسُ الماديُّ، والثقافيُّ، والاخلاقيُّ، مؤسّسةَ الزواج ذاتها، ويهدّد بإفساد منابعَ الحياة، تبقى العائلةُ المكانَ المميّزَ لإعداد الفرد والمجتمع. لقد دلّ الاختبارُ أنَّ الحضاراتِ وتماسكَ الشعوب ترتبط، قبل كل شيء، بالنوعيّة البشريّة في العائلات، خاصة بوجود أبوين في العائلة، وفعاليةِ دورِ كلٍّ منهما في تربية الاولاد. وفي مجتمع، يكثر فيه عددُ الناشئين بدون عائلة، تصبح التربيةُ اكثرَ صعوبة، وكذلك نقلُ ثقافةٍ شعبيّة تهتدي بالإنجيل. في هذا الاطار، يكون تكوينُ جماعةِ حياةٍ وحبٍّ، تضمّ الزوجَين ليُشاركا الخالقَ في الخلق، افضلَ مُكتسبٍ ثقافي يمكن ان تعطيه العائلاتُ المسيحية للمجتمع.
5– التربيةُ هي “المهمّةُ الاولى والاساسية لكل ثقافة“، وهي، منذ العهود المسيحية الاولى، من اهمِّ مجالات عمل الكنيسة الراعوي، على الاصعدة الدينية والثقافية، كما على الصعيدَين الشخصي والاجتماعي. والتربيةُ اصبحت اليوم اكثر تعقيداً وتشابكاً من ايّ وقت مضى. وهي ملقاةٌ اساساً على عاتق العائلات، ولكنها تحتاج الى تعاون المجتمع بكامله. فعالمُ الغد متعلّقٌ بالتربية اليوم، وهذه التربيةُ لا يمكن ان تكونَ مقتصرةً على مجرّد نقل المعارف. إنها تنشْيء اشخاصاً وتُعدّهم للإنخراط في الحياة الاجتماعية، اذ ترعى نضوجَهم النفسي، والعقلي، والثقافي، والاخلاقي، والروحي.
إن مستقبل البشرية يمرّ من خلال نموٍّ فرديٍّ وتضامني لكلّ شخص، لكلّ إنسان، وكلّ الانسان ( ترقي الشعوب، عدد 42). وهكذا تكون العائلةُ، والمدرسةُ، والجامعةُ، مدعوّةً، كلّ واحدةٍ في مجالها، الى وضع الخمير الإنجيلي في ثقافات الالف الثالث.
6– إن الكنيسة التي تؤكّد على كرامة الشخص البشري، تجهد لتنقية الحياة الاجتماعية من جراح العنف، والمظالم الاجتماعية، والتجاوزات التي يذهب ضحيّتها اولاد الشارع، وتجارة المخدارات الخ.. في هذا الاطار، وتأكيداً لحبها التفضيلي للفقراء والمحرومين، تعمل الكنيسة على تشجيع ثقافة تضامنية على مختلف مستويات الحياة الاجتماعية: مؤسّسات حكومية، مؤسّسات شعبية عامة وخاصة.والكنيسة اذ تعمل لتحقيق اتحاد اكبر بين الافراد والمجتمعات والشعوب، تضمّ جهودها الى جهود ذوي الارادة الطيبة من اجل بناء عالم يليق اكثر واكثر بالإنسان. وهي، اذ تفعل ذلك، تساهم “في تقليص المفاعيل السلبيّة للعولمة، كسيطرة الاقوياء على الاكثر ضعفاً، خاصة في المجال الاقتصادي، وفقدان قيم الثقافات المحلية لمصلحة توحيد مفهوم ثقافي، غير واضح بعد”
7– مع انطلاق الالف الثالث، تشير مبادىءُ الحقيقة، والقيم، والكيان، والحس الاجتماعي، الى حدود علمنةٍ تشجّع، ولو رغماً عنها، البحثَ عن “البعد الروحي” للحياة كعلاج ضدَّ محو البعد الإنساني. إنّ الظاهرةَ المسمّاةَ “العودة الى التديّن” لا تخلو من المخاطر، ولكنَّها تحمل نداءً عميقاً. وهذا ايضاً “حقلٌ يحتاج الى التبشير بالانجيل” (المسيح الفادي عدد 38).
