توجّه قداسة البابا فرنسيس عصر اليوم الخميس إلى بازيليك القديس بولس خارج أسوار روما حيث ألقى تأمّله الثالث والأخير في إطار يوبيل الكهنة وتمحور حول موضوع “رائحة المسيح الطيّبة ونور رحمته”. قال الأب الأقدس في لقائنا الثالث أقترح عليكم أن نتأمّل حول أعمال الرحمة، إن كان من خلال التوقف عند بعضها، التي نشعر بأنها متعلّقة أكثر بموهبتنا، أو من خلال التأمل بها كلها معًا من خلال عيني العذراء الرحيمتين اللتين تجعلاننا نكتشف الخمر التي تنقص وتشجّعنا “لنفعل كل ما يأمرنا به يسوع” (راجع يوحنا 2، 1- 12)، لكي تحقق رحمته الآيات التي يحتاج إليها شعبنا.
تابع البابا فرنسيس يقول ترتبط أعمال الرحمة كثيرًا بالـ “معاني الروحيّة”. عندما نصلّي نطلب نعمة أن “نشعر ونتذوّق” الإنجيل بشكل يجعلنا حساسين تجاه الحياة. وإذ يحركنا الروح القدس ويقودنا يسوع يمكننا أن نرى من بعيد، بأعين الرحمة، الشخص المُمدّد على الأرض على قارعة الطريق، ويمكننا أن نسمع صرخة برتيماوس وأن نشعر كيف شعر الرب على طرف ردائه لمسة النازفة الخجولة وإنما القاطعة، يمكننا أن نطلب النعمة بأن نتذوّق معه على الصليب مرارة جميع المصلوبين، لنتنشق هكذا رائحة الرحمة القويّة – في المستشفيات الميدانيّة والقطارات والمراكب المليئة بالناس -؛ تلك الرائحة التي لا يخفيها زيت الرحمة، ولكن بدهنه يولّد رجاء. يخبر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية بحديثه عن أعمال الرحمة أن القديسة روزا دا ليما، في اليوم الذي وبّخته فيها أمها على استقبالها للفقراء والمرضى في البيت، قالت لها القديسة روزا دا ليما بدون تردّد: “عندما نخدم الفقراء والمرضى نكون رائحة المسيح الطيّبة” (عدد 2449). إن رائحة المسيح الطيّبة هذه – الاعتناء بالفقراء – تُميِّز الكنيسة، وهكذا كان الأمر على الدوام. لقد ركّز بولس هنا لقاءه مع “أعمدة الكنيسة”، كما يسمّيهم، أي مع بطرس ويعقوب ويوحنا. لقد “سألونا فقط أن نتذكّر الفقراء” (غلاطية 2، 10). يقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية أيضًا وبشكل معبّر أن “الذين يعانون من الفقر والبؤس هم موضوع حبٍّ وتفضيل من قبل الكنيسة التي ما برحت منذ بدايتها، ورغمًا عن أوهان الكثيرين من أعضائها، تعمل على مساعدتهم والدفاع عنهم وتحريرهم” (عدد 2448).
أضاف الأب الأقدس يقول لقد عشنا في الكنيسة ولدينا الكثير من الأمور غير الصالحة والعديد من الخطايا، لكن وفي إطار خدمة الفقراء من خلال أعمال الرحمة وككنيسة قد تبعنا الروح القدس على الدوام، وقديسونا قد قاموا بذلك أيضًا بأسلوب مبدع وفعّال جدًّا. لقد كانت محبّة الفقراء العلامة والنور التي تجعل الناس يمجدّون الآب. إن أناسنا يقدّرون هذا الأمر، أي الكاهن الذي يعتني بالفقراء والمرضى ويسامح الخطأة ويعلّم ويؤدّب بصبر… إن شعبنا يسامح الكهنة على العديد من نواقصهم ولكن لا يسامحهم على تعلُّقهم بالمال. وليس بسبب الغنى بذاته، وإنما لأنّ المال يجعلنا نفقد غنى الرحمة. إن شعبنا يشعر بالخطايا الخطيرة بالنسبة للراعي، وتلك التي تقتل خدمته لأنّها تجعله موظّفًا لا بل وأسوء من ذلك أجيرًا، وتلك التي، لن أسميها خطايا ثانويّة، وإنما خطايا يمكن احتمالها وحملها كصليب إلى أن يطهّرها الرب في النهاية كما سيفعل مع الزؤان. لكن ما يُسيء إلى الرحمة هو تناقض جوهري. يُسيء إلى ديناميكيّة الخلاص وإلى المسيح الذي “افتَقَرَ لأَجلنا وهو الغَنِيُّ لِنغتني بِفَقرِه” (راجع 2 كور 8، 9). وهكذا هو الأمر لأنّ الرحمة تشفي “من خلال فقدان شيء من ذاتها”: قطعة صغيرة من القلب تبقى مع الشخص المجروح؛ وقت من حياتنا، كنا نرغب بأن نقوم بشيء ما خلاله، نخسره عندما نقدّمه للآخر.
