ها أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك”
(لو 1: 38)
1. هذا هو جواب مريم للملاك جبرائيل عندما بشّرها بتصميم الله الخفيّ، وباختياره لها لتكون وهي عذراء، بحلول الروح القدس والقدرة الإلهيّة، أمًّا لابنٍ تسمّيه يسوع، وهو ابن العلي الذي سيجلس على عرش داود أبيه ولا يكون لملكه انقضاء (راجع لوقا1: 28-38). ومن دون أن تدرك مريم كلّ أبعاد السّر الإلهي المكشوف لها، أجابت: “أنا أمة الربّ، فليكن لي بحسب قولك” (لو1: 38). وهو جوابُ “نعم” لم تقلها مرّة واحدة بل ردّدتها طوال حياتها في كلّ مراحلها الحلوة والمرّة، الواضحة والخفيّة، من مغارة بيت لحم إلى مصر فإلى الناصرة وختامًا إلى جبل الجلجلة في أورشليم على أقدام الصليب.
2. كلمة بسيطة “نعم” غيّرت بها مريم مجرى تاريخ البشر، لأنّها أدخلت إلى العالم الفادي والمخلّص. وبها كرّست كلّ ذاتها، نفسًا وجسدًا، عقلًا وإرادةً وقلبًا، لتدبير الله وليسوع الذي سيولد منها. ويسوع نفسه كرّس ذاته للتدبير الإلهي إيّاه، إذ قال يوم دخوله إلى العالم: “هاءنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك يا الله” (عبرا 10: 6). وعلى مثال مريم ويسوع كرّس الرسل ذواتهم لإنجيل المسيح، ومن بعدهم كهنة ورهبان وراهبات ومؤمنون ومؤمنات كرّسوا نفوسهم لرسالة الخلاص وخدمة محبة المسيح. وكان تكريس جماعات وشعوب ودول على مجرى التاريخ.
3. يسعدنا نحن المجتمعين بين يدَي أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان، على تلّة حريصا، مع أصحاب الغبطة البطاركة وسيادة السفير البابوي والسّادة المطارنة، ورؤساء عامّين ورئيسات عامّات، وإكليروس أبرشي ورهباني، وهذا الجمع من المؤمنين، أن نحتفل بالذكرى الثالثة لتكريس لبنان والشَّرق الأوسط لقلب مريم الطاهر، وأن نجدّد هذا التكريس، متجدِّدين بالإيمان والرجاء والمحبة.
واستعدادًا لهذا الاحتفال المهيب انطلقت تساعيّة مسيرات وصلاة وتوبة والتزام إيماني من ثلاثة مزارات مريميّة مع تمثال سيدة فاطيما: من مغدوشه وزحله ومزياره، نظّمتها اللجنة البطريركية لمتابعة التكريس مع رابطة الأخويات والحركة الكهنوتيّة المريميّة وعائلة قلب يسوع ولجنة الجماعات المريميّة.
4. بالتكريس نضع لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط تحت حماية أمّنا العذراء مريم، سيدة لبنان. أجرينا التكريس الأوّل في حزيران 2013، بتوصية من آباء سينودس الأساقفة المشاركين برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الجمعية الخاصّة بالشَّرق الأوسط، التي انعقدت في تشرين الأوّل 2012. وجاء التكريس على غرار تكريس العالم والشعوب لقلب مريم البريء من الدنس الذي أجراه القديس البابا يوحنا بولس الثاني، في حزيران 1981 بعد اطّلاعه على أسرار ظهورات العذراء في فاطيما، ثمّ أجراه هناك في أيار 1982. ومن بعدها في ساحة القديس بطرس بروما في 25 أذار 1984 بالاتّحاد مع جميع أساقفة العالم.
5. إن مضمون السرَّين الأوّلَين للظهورات كما رآها الرعاة الصغار، وكتبتها الشاهدة لوسيا، يتعلّق برؤية جهنّم المخيفة، والعبادة لقلب مريم البريء من الدنس، والحرب العالميّة الثانية. فكانت دعوة الملاك الذي ظهر إلى جانب العذراء وكان يردّد بصوت قوي: “توبوا! توبوا! توبوا! إنّها رؤية نبويّة تكشف كم أنّ الكنيسة ستعاني من جراء خطايا البشر الذين لا يتوبون عنها، وكم العالم سيعاني من ظلم الحكّام الذين لا يحكمون بالعدل، بل يسخّرون السلطة لمصالحهم ومكاسبهم الخسيسة.
“توبوا” هو أوّل نداء اطلقه يوحنا المعمدان: “توبوا، لقد اقترب ملكوت الله” (متى3: 2). وأوّل نداء أطلقه الربّ يسوع: “توبوا وآمنوا بالإنجيل” (مر1: 15).