8- “كلَّ راعوية للثقافة وكل تبشير بالإنجيل في العمق، يرتكزان على التربية، وينطلقان من العائلة كنقطة ارتكاز، لانها المجالُ التربويُّ الاول للشخص البشري“. لذا لا بدّ من اعادة تقييمٍ للعلاقة بين الثقافة الدينيّة والتعليم الديني، وترجمةِ التفاعل بين ضرورة تقديم معلوماتٍ دينيّة، صحيحةٍ وعمليّة، للتلاميذ، وهي غائبةٌ احياناً. ومن هنا ايضاً ضرورةُ التكاملِ بين الرعيّة، والمدرسة، والجامعة، والتأكيدِ على وجوبِ اختيار معلّمين كفوئين ليجعلوا من هذه المؤسّسات مدارسَ نموٍّ روحي وثقافي. إنها شروط نجاح هذه المراكز المتطلّبة والواعدة.
ثالثا: مراكزُ التنشئةِ اللاهوتيّة والمراكزِ الثقافيّة الدينيّة
9– بالامس، بلدانٌ عديدةٌ كانت تؤمّنُ تنشئةً دينيّةً مناسبةً للشباب المتحدّر من عائلاتٍ مسيحيّة، غير انَّ عدداً كبيراً منهم يجدون انفسهم اليوم محرومين من هذه التنشئة، ويشعرون بحاجتهم الملحّةٍ الى تنشئة لاهوتية. انه مطلبٌ مشجّع، وظاهرةٌ ايجابيّة تحمل في طيّاتها بُعداً إيمانيّاً، لاسباب ثلاثة على الاقلّ: اولاً، لانَّ عدداً من المسيحيين، المثقَّفين بشكلٍ جيّد، لا يجدون امكاناتٍ حقيقيةً للامانة وللنموّ في الايمان، الاّ اذا جعلوا ثقافتَهم الدينيّة على مستوى ثقافتهم العلميّة، خاصة فيما يتعلّق بمجالات حياتهم الاجتماعيّة والمهنيّة. وبالتالي فإنهّم، وقد أصبحوا مجهّزين بشكلٍ افضل لمعركة الايمان، فهم جديرون بأن يساهموا في الخدماتِ الكنسيّة التي تُطلب منهم، مثل: إحياء الطقوس الليتورجية، والتعليم الديني المدرسي، ومواكبة المرضى، والتحضير للاسرار، خاصة سرَّي المعمودية والزواج. واخيراً، لانَّ تلازمَ عملهِم المهني مع ايمانهم المسيحي، لا يمكنه، مع الزمن، الا ان يسمح لهم بالقيام برسالتهم، كعلمانيّين في المجتمع، على اكمل وجه.
“إنَ ضرورةَ تنشئةٍ لاهوتيّةٍ جديّةٍ تفرضُ ذاتها اليوم بالحاحٍ متزايد نظراً للتحدّيات التي يقتضي مواجهتُها، واللامبالاةِ الدينيّةِ امام العقلانيّةِ اللاإرادية“. إنَّ المعرفةَ المُعَمَّقَةَ لمعطياتِ الايمان هي، بدرجةٍ اولى، ضروريّةٌ لتبشير فعليّ بالانجيل. هذه المعرفةُ ذاتُ المستوى العقلي، والتي تتجلّى في الصلاة والاحتفالاتِ الليتورجيّة، تستوجب استيعاباً شخصيّاً ذكيّاً لها من قبل المؤمنين، ليكونوا شهوداً للمسيح ولرسالتِه الخلاصيّة. انَّ التنشئةَ الدينيّةَ، اذا تامّنَت بجدّيةٍ، في اطارٍ ثقافي، متميّزٍ بتشعّباتٍ علميّةٍ، كتابيّةٍ ولاهوتيّةٍ وانسانيّة، هي، بدون منازع، وسيلةٌ فضلى لمواجهة هذا الخطرِ الذي يهدّدُ الايمانَ الشعبيَّ الصادق، وبالتالي يهدّد ثقافةَ عصرنا.
10– “إن تنشئةً لاهوتيّةً، اوّليةً ومستمرّةً، عامةً ومتخصّصةً، لدرجة نيلِ شهادةٍ رسميّة، تنشئةٌ تستدعي كلَّ الاهتمام، وتستحّقُ، حيثُ لم توجد بعد، ان تكونَ هدفاً من أهدافِ المجالس الراعوية في الكنيسة، بحسب ما يتمنّاه المجمعُ الفاتيكاني الثاني” (فرح ورجاء،عدد 7،62). إنها، دون شك، احدُ الاماكن الفضلى للشراكة بين ثقافة اليوم والايمان المسيحي، اذ تتوفّر لهذا الايمان امكاناتٌ اكبر للتأثير في تلك الثقافة، وذلك عندما تكون التنشئةُ التي تُعطى، ويكون فهمُ الايمان المترسّخِ بدرس كلمة الله، وبالتقليدِ الكنسي، مصادرَ إلهامٍ لوجودنا اليومي بكامله.