تابع الحبر الأعظم يقول لذلك ليست المسألة أن يستعمل الله الرحمة معي في نقص معيّن، كما ولو أنني أكفي ذاتي في الباقي، أو أنني أحيانًا أقوم بعمل رحمة مميّز تجاه معوز ما. إن النعمة التي نطلبها في هذه الصلاة هي أن نسمح لله بأن يتصرّف معنا برحمة في جميع جوانب حياتنا وأن نكون رحماء مع الآخرين في جميع تصرّفاتنا. بالنسبة لنا نحن الكهنة والأساقفة الذين نعمل في منح الأسرار فنعمّد ونعرِّف ونحتفل بالإفخارستيا… تشكل الرحمة الأسلوب لتحويل حياة شعب الله بأسرها إلى سرّ. أن نكون رحماء ليس أسلوب حياة وحسب، وإنما هو ما نحن عليه: وما من خيار آخر لكي نكون كهنة. لقد كان الكاهن بروشيرو – والذي إن شاء الله ستتم إعلان قداسته في هذا العام – يقول: “إن الكاهن الذي لا يشعر بالشفقة تجاه الخطأة هو نصف كاهن. هذه الخرق المباركة التي أرتديها لا تجعل مني كاهنًا، لأنني إن لم أحمل المحبة في قلبي فلست حتى بمسيحي”.
تابع البابا فرنسيس يقول أن أرى ما ينقصني لكي أضع حدًّا فورًا، لا بل وأفضل من ذلك أن أتوقّعه، هو من ميزات نظرة الأب. هذه النظرة الكهنوتيّة – لمن يقوم بدور الأب في قلب الكنيسة الأم – التي تحملنا لنرى الأشخاص في منظار الرحمة، هي التي يجب أن تُعلَّّم انطلاقًا من الإكليريكية وينبغي أن تغذّي جميع الخطط الراعوية. نرغب ونطلب من الرب نظرة تعلِّمنا أن نميّز علامات الأزمنة في منظار “أي أعمال رحمة هي ضروريّة اليوم من أجل شعبنا” ليتمكّن من أن يشعر ويتذوّق إله التاريخ الذي يسير في وسطه. لأنَّه، وكما تقول وثيقة آباريسيدا مستشهدة بالقديس ألبرتو هورتادو: “من خلال أعمالنا يعرف شعبنا أننا نفهم ألمه” (عدد 386). من خلال أعمالنا.
أضاف الأب الأقدس يقول إن العلامة لفهم شعبنا هذا هو أن الله يباركنا دائمًا في أعمال الرحمة التي نقوم بها ونجد مساعدة وتعاون شعبنا. لكن الأمر ليس هكذا في المشاريع الأخرى التي تسير أحيانًا على ما يرام وأحيانًا أخرى بعكس ذلك، وبالتالي يسعى بعض الذين لا يدركون سبب عدم سير الأمور إلى البحث عن خطط راعوية جديدة، فيما يكفي أن يقولوا ببساطة: إن الأمور لا تسير لأن الرحمة تنقصها؛ بدون الحاجة للدخول في التفاصيل. إن لم تكن مباركة فلأنَّ الرحمة تنقصها؛ تنقصها تلك الرحمة التي تنتمي إلى مستشفى ميداني أكثر منه إلى عيادة فخمة، تلك الرحمة التي وإذ تقدّر شيئًا صالحًا تحضّر الأرض للقاء مستقبلي للإنسان مع الله بدلاً من أن تبعده من خلال انتقاده في نقطة معيّنة. أقترح عليكم صلاة مع الخاطئة التي غُفر لها (راجع يوحنا 8، 3- 11)، لطلب النعمة كي نكون رحماء في الاعتراف وأخرى على الصعيد الاجتماعي لأعمال الرحمة.
