لفهم حدث ولادة يوحنا المعمدان من والِدَين عاقرين، لا بد لنا من الرجوع الى لحظة مبادرة الله وعمله لإنجاح هذا المشروع، ذلك، بظهور الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن في الهيكل واطلاعه على امر الولادة، السهل بحسب مفهوم ربنا والعسير بحسب منطقنا البشري. في الحديث الذي دار بين الملاك وزكريا، يظهر لنا جلياً جواب زكريا ها أنذا “الضمني” حاملاً في طياته إفتراضَ حوارِ أخذٍ وردْ، سؤال وجواب وتلبية طلب من قِبَل الطَرَفَين. إن سؤال زكريا الاستنكاري ليس فريد من نوعه، انما تكرر مرارا مع كبار شخصيات العهد القديم في حوارهم مع ملاك الرب. على سبيل المثال، مع ابراهيم ”هل يولد لإبن مئة سنة؟“، ومع موسى ” من انا لاذهب الى فرعون حتى أُخرجَ بني اسرائيل من مصر؟“، حتى مع مريم العذراء ” كيف يكن هذا وأنا لا اعرف رجلا؟“. الفرق بين أولئك وبين زكريا ظاهرُ في نتيجة الحديث التي اوصلت الكاهن الى حالة الخرس بدل الحوار والتجاوب. لو أن زكريا في حينها فهمَ هذا الوحي لما كان خرج مرتبكاً وأخرسا، بل صامتاً ومقتنعا.
معظم المؤمنين واللاهوتيين يفهمون ويفسرون خرس زكريا بمثابة قصاص من قِبل الله، ولكن فعلياً تُظهر ردة فعل زكريا وكأنه، بعد دخوله في حالة إستفسار وإنذهال، فَضَّلَ، ومن باب الاحترام للخالق، أن يتركَ له المجال في معالجة الأمر والعمل على طريقته، لانه لو اقتنعَ وأخبرَ عن كل ما حدث معه في الهيكل، لمَا استطاع إقناع الشعب المنتظر خارج الهيكل، بالإيمان بالرؤية ولا حتى بروايته عن حمَلِ أليصابات امراته.
منذ بدء التاريخ لم يتدخل الله في حياة الانسان متعاملاً بهذا الشكل الذي فيه عامَلَ زكريا وجعله أخرسا، حتى بأصعب الحالات التي نكر فيها شعبُ اسرائيل خالقَهُ وعاد الى عبادة الاصنام. فعدم قدرة زكريا على التعبير في حينه، لعدم قدرة استيعابه لكل ما كان يحصل من حوله، شبيهٌ بلحظة رقاد آدم لدى استخراج الله احد اضلاعه ليصنع حواء، وهي علامة على ان الله يود إزالة قلق عبده لعدم قدرة فهمه وامكانيته في نقل الخبر واقناع الشعب بحقيقة وواقع الحدث. حينها بدا زكريا بحالة امتلاء لحظة تقديم البخور إذ كان متشوق لتلك الخدمة. وبالرغم من قدسيتها ومكانتها الكبيرة في قلبه، بقيَ زكريا اخرسا غير قادر على التكلم والتعبير لمدة تسعة أشهر، فيها، كان لديه الكثير من الأمور ليقولها وليوضحها، للّله، لإليصابات وحتى للشعب. فالله أعطاه كل هذا الوقت ليتحضر لحدث الولادة ويخرج من صدمته، لأن منطق الله يَخرقُ أحيانا كثيرة محدودية فهم الانسان لاموره وعجائبه، ما يجعله غير قادر على فهمه بواسطة العقل إنما فقط بالإيمان.
مرّت الاشهر التسع وتمت ولادة يوحنا المعمدان، وعند يوم ختانته يحدث ما لم يكن في الحسبان: لسان زكريا يعود طليقاً وحرا، يكتب “اسمه يوحنا” كدليل على قبوله حينها ومن دون اي تردد أمرَ الملاك من جهة، وحلّ قضية التسمية مع الأقارب والمعارف من جهة تانية. حينها يقتنع ويفسر للحاضرين كلام الملاك وكل ما رأته عيناه وسمعه في الهيكل بكلمات نشيده، وإن الايمان لا يقتصر فقط على السماع انما يجب ان يُرفق بالرؤية والنظر. نتيجة لذلك، لم يعد زكريا بعد ذلك اخرساً وأول ما نطق به هو نشيد التسبيح والتعظيم لله الخالق، الرحيم والقادر على كل شيء، وقد تنبأ وهو ملآن من الروح القدس، عن المسيح بدرجة اولى وعن يوحنا المُمهد لوصول المسيح المخلص بدرجة تانية.