6. إنّنا في تجديد هذا التكريس نرفع عقولنا وقلوبنا إلى أمّنا مريم العذراء، ونسألها أن تضمّ إلى قلبها وطننا لبنان وبلدان الشّرق الأوسط، حيث الصراعات قائمة بين الخير والشّر، بين النور والظلمات، وهي ظاهرة في النزاعات والحروب، في القتل والتهجير، في لغة السلاح المدمّر والتعصّب والعنف والإرهاب. نقدّم أوطاننا ونكرّسها لكِ يا مريم، نكرّس شعوبها وأجيالها الطالعة؛ نكرّس المسنّين والمرضى والمعوّقين. ثبّتيهم في الإيمان والرجاء والمحبة. مسّي ضمائر المسؤولين عن النزاعات والحروب ليكفّوا أيديهم عن مواصلة هذا الشّر، وليسعوا بروح المسؤولية إلى إيجاد الحلول السلميّة، ليكفرّوا عن أخطائهم بإعادة جميع المهجّرين والنازحين واللاجئين والمخطوفين إلى بيوتهم وأراضيهم وأوطانهم، موفوري الكرامة وجميع حقوقهم كمواطنين. قودي إلى التوبة الخطأة الذين يستخفّون بالله وبوصاياه وبنعمة المسيح الفادي وبرسالة الكنيسة الخلاصية.
7. بتكريس لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطاهر، نكرّس أيضًا ذواتنا ومواطنينا، مثلما كرّستِ أنت، يا مريم، ذاتك لله ولسرّ تدبير الفداء والخلاص، ومثلما كرّس ابنكِ يسوع ذاتَه لأبيه من أجلنا، وقد صلّى: “من أجلهم أكرِّس ذاتي، ليكونوا هم مقدَّسين في الحقّ” (يو17: 19).
نحن بحاجة إلى تكريس ذواتنا من أجل حماية أوطاننا وشعوبنا، ومن أجل الإنسان والإنسانية، ومن أجل إعلان الحقيقة وإحلال العدالة وتوطيد السلام، من أجل المصالحة وطيّ صفحة النزاع، من أجل البناء والإنماء والترقّي، من أجل رفع الصوت عاليًا بوجه الشّر والفلتان اللاأخلاقي وانتهاك حرمة الدِّين والكنائس بانتفاء الحشمة والاحترام.
يا قلب مريم الطاهر، المنتصر على الخطيئة والشّر، ساعدْنا لنغلب تهديدات الشّر الذي يتأصّل بسهولة في قلوب الناس، ويتناول الكنيسة ورعاتها ومؤسّساتها من الداخل ومن الخارج. قوّها لتغلب الشّر بالخير، والخطيئة بالنعمة، والكذب بالحقيقة، والظلم بالعدالة، والبغض بالمحبة، والإساءة بالغفران. ثبّتْها في الأمانة لرسالتها الخلاصيّة ولنشر إنجيل الله، مهما اعترضها من صعوبات ومضادّات ومعاكسات.
8. “ها أنا أمة الربّ. فليكن لي بحسب قولك” (لو1: 38).
هذا هو جواب مريم على تصميم الله الذي فاجأها، وغيّر مجرى حياتها ومشاريعها. قال لها: “لا تخافي“. دعاها إلى الثقة به، وإلى الخروج من ذاتها والدخول في مشروع الله.
في هذا التكريس المزدوج، تكريس لبنان وبلدان الشَّرق الأوسط، وتكريس ذواتنا، نلتمس من الله أن يدخل بمشروعه الخلاصي في بلداننا ونفوسنا، ويعطينا الشجاعة على التخلّي عن مشاريعنا، والخروج من مأمننا، المادّي والفكري والإيديولوجي والسياسي.
في التكريس، يدعونا بولس الرسول، كما دعا تلميذه تيموتاوس في مضايقه: “تذكّر يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات… إذا متنا معه فسنحيا معه؛ وإذا احتملنا فسنملك معه أيضًا” (2تيم2: 8 و11 و12). أن “نتذكّر يسوع المسيح” يعني الثبات في الإيمان، والأمانة لرسالتنا المسيحية في هذا المشرق الذي منه انطلقت بشخص يسوع المسيح والرسل، ونحن مؤتمنون على جذورها وأصالتها. فأرضنا أرض السلام والمحبة والأخوّة، لا أرض الحديد والنار. فلا بدّ وأن ينتصر صليب محبة المسيح ونقاوة قلب مريم الطاهر.
9. بجميع هذه المقاصد نحتفل بتجديد تكريس لبنان وبلدان الشرق الأوسط لقلب مريم الطاهر، راجين أن تلتمس من ابنها الفادي الإلهي أن يُظهر قدرةَ الفداء الخلاصية اللامتناهية وقدرةَ حبّه الرحوم، فيوقف الشّر، ويبدّل الضمائر.
ومعكِ يا مريم نرفع إلى الله نشيد التعظيم: “تعظّم نفسي الربّ لأنّ القدير يصنع العظائم… ورحمته من جيل إلى جيل لخائفيه” (لو1: 46 و50). للآب والابن والروح القدس كلّ مجد وشكران الآن وإلى الأبد، آمين.