تابع البابا فرنسيس يقول يؤثّر في على الدوام مقطع الرب مع المرأة الزانية، كيف، عندما لم يحكم عليها، “قلّل” الرب في احترام الشريعة، في تلك النقطة التي طلبوا منه حكمه – إن كان يجب رجمها أم لا؟ – لم يتكلّم ولم يطبّق الشريعة. تظاهر بأنّه لم يفهم وفي تلك اللحظة انصرف إلى شيء آخر. بدأ هكذا عمليّة في قلب المرأة التي كانت تحتاج لهذه الكلمات: “وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ”. وإذ مدّ لها يده جعلها تقف وهذا الأمر سمح لها بأن تلتقي بنظرة مُفعمة بالعذوبة غيّرت لها قلبها. أحيانًا يولّد فيَّ خليطًا من الأسى والامتعاض عندما يجتهد أحد ما في شرح الوصيّة الأخيرة “لا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” ويستعمل هذه الجملة “للدفاع” عن يسوع فلا يبقى الواقع بأنّه تمّ تخطّي الشريعة. أعتقد أن الكلمات التي يستعملها الرب لا تنفصل عن تصرفاته. إن انحناءه ليخط بِإِصبَعِه في الأَرض لمرتين، خالقًا بذلك وقفة قبل أن يتوجّه إلى الذين أرادوا أن يرجموا المرأة وقبل أن يتوجّه إليها، يحدّثنا عن وقت يأخذه الرب لنفسه ليحكم ويغفر. وقت يعيد كل فرد إلى ذاته ويحمل الذين يدينون على الانسحاب. في حواره مع المرأة يفتح الرب فسحات أخرى: وإحداها فسحة عدم الإدانة. يشدّد الإنجيل على هذه الفسحة التي بقيت مفتوحة. يضعنا في نظرة يسوع ويقول لنا إنه “لم يرَ أحدًا حوله إلا المرأة وحدها”، ومن ثمّ يحمل يسوع المرأة على النظر حولها من خلال السؤال: “أين هم أولئك الذين صنّفوكِ؟” (هذه الكلمة مهمّة لأنها تُخبر عما نرفضه بشدّة كواقع أن يتمّ تصنيفنا أو الاستهزاء بنا…). وعندما جعلها تنظر إلى الفسحة الحرّة من حكم الآخرين، قال لها إنه لن يرجمها أيضًا: “وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ”. وفي تلك اللحظة فتح لها فسحة حرّة أخرى: “اذهبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة”. هذه هي رقّة الرحمة التي تنظر بشفقة إلى الماضي وتُشجّع على المستقبل.
أضاف الحبر الأعظم يقول هذا الـ “لا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة” ليس أمرًا مسلَّمًا به. فالرب يقوله “معها”، يساعدها لتعبِّر من خلال الكلمات عما كانت تشعر به، تلك الـ “لا” الحرّة للخطيئة التي تشبه “نعم” مريم للنعمة. فالـ “لا” تُقال بالنسبة لجذور خطيئة كل فرد. في حالة المرأة كان الأمر يتعلّق بخطيئة اجتماعيّة، بخطيئة شخص يقترب الناس منه إما ليكونوا معه أو ليرجموه. لذلك فالرب لا يُحرِّر لها الدرب وحسب وإنما يضعها في المسيرة أيضًا لكي لا تبقى بعد الآن “غاية” نظر الآخرين وتصبح رائدة حياتها. أعتقد أن الـ “لا تَعودي إِلى الخَطيئة” لا يتعلّق فقط بالجانب الخلقي وإنما أيضًا بنوع خطيئة لا يسمح لها بعيش حياتها. فيسوع قد قال أيضًا لكسيح سيلو: “لا تَعُد إِلى الخَطيئَة” (يوحنا 5، 14)؛ لكن لهذا الرجل الذي كان يبرّر نفسه بالأمور التعيسة التي كانت تحصل له وكان يتصرّف كالضحية، يثيره قليلاً بقوله: “لِئَلاَّ تُصابَ بِأَسوَأَ”. فالرب يستفيد من أسلوبه في التفكير وممّا يخيفه ليجعله يخرج من شلله. لنقُل إنّه يحرّكه بالخوف. هكذا ينبغي على كل منا أن يسمع هذا الـ “لا تَعُد إِلى الخَطيئَة بعد الآن” بطريقة حميمة وشخصيّة.
