في إطار الاحتفال بيوبيل الكهنة من الأول وحتى الثالث من حزيران الجاري بدأ قداسة البابا فرنسيس صباح اليوم الخميس رياضة روحية للكهنة تتخللها ثلاثة تأملات للأب الأقدس الأول في بازيليك القديس يوحنا اللاتيران، ثم الثاني في بازيليك القديسة مريم الكبرى والثالث في بازيليك القديس بولس خارج أسوار روما؛ وقد توّجه الأب الأقدس صباح اليوم إلى بازيليك القديس يوحنا اللاتيران حيث ألقى التأمل الأول تحت عنوان “من البُعد إلى العيد” واستهلّه بالقول إذا كانت رحمة الإنجيل إفراطًا من قبل الله، فيضًا لم يُسمع به من قبل؛ أول شيء ينبغي القيام به إذًا هو أن ننظر إلى حيث يحتاج عالم اليوم وكل شخص إلى فائض حبٍّ كهذا. وقبل كل شيء أن نسأل أنفسنا ما هو إناء رحمة كهذه وما هي الأرض القاحلة والجافة لهذا الفيض من الماء الحيّة؛ ما هي الجراح لهذا الزيت المُلطِّف؛ ما هي حالة اليتيم التي تحتاج لبذل ذات بعطف واهتمام؛ وما هي المسافة لعطش كبير بهذا الشكل لعناق ولقاء…
تابع الأب الأقدس يقول إن المثل الذي أقترحه عليكم لهذا التأمّل هو مثل الآب الرحوم (راجع لوقا 15، 11- 31). نضع أنفسنا في إطار سرّ الآب. ويطيب لي أن أبدأ من تلك اللحظة التي يكون فيها الابن الضال في حظيرة الخنازير، في جحيم الأنانية التي فعلت كلَّ ما كانت تريده، وحيث بدلاً من أن يكون حرًّا وجد نفسه عبدًا. يراقب الخنازير وهي تأكل الخرنوب… يشعر بالغيرة والحنين. حنين للخبز الطازج الذي يأكله الأجراء في بيت أبيه على الفطور. الحنين… الحنين هو شعور قويّ. يتعلّق بالرحمة لأنّه يوسِّع لنا النفس ويذكِّرنا بالخير الأول – الوطن الذي أتينا منه – ويوقظ فينا الرجاء للعودة. في أفق الحنين الواسع هذا – يقول لنا الإنجيل – رجع هذا الشاب إلى ذاته وشعر بأنّه بائس. بدون أن نتوقّف الآن لنصف بؤس حالته، ننتقل إلى اللحظة الأخرى حيث، وبعد أن عانقه أبوه وقبّله بفرح، يجد نفسه متسخًا ولكنّه يلبس حُلّة العيد، يضع الخاتم في إصبعه كوالده، ويلبس حذاء جديدًا في قدميه، ويقف وسط الاحتفال وبين الناس. شيء يشبه، إن كان قد حصل هذا الأمر معنا، عندما نكون قد اعترفنا قبل القداس ووجدنا فورًا أنفسنا “لابسين حلّة العيد” في وسط احتفال.
أضاف الحبر الأعظم يقول لنتوقّف عند “الكرامة الخجولة” لهذا الابن الضال والحبيب. إن اجتهدنا، بصفاء، لنحافظ على القلب بين هذين الطرفين – الكرامة والخجل – بدون أن نهمل أيًّا منهما، قد نتمكّن ربما من أن نفهم كيف ينبض قلب أبينا. يمكننا أن نتخيّل أن الرحمة تتدفّق منه كالدم، وأنّه يخرج ليبحث عنا – نحن الخطأة – وأنه يجتذبنا إليه ويطهّرنا ويُطلقنا ثانيةً مُجدَّدين نحو جميع الضواحي، لنحمل الرحمة للجميع. دمه هو دم المسيح، دم عهد الرحمة الجديد والأزلي، الذي يُراق عنا وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا. هذا الدم نتأمّله فيما يدخل ويخرج من قلبه ومن قلب الآب. إنه كنزنا الوحيد، والشيء الوحيد الذي يمكننا أن نقدّمه للعالم: الدم الذي يطهر ويصالح كل شيء والجميع. دم الرب الذي يغفر الخطايا. الدم الذي هو مشروب حقّ والذي يقيم من الموت ويعطي الحياة لمن مات بسبب الخطيئة. في صلاتنا الواثقة التي تذهب من الخجل إلى الكرامة ومن الكرامة إلى الخجل، لنطلب النعمة بأن نشعر بهذه الرحمة كأمر جوهري لحياتنا بأسرها؛ النعمة بأن نشعر كيف يتّحد نبض قلب الآب بنبض قلبنا. لا يكفي أن نشعر برحمة الله كتصرّف، يقوم به أحيانًا ليغفر لنا خطيئة كبيرة، وفيما تبقّى ندبّر أمورنا وحدنا وبشكل مُستقل.