الله دعا يوحنا من حشا أمه ليمهد طريق المسيح ويحُضرها بافتتاح المعمودية ودعوة الخاطئين للتوبة. فيوحنا كان الصوت ولكن المسيح “في البدء كان الكلمة“، يوحنا هو الصوت لزمن محدود بينما المسيح هو للابد. إذا قمنا بإلغاء الكلمة أيبقى للصوتِ معنى ؟ الصوت دون الكلمة يُشكل فراغا وأذى للأذن وأداة مُهدِّمة بدل من أن تكون اداة بناء لقلب وفكر الانسان.
أليصابات حملت لمدة تسعة اشهر واعطت العالم يوحنا، في المقابل حمل زكريا عقدة لسانه للمدة ذاتها، ولدى ذكره لِ”حنان الله” انحلّت العقدة واعطى العالم “صدى” كلمة الله المتجسدة. فبعد الصدى او الصوت تأتي الكلمة، أما مع ولادة يوحنا فقد سَبَقَ الصدى الكلمة، على عكس ما يحصل عادةً حين ننطقُ ونتكلم، إذ يَرتدّ الصدى إلينا. هذا هو الجواب على سؤال الحاضرين لحظة ختانة يوحنا: “ما عسى هذا الطفل ان يكون؟“: إنه الصدى الذي سبق الكلمة المتجسد ليطوف أرجاء المعمورة مبشراً بقدومه.
ونحن ما الذي نحمله في صمتنا وفي صدى كلماتنا؟
عندما ارغب في نقل الكلمة الى قلب وفكر اي انسان آخر، أسْتعينُ بالصوت لإيصالها. صحيح ان الصوت يموت في الفلك ولكن الكلمة التي يحملها تبلغُ قلب الآخر دون أن تترك فكري وقلبي. يوحنا هو الصوت الذي حملَ الكلمة، دلَّها على درب قلب الآخر وذاب هو في صداها.
إخوتي، إن كلمة الله حِملٌ كبير ومسؤولية على عاتقنا، لا يجب التهاون بها ولا الإستخفاف، بتَبنّيها تصبحُ جزء اساسي من هويتنا وكلامنا وتصرفنا. كلمة الله هي كلمة حق، شجرةُ حياةٍ لا تُقدّم لنا إلا ثماراً صالحة. لإستيعاب هذه الكلمة والاستفادة الكاملة منها، لا بد لنا من تخصيص اوقات صمت لها في حياتنا، بعيدة عن صخب العالم و افكاره الضائعة، وعن صخب حياتنا اليومية ولَهواتها. لمرات كثيرة نعتقد بأن السكوت يعني الصمت او حتى التكلم يعني الثرثرة، ولكن كل ذلك عارٌ عن الصحة لأن السكوت لا يُشكِّل الوحدة، والثرثرة لا تُوَلِّد جماعة. إن الكلمة المرفقة بالصمت هي التي تولّد جماعة لان كلمة الله لا تصل الى الانسان المفعم صخباً بل الى مَن يعيش بصمتٍ وسكينة، علامةً على حضور الله في كلمته.
الصمت هو الوفرة والغنى “بالكلمة” بينما الخرسُ هو الفراغ والتعطيل الخالي من أي نوع من الشهادة والتضحية “للكلمة”. دعوتنا هي ان نصمتَ لنسمعَ “الكلمة” لان أفكارنا تكون موجهة كليا نحوها، لفهمها واستيعابها حباً وعشقاً بها. وبالوقت عينه إننا مدعوين لأن نصمت أيضاً بعد سماعنا “الكلمة” لأن حينها تعمل فينا، تحاكينا وتبحث عن مسكن فينا. “من له أذنان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس“. آمين