تابع الأب الأقدس يقول إن هذه الصورة للرب الذي يضع الأشخاص في مسيرة هي ملائمة جدًّا: إنه الله الذي يسير مع شعبه والذي يقود تاريخنا ويرافقه. لذلك فالهدف الذي تتوجّه إليه الرحمة هو واضح جدًّا: تتوجّه إلى ما يجعل كل رجل وامرأة لا يراوحان مكانهما في مسيرتهما مع أحبائهما وبإيقاعهما نحو الهدف الذي يدعوهما الله للذهاب نحوه. ولكن ما يجعلنا نتأثّر هو أن يضيّع المرء نفسه أو أن يبقى في الخلف أو أن يُخطئ بالإدعاء والغرور بمعنى ألا يكون مُستعدًّا للرب وجاهزًا للمهمّة التي يريد أن يوكلها إليه، أو ألا يسير بتواضع في حضرة الله (راجع ميخا 6، 8) ولا يسير في المحبّة (أفسس 5، 2).
في سياق الحديث عن الفسحات، أضاف البابا فرنسيس يقول، ننتقل إلى فسحة كرسي الاعتراف. إن التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية يقدم لنا كرسي الاعتراف كمكان يُحررنا فيه الحق من أجل اللقاء: “عندما يقوم الكاهن بخدمة سر التوبة، إنما يقوم بخدمة الراعي الصالح الذي يبحث عن النعجة الضالة، وخدمة السامري الرحيم الذي يضمد الجروح، والأب الذي ينتظر الابن الشاطر ويرحب به عند عودته، والقاضي الذي لا يحابي أحداً، ويصدر حكماً عادلاً ورحيماً. وقصارى القول أن الكاهن هو علامة محبة الله ورأفته بالخاطئ وأداتها” (رقم 1465). ويذكّرنا بأن ” ليس المعرف سيد الصفح الإلهي بل خادمه. خادم هذا السر يجب أن يتحد بنية المسيح ومحبته” (رقم 1466).
تابع الحبر الأعظم يقول علامة وأداة للقاء. هذا ما نحن عليه. اجتذاب فاعل للقاء. علامة: تعني أن علينا أن نجذب تماما كما يفعل المرءُ الإشارات ليجذب الانتباه إليه. على العلامة أن تكون مترابطة وواضحة، لكن قبل كل شيء مفهومة. لأنه هناك علامات واضحة للأخصائيين وحسب. علامة وأداة. إن الأداة تعتمد على الفعالية وعلى كونها متاحة ومؤثّرة على الواقع بشكل محدد ومناسب. نحن أداة إذا ما التقى الناسُ فعلا مع الله الرحوم. علينا أن نجعلهم يلتقون به، أن يقفوا معه وجها لوجه. وما يفعلون بعد ذلك هو شأنهم وحدهم. هناك ابن ضال في مزرعة الخنازير وأب يخرج كل مساء إلى شرفة المنزل ليرى إذا ما رجع الابن؛ هناك خروف ضال وراع ذهب ليبحث عنه؛ هناك جريح متروك على قارعة الطريق وسامري قلبه طيب. ما هي إذا خدمتنا؟ أن نكون علامات وأدوات كي يلتقي هؤلاء. لندرك جيدا أننا لسنا الأب ولا الراعي ولا السامري. بل إننا نقف إلى جانب هؤلاء الثلاثة لكوننا خطأة. على خدمتنا أن تكون علامة وأداة لهذا اللقاء. لذا نضع أنفسنا في إطار سر الروح القدس الذي يخلق الكنيسة ويصنع الوحدة ويُحْيي اللقاء في كل مرة. والأمر الآخر المتعلق بالعلامة والأداة هو ألا نكون “ذاتيي المرجع”، لنقولها بطريقة صعبة. لا أحد يتوقف عند حد العلامة لدى فهمه شيء ما؛ لا أحد يتوقف للنظر إلى المطرقة أو المفك بل ينظر إلى اللوحة المثبّتة جيدا. نحن خدَمةٌ عديمو الفائدة. إننا أدوات وعلامات كانت مفيدة جدا لشخصين التقيا في العناق مثل الأب وابنه.