تابع البابا فرنسيس يقول يقدّم القديس اغناطيوس صورة نبيلة من حقبته، ولكن وبما أن الوفاء بين الأصدقاء هو قيمة أزليّة فبالتالي يمكنه أن يساعدنا. فهو يؤكّد أنه، ولكي نشعر بـ “الاضطراب والخجل” بسبب خطايانا (بدون أن نتوقّف عن الشعور بالرحمة) يمكننا أن نستعين بمثل: لنتخيّل “فارسًا يقف أمام ملكه وحاشيته، وهو مليء بالخجل ومضطرب لأنّه أهانه كثيرًا، فيما أنه قد نال في السابق من الملك الكثير من الهدايا والنعم” (الرياضة الروحية، 74). مع ذلك، وبإتباع ديناميكيّة الابن الضال في العيد، نتخيّل هذا الفارس كشخص بدلاً من أن يشعر بالخجل أمام الجميع، يمسكه الملك فجأة بيده ويعيد إليه كرامته. ونرى أنّه لا يدعوه فقط لإتباعه في معركته بل يضعه في طليعة رفاقه. بكم من التواضع والوفاء سيخدمه هذا الفارس منذ الآن فصاعدًا! إن كان يشعر كالابن الضال المحتفى به، أو كالفارس غير المُخلص الذي تحوّل إلى رئيس، المهم أن يضع كل واحد نفسه في وتيرة خصبة حيث تضعنا رحمة الرب لا في إطار خطأة غُفر لهم وحسب، وإنما خطأة أُعيدت إليهم كرامتهم أيضًا.
أضاف الحبر الأعظم يقول يقدّم لنا سمعان بطرس الصورة الكهنوتيّة لهذه الوتيرة السليمة. فالرب يربّيه ويُنشِّئه تدريجيًّا ويمرّنه ليحافظ على نفسه هكذا: سمعان وبطرس. الرجل العادي بتناقضاته وضعفه، وذلك الذي يدعى صخرًا ويملك المفاتيح وذلك الذي يقود الآخرين. عندما قاده أندراوس إلى المسيح، هكذا كما كان، بثياب صياد السمك، أعطاه الرب اسم صخر. وما إن انتهى من مديحه على إعلان الإيمان القادم من الآب، وبّخه بقساوة على تجربة الإصغاء لصوت الروح الشرير الذي يقول له أن يبقى بعيدًا عن الصليب. دعاه للسير على المياه وتركه حتّى بدأ يغرق في خوفه، ليمدَّ بعدها له يده فورًا؛ وما إن اعترف بأنّه خاطئ حتى أعطاه الرسالة بأن يكون صيادًا للبشر؛ سأله مرارًا عن محبّته وجعله يشعر بألم وخجل لعدم إخلاصه وجُبنه ولثلاث مرّات يكل إليه مهمّة أن يرعى خرافه. علينا أن نركّز أنفسنا هنا، في الفسحة التي يتعايش فيها بؤسنا الأشدّ خجلاً وكرامتنا الأسمى. قذرون وغير أنقياء، بؤساء ومتكبّرون وأنانيّون وفي الوقت عينه بأقدام مغسولة، مدعوون ومختارون، منصبّون على توزيع الخبز الذي كُثِّر، مباركون من أُناسنا ومحبوبون ومُعتنى بهم. وحدها الرحمة تجعل هذا الموقف مُحتَمَلاً. بدونها إما نعتقد أنفسنا أبرارًا كالفريسيّين أو نبتعد كهؤلاء الذين يشعرون أنّهم غير مستحقّين. وفي الحالتين تتصلّب قلوبنا.