إنَّ المراكزَ الثقافيّةَ الدينيّة، هي مساعدةٌ اساسيّةٌ للتعمّق في الإنجيل، وتعميمِ حضارةِ المحبّةِ والثقافة. ويعود لهذه المراكز الراسخة في وسطها الثقافي، “امرُ التطرّقِ الى المسائل الملّحة والمعقّدة فيما يتعلّق بالتبشير، والثقافة، ومثاقفة الايمان، إنطلاقاً من نقاطِ ارتكازٍ يوفّرها نقاشٌ منفتحٌ جداً مع الاساتذة، والفاعلين، والمشجّعين للثقافة، وذلك بحسب روحية رسول الامم (1 تسا 5:21-22)”.
11- المراكزُ الثقافيّة الدينية غنيّةٌ في تنوّعها، إن من جهة تسميتها (مراكز او دوائر او مكاتب تربوية، اكاديميات، مراكز جامعية، دور تنشئة)، وان من جهةِ توجّهاتها (لاهوتيّة، بيبليّة، مسكونيّة، علميّة، تربويّة، بيئيّة… )، ام لجهة المواضيع التي تعالجُها (مواضيع لاهوتيّة، بيبليّة، كنسيّة، ليتورجيّة، تيارات ثقافيّة، قيم، حوار بين الثقافات وبين الاديان، علم، فن…)، ام لناحية النشاطات المتنوّعة (تنشئة، محاضرات، ندوات، دروس، حلقات حوار، مطبوعات، مكتبات، احتفالات فنيّة وثقافية، معارض…). إنَّ مفهومَ “مركز الثقافة الدينية” ذاته يجمع بين التعدّدية والغنى في الاوضاع المتنوّعة، من المؤسّسات الكنسيّة: (بطريركيّة، ابرشيّة، رعيّة، مجمع أبرشي، رهبانيّة…)، الى المبادرات الخاصة التي يقوم بها مسيحيّون ملتزمون، بالمشاركة مع الكنيسة. كلُّ هذه المراكز تؤمّنُ نشاطاتٍ ثقافيّةً، وتشدّدُ على الاهتمام بالعلاقة بين الثقافة والايمان، وعلى تقدّم الثقافة المستوحاة من القيم المسيحية، من خلال الحوار، والبحث العلمي، والتنشئة، وخاصّةً بتقديمِ ثقافةٍ أخصَبها الايمانُ وأنعشَها، وهي مستوحاة منه، فيجعَلَها اكثرَ حيويّة. من هنا، تشكّلُ المراكزُ الثقافيّةُ الدينيّة ادواتٍ مميّزةً للتعريف باعمالِ الفنّانين والكتّاب، والعلماء، والفلاسفة، واللاهوتيين، والاقتصاديين، والخبراء المسيحيين، وبهذه الطريقة ينشط الالتصاقُ الشخصيُّ بالقيم التي أخصبَها الايمانُ في المسيح.
“إنَّ هذه المراكزَ الثقافيّة الدينيّة تقدّمُ للكنيسة امكاناتِ حضورٍ وعملٍ في حقلِ التطوّرات الثقافيّة. وتشكّلُ مراكزَ لقاءٍ شعبي وشبابيّ، تسمح بالتعريف بشكلٍ واسع، وفي حوار خلاّق، بالقناعات المسيحية حول الإنسان، والمرأة، والعائلة، والشبيبة، والعمل، والاقتصاد، والمجتمع، والسياسة، والحياة بين الدول، والبيئة” (كنيسة في اميركا، عدد 103).