أضاف الأب الأقدس يقول أما الميزة الثالثة للعلامة والأداة فهي تَوفُّرُهما. أن تكون الأداة جاهزة للاستخدام وأن تكون العلامة مرئية. جوهر العلامة والأداة أن تكونا وسيطتين. ربما يوجد هنا مفتاح رسالتنا في هذا اللقاء بين رحمة الله والإنسان. ربما من الأوضح أن نستخدم عبارة سلبية. القديس اغناطيوس تحدث عن ألا نكون عائقا. إن الوسيط الجيد هو من يسهّل الأمور ولا يضع العراقيل. كان يوجد معرّف عظيم في بلدي هو الأب كولّن الذي كان يجلس في كرسي الاعتراف ويفعل شيئين: كان يُصلح كريات الجلد للفتيان الذين يلعبون كرة القدم، وكان يقرأ قاموسا صينيا كبيرا. وكان يقول إن الناس وعندما يرونه منغمسا في نشاطات عديمة الفائدة كتصليح الكريات القديمة وكقراءة القاموس الصيني كانوا يفكرون أن بإمكانهم الاقتراب من هذا الكاهن والحديث معه لأنه من الواضح أن ليس لديه شيء يفعله. كان متاحا للأمور الأساسية. كان يتفادى عائق الظهور بحلة شخص كثير الانشغال.
تابع البابا فرنسيس يقول كل واحد منا تعرّف على معرّفين جيدين. لا بد أن نتعلّم من معرّفينا الجيدين، ممن يقترب منهم الناس، ولا يخيفونهم ويعرفون كيف يتحدثون كي يتكلّم الآخر عما جرى معه، كما فعل يسوع مع نيقوديموس. إذا ما اقترب شخص من كرسي الاعتراف فهذا يعني أنه تائب، وأن التوبة سبق أن تمت. وإذا ما اقترب فهذا يعني أنه يرغب في التغيير. أو على الأقل يرغب في هذه الرغبة إذا ما بدا له الوضع مستحيلا، كما يردد القول اللاتيني “لا أحد مجبر على فعل المستحيل”. علينا أن نتعلّم من المعرّفين الجيدين، أولئك الذين يتعاملون بدقة مع الخطأة ومن تكفيهم كلمة صغيرة ليفهموا كل شيء، كما فعل يسوع مع المرأة النازفة، وفي تلك اللحظة تخرج منهم قوة الغفران. إن اكتمال الاعتراف ليس عبارة عن مسألة حسابية. أحيانا يختبئ الحياء وراء العدد أكثر مما يختبئ وراء الخطيئة نفسها. لكن لا بد أن نترك أنفسنا نتأثر أمام أوضاع الناس، والتي تكون أحيانا مزيجا بين أمور عدة: المرض، الخطيئة والعوامل المؤثرة التي يُستحيل تخطيها، كما كان يسوع يتأثر لدى رؤيته الناس ويحس بهذا الشعور في أحشائه وأمعائه وكان يشفي ويشفي حتى إن لم يُحسن الآخر طلب الشفاء، شأن الأبرص، أو كان يدور حول الموضوع شأن السامرية التي تصرفت كطير الزقزاق الشامي الذي يُصدر الأصوات من جهة لكن عشه موجود في الجهة الأخرى.