تابع الأب الأقدس يقول لنتعمّق بالأمر بعض الشيء: ما هو سبب خصوبة هذه الوتيرة؟ أعتقد بأنها خصبة لأن الحفاظ عليها يتطلّب قرارًا حرًّا. والرب يعمل بشكل رئيسيٍّ على حريّتنا، علمًا أنّه يساعدنا في كل شيء. إن الرحمة هي مسألة حريّة، والشعور يتدفّق بشكل عفوي، وعندما نؤكّد أنها تنبع من الأحشاء يبدو أنها مرادف لـ “حيواني”، لكن الحيوانات في الواقع لا تعرف الرحمة “الخلقيّة”، بالرغم من أن بإمكان بعضهم أن يختبروا شيئًا من هذه الشفقة، كالكلب الأمين الذي يبقى بقرب صاحبه المريض. الرحمة هي تأثُّر يلمس الأحشاء ومع ذلك يمكنه أن ينبعث أيضًا من ذكاء حاد – مباشرة كشعاع، ولكنها ليست بهذه البساطة – : يمكننا أن نفهم أمورًا كثيرة عندما نختبر الرحمة. يمكننا أن نفهم، على سبيل المثال، أن الآخر يعيش حالة يأس ومحدوديّة، بأنه قد حصل له أمر يتخطّى خطاياه أو ذنوبه؛ يمكننا أن نفهم أيضًا أن الآخر مثلنا وأنه من الممكن أن نكون مكانه؛ وبأنَّ الشرَّ كبير جدًّا ومُدمّر ولا يمكن حلّه فقط بواسطة العدالة… يمكننا أن نقنع أنفسنا في العمق أن هناك حاجة لرحمة لامتناهية كرحمة قلب المسيح لنعوّض عن كثرة الشرّ والألم الموجودة وكما نرى في حياة الكائنات البشريّة… أقل من تلك الرحمة لا تكفي. هناك الكثير من الأمور التي يفهمها عقلنا فقط لدى رؤية شخص ما مرميٍّ على الطريق، حافي القدمين في صباح بارد، أو لدى رؤية الرب المصلوب على الصليب من أجلي! وفضلاً عن ذلك، فالرحمة تُقبل وتُعزز أو تُرفض بحريّة. إن استسلم المرء لها فالتصرّف سيجرُّ الآخر، أما إن عبر ومضى فالقلب سيتصلّب. إن الرحمة تجعلنا نختبر حريتنا وهناك يمكننا أن نختبر حريّة الله الرحوم مع الرحيم (راجع تثنية 5، 10)، كما قال لموسى. في رحمته يعبّر الرب عن حريّته ونحن عن حريّتنا.
أضاف الحبر الأعظم يقول يمكننا أن نعيش لفترة طويلة “بدون” رحمة الرب، أي يمكننا أن نعيش بدون أن نتنبّه لها أو أن نطلبها بوضوح، إلى أن يدرك المرء أن “كل شيء هو رحمة” ويبكي بمرارة لأنه لم يستفد منها من قبل، إذ كان بأمسّ الحاجة لها. إن البؤس الذي نتحدّث عنه هو البؤس الخلقي، غير القابل للتحويل، ذاك الذي من خلاله يعي المرء لذاته كشخص، وفي وقت حازم في حياته، تصرّف من تلقاء نفسه: قام بخيار وخياره كان سيئًا. هذا هو القعر الذي ينبغي أن نلمسه لكي نشعر بألم الخطايا ونتوب حقًّا. لأنه وفي إطارات أخرى لا يمكن للمرء أن يشعر بهذه الحرية ولا بأن الخطيئة تؤثر سلبيًّا على حياته بأسرها وبالتالي لا يختبر بؤسه وبهذا الشكل يفقد الرحمة التي تعمل فقط في حالة كهذه. فالمرء لا يذهب إلى الصيدلية ويقول: “رُحماك أعطني أسبرين”. ولكنّه يسأل باسم الرحمة أن يعطوه مخدّرًا لشخص يعاني من آلام مرض نهائي.