رابعاً: الشبيبة
12– من اولويّاتِ الكنيسةِ في عصرنا ان تكونَ متيقّظةً لمعطيات العلم، وللاسئلة الجديدة، والتحدّيات التي يثيرها العالم، والتكنولوجيا، وتقنيّاتُ علم الانسان الجديدة، والتي يقف الشبابُ امامها حيارى، همّهم ان يجدوا الجوابَ على كلّ سؤال. فهم معنيّون بها، وبكلّ مظاهر التطوّر التقني.. فيسعَونَ لأن تطالَهم الثقافةُ، من خلالِ حقولِ التعليمِ المختلفة، ومجالاتِ التنشئة، ومَلءِ اوقاتِ الفراغ. “من هنا، تقول الوثيقةُ، على الرعايا، والابرشيّات، والمعاهد، والجامعات الكاثوليكية، ومختلف المنظّمات والحركات الرسولية الموجودة في مجمل اوساط الحياة والتعليم، معرفةَ كيفيّةِ اتّخاذ المبادرات لتنشيط دورها في تنشئة الشباب”، ومنها على سبيل المثالِ لا الحصر:
– إيجادُ اماكنَ يودُّ الشبابُ ان يتلاقَوا فيها ليبنوا علاقاتِ صداقةٍ، وتكون هذه الاماكنُ حقولاً خصبةً لدعم الايمان.
– تنظيمُ حلقاتِ محاضراتٍ وتأمّلٍ تناسبُ مختلفَ المستويات الثقافية، وتعالجُ مواضيعَ ذات منفعةٍ مشتركةٍ وآنية للحياة المسيحية.
– إنشاءُ جمعيّاتٍ ثقافيّةٍ، او اجتماعيّةٍ-ثقافيّة، ذاتِ برامجَ غنيّةٍ بالنشاطات الترفيهيّة ومواد التنشئة، تتضمّنُ الغناءَ، والمسرحَ، ونادي السينما …
– تأمينُ مجموعاتٍ ثقافيّة، من كتُبٍ او اشرطةِ فيديو، وغيرها، توفِرُّ المعلوماتِ والتنشئةَ الثقافيّةَ المسيحيّة، وكذلك اجراء مبادلات مع شبّان آخرين، في منظّماتٍ او مراكز او حركات رسوليّة في العالم.
– تقديمُ شهاداتِ حياةٍ من أشخاصٍ، او ازواجٍ، يُقتدى بهم، لانَّ المقصودَ، في النهاية، هو تنشئةُ شبابٍ بالغينَ لعيشِ الايمان في وَسَطهم الثقافي، في المجتمع، او في الرعيّة، او الجامعة، او في مجال البحث، والعمل او الفن.
– تنظيمُ رحلاتٍ الى المزارات، تشاركُ فيها مجموعاتٌ صغيرة تأمّليةٌ، وتتّسعُ لتتكوّنَ من تجمّعٍ احتفالي كبير، تُنعِشه ثقافةٌ دينيّةٌ تُعاشُ في جوٍّ من حرارة الايمان التي تشمل بإشعاعها الجماعةَ كلَّها.
13– تندرجُ هذه المبادراتُ في عملِ تنشئةٍ دينيّة، تخطُّ الكنيسةُ فيها “نمطاً جديداً من الحوار، يسمح بنقلِ أصالةِ الرسالة الانجيليّة الى قلبِ الذهنيّات الحاضرة. ينبغي ان تظهرَ كلمةُ الله، بكلّ نضارتها، امامَ اعين الاجيال الطالعة، ذوي المواقف التي يصعبُ على الذهنيّات التقليديّة فهمُها احياناً، ولكنّها بعيدةٌ عن ان تكونَ موصَدةً امام القيم الروحية”. إن الشبّانَ هم مستقبلُ الكنيسة والعالم. والالتزامُ الراعوي تجاههم، في العالم، كما في المدرسة او الجامعة، وفي العمل، هو علامةُ رجاء، في انطلاق الالف الثالث.
خلاصة: من أجل ثقافة دينيّة متجدّدة بقوّة الروح القدس
14– تبدو الثقافةُ، في مفهومها الواسع، بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (فرح ورجاء عدد 53 – 62)، ومع إطلالة الالف الثالث، كبُعدٍ اساسيٍّ لكلّ تنشئة دينيّة. ولا بدَّ للرعاة، والمعلّمينَ، والاشخاصِ الملتزمين بقناعةٍ تامّة في دروبِ تبشيرٍ جديدٍ بالانجيل، يطالُ العقولَ والقلوبَ، ويغيّرُ كلَّ الثقافاتِ، من أن يميّزوا، على نورِ الروح القدس، التحدّياتِ المنبعثةَ من ثقافاتٍ غيرِ مبالية، او معاديةٍ للايمان، كما يميّزونَ ايضاً المعطياتِ الثقافيّةَ التي تشكّلُ نقاطَ ارتكازٍ لاعلان الانجيل. “إنّ الانجيلَ يوصلُ الثقافةَ الى كمالها. والثقافةُ الحقّةُ هي تلكَ المنفتحةُ على الانجيل“.