أضاف الحبر الأعظم يقول علينا أن نتعلّم من المعرفين الذين يتصرفون بشكل يُشعر التائب بالتأديب من خلال القيام بخطوة إلى الأمام، مثل يسوع، الذي يقدم ما يكفي من التأديب ويعرف كيف يقدّر من يعود ليشكره، ومن يمكنه أن يتحسّن. لقد طلب يسوع من المخلّع أن يحمل سريره، أو كان يترك العميان أو المرأة السورية الفينيقية يتوسلون إليه قليلا. لم يهتم إن لم يكترث هؤلاء له بعد ذلك، شأن مخلع سلوام، أو إذا أخبروا أمورا طلب منهم عدم الإفصاح عنها وكان يبدو أنه هو الأبرص لأنه لم يتمكن من دخول القرى أو عندما كان أعداؤه يبحثون عن أسباب لإدانته. كان يشفي، يغفر، يمنح الراحة والسكينة وكان يجعل الناس يتنفسون نفحة الروح المعزي.
تابع البابا فرنسيس يقول لقد تعرفتُ على راهب كبوشي في بوينوس أيريس، أفوقه سنا بعض الشيء، وكان معرفا عظيما. وكان الناس يصطفون أمام كرسي الاعتراف، كان هناك صف من الأشخاص ينتظرون طوال النهار ليعترفوا. كان يغفر ويعتريه أحيانا هاجس أن يكون قد غفر كثيرا. وكان يحدثني مرة فقال لي “يعتريني أحيانا هذا الهاجس”، فسألته “ماذا تفعل عندما تشعر بهذا الهاجس؟” فأجاب “أذهب إلى بيت القربان وأنظر إلى الرب وأقول له: اغفر لي يا رب، لقد غفرتُ اليوم كثيرا. لكن لنكن واضحين أنتَ المذنب لأنك أعطيتني المثال السيئ!”. كان يحسّن الرحمة بمزيد من الرحمة.
في الختام، قال الأب الأقدس، ثمة نصيحتان حول موضوع الاعتراف. أولا، لا تحملوا أبدا نظرة الموظّف، الذي يرى “حالات” وحسب ويعمل على التخلّص منها. إن الرحمة تحررنا من كوننا كهنة “قضاة – موظفين” الذين، ولكثرة إدانتهم “للحالات”، فقدوا المشاعر حيال الأشخاص والوجوه. إن القاعدة التي قدمها يسوع هي “أن ندين كما نريد أن ندان” في هذا المقياس الحميمي للإدانة، إذا ما تم التعامل مع الناس بكرامة، إذا ما تم تجاهلهم أو إساءة معاملتهم، أو مساعدتهم على الوقوف… هذا هو المفتاح لإدانة الآخرين، ولنتنبه أن الرب يثق بهذا المقياس الذي هو شخصي وذاتي. ليس لأن هذا المقياس هو الأفضل، بل لأنه صادق وانطلاقا منه يمكن أن نبني علاقة جيدة. أما النصيحة الثانية: لا تكونوا فضوليين في كرسي الاعتراف. تروي القديسة تيريزيا أنها عندما كانت تستمع إلى أسرار مبتدآتها كانت تتفادى أن تسأل عن تطور الأمور لاحقا. لم تكن تبحث بفضول داخل نفوس الأشخاص (راجع سيرة نفس، مخطوط c، إلى الأم غونزاغا، الفصل الحادي عشر 32). من ميزة الرحمة أن تُغطى بالرداء الخطيئة كي لا نجرح الكرامة. تماما مثل ابني نوح اللذين غطيا بالرداء عري والدهما عندما كان ثملا (راجع تكوين 9، 23).
تابع البابا فرنسيس يقول في نهاية الرياضات الروحيّة، يضع القديس اغناطيوس “التأمل لبلوغ المحبة” التي تجمع ما تم عيشه في الصلاة مع الحياة اليومية. ويجعلنا نتأمل في كيفية وضع المحبة في الأعمال أكثر من الأقوال. وهذه الأعمال هي أعمال رحمة، تلك التي أعدّها الآب “بسابق إعداده لنمارسها” (أفسس 2، 10)، تلك التي يوحي بها الروح القدس إلى كل واحد لأجل الخير العام (راجع 1 قورنتس12، 7). وفيما نرفع الشكر للرب على العطايا الكثيرة التي نلناها من صلاحه، نطلب نعمة أن نحمل لجميع الناس الرحمة التي خلّصتنا.