تابع البابا فرنسيس يقول إن القلب الذي يجمعه الله ببؤسنا الخلقي هو قلب المسيح، ابنه الحبيب، والذي ينبض كقلب واحد مع قلب الآب والروح القدس. إنه قلب يختار الدرب الأقرب ويلتزم بها. هذا هو من ميزات الرحمة، التي تعمل وتلمس وتريد أن تدخل في علاقة مع الآخر، تتوجّه إلى ما هو شخصي من خلال أكثر ما هو شخصي، لا “تهتمّ بحالة ما” بل تلتزم مع شخص وجرحه. الرحمة تذهب أبعد من العدالة وتُعلمنا بهذا الأمر وتجعلنا نشعر به؛ إذ نبقى ملتزمين الواحد مع الآخر. وإذ تمنح الكرامة، ترفع الرحمة الشخص الذي ننحني إليه وتجعلنا متساويين، الرحيم والذي نال الرحمة. لذلك يحتاج الأب إلى أن يحتفل، لكي يتمّ إصلاح كل شيء في مرّة واحدة، مُعيدًا إلى ابنه الكرامة التي فقدها. هذا الأمر يسمح بالنظر إلى المستقبل بأسلوب جديد. ليس أن الرحمة لا تعتبر موضوعيًّا الأذى الذي سببه الشرّ. ولكنها تُجرِّده من السلطة على المستقبل ومن السلطة على الحياة التي تسير إلى الأمام. الرحمة هي موقف الحياة الحقيقيّ الذي يتعارض مع الموت ثمرة الموت المرّة. هكذا هي الرحمة متبصّرة وليست ساذجة. ليس لأنها لا ترى الشر لكنها تنظر إلى مدى قصر الحياة وإلى كل الخير الذي لا يزال يمكن فعله. لذلك ينبغي علينا أن نغفر بشكل كامل، لكي ينظر الآخر إلى الأمام ولا يضيّع الوقت في إدانة نفسه والتحسّر عليها وعلى دوافع خطأه. وفيما ينطلق المرء للعناية بالآخرين يبدأ أيضًا فحص الضمير وبقدر ما نساعد الآخرين نعوّض عن الشرّ الذي اقترفناه. الرحمة هي في الأساس مُفعمة بالرجاء.
أضاف الأب الأقدس يقول أن نسمح لحركة قلب الآب بأن تجذبنا وترسلنا يعني أن نحافظ على أنفسنا في تلك الوتيرة السليمة للكرامة الخجولة. أن نسمح لمحور قلبه بأن يجذبنا، كدم قد اتّسخ خلال ذهابه ليعطي الحياة للأعضاء الأكثر بعدًا، لكي يطهّرنا الرب ويغسل أرجلنا؛ أن نسمح بأن نُرسَل ممتلئين بنفحة الروح القدس لنحمل الحياة إلى كل الأعضاء لاسيما تلك البعيدة والهشة والمجروحة. يُخبر أحد الكهنة عن شخص كان يعيش على الطريق وفي النهاية أصبح يعيش في مضافة. لقد كان مُنغلقًا في مرارته ولم يكن يتفاعل مع الآخرين. لكنّهم تيقّنوا لاحقًا أنّه كان شخصًا مُثقّفًا. بعد وقت قصير، تمّ إدخال هذا الرجل إلى المستشفى بسبب مرض نهائيّ وقد أخبر الكاهن أنّه وفيما كان هناك يجتاحه الشعور بالفراغ وخيبة أمله من الحياة، طلب منه المريض الذي في السرير الذي قربه أن يعطيه المِبصقة وأن يفرغها بعدها. وأخبر أن هذا الطلب الذي أتى من شخص محتاج بالفعل وكان في حالة أسوء من حالته فتحت له عينيه وقلبه على شعور بشريّ قوي وعلى رغبة بمساعدة الآخر والسماح لله بأن يساعده. هكذا ربطه تصرّف رحمة بسيط بالرحمة اللامتناهية، لقد تحلّى بالشجاعة ليساعد الآخر وسمح بعدها بأن تتم مساعدته: توفي بعد أن اعترف وبسلام.