“إذهبوا وتلمذوا جميعَ الامم، وعمّدوهم باسم الآب، والابن، والروح القدس، وعلّموهم ان يحفظوا كلَّ ما أوصيتُكم به” (متّى 28:19-20). وتلتزمُ الثقافةُ الدينيّةُ، على الدرب التي اشار اليها الرب، بمهمّةِ اعلانِ بشرى الانجيل السارّةِ لكلّ البشر، وفي كلِّ الازمنة، كوسيلةٍ لتبشير الثقافاتٍ ومثاقفةِ الايمان. “انّها فريضةٌ طبعَت مسارَ الكنيسة طوالَ تاريخها، وتتّضحُ اليومَ، بطريقةٍ حسّاسةٍ وملحّة، وتتطلّبُ وقتاً كثيراً، شاملاً وصعباً ” (المسيح الفادي عدد 52). ومع اطلالة الالف الثالث، من منّا لا يرى الرهانَ، او التحدّيَ، الموضوعَ امامَ مستقبل الكنيسة والعالم؟ إنَّ اعلانَ انجيلِ المسيح يدفعنا الى تأسيسِ وتنشيطِ جماعاتٍ ايمانيّةٍ حيّة، متعمّقةٍ في امور الدّين، وفي مختلفِ الثقافات، تحملُ الرجاءَ، وتدعو الى قيامِ ثقافةِ الحقيقةِ والحبّ، التي فيها يستطيع كلُّ شخصٍ ان يلبّيَ دعوتَه كإبنٍ الله، “بمقدارِ قامةِ ملءِ المسيح” (افسس 4:13). إنَّ العملَ على تأمينِ ثقافةٍ دينيّةٍ جدّية، وهذا ما يسعى اليه القيّمونَ على هذا المركزِ الناشط، هو عملٌ ملّحٌ وضروريٌّ، والمهمّةُ كبيرةٌ، والطرقُ متعدّدةٌ، والامكاناتُ ضخمةٌ، على عتبةِ ألفيةٍ جديدةٍ لمجيء المسيح، ابنِ الله وابنِ مريمَ العذراء؛ والتبشيرُ برسالة حبٍّ وحقيقةٍ تلبّي الانتظارَ الاوّلَ لكلِّ ثقافةٍ بشريّة، امرٌ لا يطيقُ الانتظار. “إنَّ الايمانَ بالمسيح يعطي الثقافاتِ بُعداً جديداً، بُعدَ رجاءِ ملكوتِ الله”.
15– نهايةً، إنَّ الثقافةَ الدينية، في تعابيرها المتعدّدة، ليس لها هدفٌ آخر سوى مساعدةِ كلّ الكنيسة على القيام برسالتها في اعلان الانجيل. في هذه الالفيةِ الجديدة، وبكلِّ قوّةِ كلمة الله التي “توحي كلَّ الحضور المسيحي” (اطلالة الالف الثالث، عدد 36)، والكنيسةُ تساعدُ الانسانَ للتغلّب على مأساةِ البشرية الملحدة، وخلقِ “إنسانيةٍ جديدة” قادرةٍ على أن تستحّثَ، في العالم كلِّه، ثقافاتٍ متبدّلةً بروعة حضورِ المسيح الذي “صارَ بشراً ليصيرَ الانسانُ إلهاً” ويتجدّدُ على صورةِ خالقه (راجع قول 3:10). ولأنه “لبِسَ الانسانَ الجديد” (راجع افسس 4:24)، فهو يجدّدُ كلَّ الثقافاتِ، بقوّة روحِه القدّوس، ينبوعِ الجمال، والحبِّ، والحقِّ، والرجاء.
جميعنا مدعوّون الى كلّ تجدّدٍ، والى تدوينِ هذا الرجاءِ في قلبِ الثقافات التي يتميّزُ بها شعبُنا في لبنان وفي هذا المشرق؛ إنَّه رجاءُ ارضٍ جديدة، وسماواتٍ جديدة. وبعيداً عن تهديدِ هذه الثقافاتِ، او إفقارِها، يحملُ الانجيلُ اليها مزيداً من الفرح، والامل، والجمال، والحرّية، والادراك، والحقيقة.