أضاف الأب الأقدس يقول أقترح عليكم التأمل في بعض المقاطع الأخيرة في الأناجيل. فهناك، يضع الرب نفسه هذا الرباط بين ما نلناه وما ينبغي أن نعطيه. نستطيع أن نقرأ هذه الاستنتاجات في ضوء “أعمال الرحمة” التي تحقق زمن الكنيسة الذي يعيش فيه يسوع القائم، يرافق، يرسل ويجذب حريتنا التي تجد فيه تحقيقها الملموس والمتجدد كل يوم. يقول لنا متى إن الرب يرسل التلاميذ ويقول لهم: “علّموا أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به” (راجع 28، 20). إن “تعليم من لا يعرف” هو في حدّ ذاته من بين أعمال الرحمة. وينعكس كالنور في الأعمال الأخرى: تلك المذكورة في متى 25، والتي تتمثّل أكثر في أعمال الرحمة الجسدية، وفي جميع الوصايا والمشورات الإنجيلية، في “المغفرة” و”التصحيح الأخوي”، وتعزية الحزين، واحتمال الاضطهاد… يختم مرقس بصورة الرب الذي “يتعاون” مع التلاميذ و”يؤيّد كلمته بما يصحبها من الآيات” (راجع 16، 20). وهذه “الآيات” لها ميزة أعمال الرحمة. ويتحدث مرقس أيضًا عن شفاء المرضى وطرد الأرواح الشريرة (راجع 16، 17 ـ 18). ويواصل لوقا إنجيله مع كتاب “أعمال” الرسل، متحدثا عن طريقة عملهم والأعمال التي قاموا بها، بإرشاد من الروح القدس. ويختم يوحنا متحدثا عن “أمور أخرى كثيرة” (21، 25) أو “آيات” (20، 30) صنعها يسوع. إن أفعال الرب، أعماله، ليست مجرّد أعمال بل هي علامات تظهر فيها محبته ورحمته، بشكل شخصي وفريد لكل واحد. نستطيع أن نتأمل الرب الذي يرسلنا إلى هذا العمل من خلال صورة يسوع الرحوم كما أوحى بها إلى الراهبة فاوستينا. ففي هذه الصورة، نستطيع أن نرى الرحمة كنور وحيد نابع من أعماق الله والذي من خلال مروره بقلب المسيح، يخرج مختلفًا، مع لون خاص بكل عمل رحمة.
تابع الأب الاقدس يقول إن أعمال الرحمة لامتناهية، لكل منها بصمتها الخاصة، مع قصة كل وجه. ليست فقط الأعمال الجسدية السبعة والأعمال الروحية السبعة بشكل عام. أو بالأحرى، فإنها، وكما هي مذكورة، كالمواد الأولية ـ مواد الحياة نفسها ـ التي وحين تلمسها يدا الرحمة وتجبلها، تتحوّل كل منها إلى عمل يدوي. عمل يتكاثر كالخبز في السلال، وينمو بكثرة كحبة الخردل. لأن الرحمة هي مثمرة وشاملة. صحيح أننا نفكّر غالبًا في أعمال الرحمة واحدة واحدة، وبكونها مرتبطة بعمل: المستشفيات للمرضى، مراكز لإطعام الجائعين، مراكز لاستقبال المشردين، مدارس للمحتاجين إلى التعليم، كرسي الاعتراف والتوجيه الروحي للمحتاج إلى نصيحة ومغفرة… ولكن، إذا نظرنا إليها كلها، فالرسالة هي أن هدف الرحمة هي الحياة البشرية نفسها بكليتها. إن حياتنا نفسها كـ “جسد” هي جائعة وعطشى، تحتاج إلى لباس ومسكن وزيارات، كما ولدفن لائق، وهو أمر لا يستطيع أحد أن يقدّمه لنفسه. وحتى الغنيّ، عندما يموت، يتحول إلى بؤس، ولا أحد يقود شاحنة نقل خلف موكب دفنه. إن حياتنا نفسها كـ “روح” تحتاج إلى أن تُهذّب وتصحح وتشجّع (تُعزّى). نحتاج إلى أن ينصحنا آخرون، ويغفروا لنا ويساعدونا ويصلوا من أجلنا. إن العائلة هي التي تمارس أعمال الرحمة هذه بطريقة ملائمة جدا ومتجرّدة لا تُلاحظ، ولكن يكفي أن تغيب الأم عن العائلة والأطفال الصغار، حتى يتحوّل كل شيء إلى شقاء. إن البؤس المطلق والأكثر قسوة هو بؤس طفل في الشارع، بدون أهل، فريسة للنسور.