تابع الحبر الأعظم يقول هكذا أترككم مع مثل الأب الرحوم، بعد أن “ركّزنا أنفسنا” في تلك اللحظة التي يشعر فيها الابن بأنه قذر وقد أُلبس من جديد، خاطئ أُعيدت إليه كرامته، خجِل من نفسه وفخور بأبيه. إن العلامة ليعرف المرء إن كان قد ركّز نفسّه جيّدًا هي الرغبة بأن يكون، منذ الآن فصاعدًا، رحيمًا مع الجميع. هنا تكمن النار التي جاء يسوع ليلقيها على الأرض، تلك النار التي تُشعل نيرانًا أخرى. إن لم تتّقد الشعلة فهذا يعني أن أحد القطبين لا يسمح بالاحتكاك. فإما الخجل المُفرط الذي لا يجرّد الأسلاك وبدلاً من أن يعترف المرء بانفتاح: “لقد فعلت كذا وكذا”، يغطّي نفسه؛ وإما الكرامة المُفرطة التي تلمس الأشياء بواسطة القفازات.
أضاف البابا يقول إن المبالغة الوحيدة أمام رحمة الله المفرطة هي المبالغة في نوالها والرغبة بنقلها للآخرين. يُظهر لنا الإنجيل العديد من الأمثال الجميلة لأشخاص بالغوا لكي ينالوها: المُخلّع الذي أدخله أصدقاؤه من السقف إلى وسط المكان حيث كان الرب يعظ؛ الأبرص الذي ترك رفاقه التسعة وعاد يمجّد الله ويشكره بصوت عظيم وجثا عند أقدام الرب؛ الأعمى برطيما الذي تمكّن من إيقاف يسوع بصراخه؛ المرأة النازفة التي، وفي خجلها، اجتهدت لتنال قربًا حميمًا مع الرب الذي، وكما يقول الإنجيل، عندما لمست ثوبه أحس بقوّة خرجت منه…؛ جميعها أمثال لذلك الاحتكاك الذي يشعل نارًا ويبعث القوّة، القوة الإيجابيّة للرحمة. هناك الخاطئة أيضًا التي شكّل التعبير المفرط لمحبّتها للرب – من خلال غسلها لقدميه بدموعها ومسحهما بشعرها – علامة له بأنّها قد نالت رحمة كبيرة ولذلك تعبّر عنها بذاك الشكل. إن الأشخاص الأكثر بساطة والخطأة والمرضى والممسوسين… يُرفعون مباشرة من قبل الرب الذي ينقلهم من الإقصاء إلى ملء الإدماج ومن البعد إلى العيد. هذه هي العبارة: الرحمة تنقلنا “من البعد إلى العيد”. وهذا الأمر لا يمكن فهمه إلا في ضوء الرجاء، في ضوء رسولي وفي ضوء من نال رحمة ليمنحها بدوره أيضًا.
وختم الأب الأقدس تأمّله الأول بالقول يمكننا أن نختتم بصلاة نشيد الرحمة، المزمور الخمسين للملك داود، والذي نتلوه في صلاة الصباح في أيام الجمعة. إنه نشيد “قلب تائب ومهان” وبالرغم من خطيئته يعترف بعظمة أن الله أمين وأكبر من الخطيئة. وإذ نركّز أنفسنا في اللحظة التي كان فيها الابن الضال ينتظر معاملة باردة ولكن الآب يضعه وسط عيد، يمكننا أن نتخيّله وهو يصلّي المزمور الخمسين، ونصلّيه في جوقين معه، يمكننا أن نسمعه يقول: “إرحَمْني يا اللهُ بِرَحمتِكَ، وبِكثرَةِ رأفَتِكَ أُمحُ مَعاصيَ…” ونقول: “أنا (أيضًا) عالِمٌ بِمَعاصيَ، وخطيئَتي أمامي كُلَ حينٍ”، ونتابع بصوت واحد: “إليكَ وَحدَكَ (أيها الآب) إليكَ وَحدَكَ خطِئتُ”. لنصلِّ إذًا انطلاقًا من تلك الوتيرة الحميمة التي تشعل الرحمة، تلك الوتيرة بين الخجل الذي يؤكّد: “أحجب وجهَكَ عَن خطاياي، واَمحُ كُلَ آثامي”؛ وتلك الثقة القائلة: “طَهِّرني بالزُّوفا فأطهُرَ، واغسِلْني فأبيضَ أكثرَ مِنَ الثَّلج”. ثقة تصبح رسوليّة: “أمنحني بهجة خلاصك، وبروح رئاسيّ أعضدني، فأُعلَمُ العُصاةُ طُرُقَكَ، والخاطِئونَ إليكَ يرجعونَ”.
(إذاعة الفاتيكان)