أضاف الحبر الأعظم يقول لقد طلبنا نعمة أن نكون علامة وأداة؛ وينبغي الآن “العمل”، وليس القيام بعلامات فقط وإنما بأعمال وخلق ثقافة الرحمة. ومن خلال العمل، نشعر فورًا بأن الروح القدس هو الذي يدفع هذه الأعمال ويقودها إلى الأمام. ويفعل ذلك مستخدمًا العلامات والأدوات التي يشاؤها، حتى عندما لا تكون أحيانًا في حد ذاتها الأكثر ملاءمة. وإضافة إلى ذلك، يُقال إنه ولممارسة أعمال الرحمة، يختار الروح القدس الأدوات الأكثر فقرًا وتواضعًا وبساطة، والتي هي نفسها أكثر حاجة إلى أول شعاع الرحمة الإلهية. وهي تسمح بشكل أفضل بأن تُنشأ وتُحضّر للقيام بخدمة فعالة حقًا وذات نوعية. إن فرح الشعور بأننا “خدم لا خير فيهم” الذين يباركهم الرب بكثرة نعمته، والذي هو نفسه يُجلسهم إلى مائدته ويقدّم لهم الافخارستيا، لهو تأكيد بأننا نقوم بأعماله، أعمال الرحمة.
تابع الأب الأقدس يقول يفرح شعبنا الأمين بأن يجتمع حول أعمال الرحمة. في احتفالات ـ التوبة والأعياد ـ كما في عمل التضامن والتنشئة، يجتمع شعبنا تلقائيًا ويسمح بأن يتم إرشاده ورعايته بشكل لا يتنبّه إليه الجميع ولا يقدرونه، فيما تفشل برامج رعوية كثيرة أخرى ترتكز إلى ديناميكيات نظرية. إن الحضور الكثيف لشعبنا الأمين في المزارات وفي زيارات الحج، هو حضور مجهول بسبب كثرة الوجوه والرغبة فقط بأن ينظر إلينا يسوع ومريم برحمة، وكذلك أيضًا هو التعاون الكبير الذي من خلال دعمه للعديد من أعمال التضامن، يجب أن يكون محط اهتمام وتقدير وتشجيع من قبلنا. ككهنة، نطلب نعمتين من الراعي الصالح: أن نجعل حس الإيمان لشعبنا الأمين يرشدنا، و”لحس الفقر” أيضًا. إن هذين “الحسين” مرتبطان “بحس المسيح”، بمحبة شعبنا وإيمانه بيسوع.
وختم البابا فرنسيس تأمّله الثالث بالقول نختم بتلاوة “يا روح المسيح”، وهي صلاة جميلة لنطلب رحمة الرب الذي جاء في الجسد، كي يرحمنا في جسده وروحه. نسأله أن يرحمنا مع شعبه: نسأل روحه أن “يقدّسنا”؛ نسأل جسده أن “يخلّصنا”؛ نسأل دمه أن “يُسكرنا”؛ انزع منا كل عطش ليس منك؛ نسأل ماء جنبه أن “يغسلنا”؛ نسأل آلامه أن “تقوينا”؛ عزّ شعبك؛ أيها الرب المصلوب، في جراحك “خبئنا”… لا تسمح يا رب بأن ينفصل شعبك عنك. لا تسمح بأن يفصلنا شيء أو أحد عن رحمتك، ومن العدو الخبيث احمنا. وهكذا نستطيع أن ننشد مراحم الرب مع جميع قديسيك عندما تأمرنا بأن نأتي إليك.
(إذاعة الفاتيكان)