أيها الشبيبة الأعزاء، مساء الخير!
وأخيرا التقينا! شكرًا لهذا الاستقبال الحار! أشكر الكاردينال دجِويش، والأساقفة، والكهنة، والرهبان، والإكليريكيين، والعلمانيين وكل الذين يرافقونكم. شكرًا للذين جعلوا حضورنا اليوم هنا ممكنا، والذين “قدّموا أنفسهم” كي نستطيع أن نحتفل بالإيمان. إننا اليوم، كلنا معا، نحتفل بالإيمان!
أود أن أشكر القديس يوحنا بولس الثاني [تصفيق كبير] –بقوة! بقوة!-، في وطنه هذا، هو الذي حلم بهذه اللقاءات وعززها. وهو يرافقنا من السماء، في رؤية الكثير من الشباب المنتمين إلى شعوب، وثقافات، ولغات مختلفة للغاية، ولهم هدف واحد: الاحتفال بيسوع الذي هو حيّ في وسطنا. أفهمتم؟ الاحتفال بيسوع الذي هو حيّ في وسطنا! أن نقول بأنه حي، يعني أننا نريد تجديد رغبتنا في اتباعه، ورغبتنا في عيش اتباع يسوع بشغف. فأيّة مناسبة لتجديد الصداقة مع يسوع، هي أفضل من تقوية الصداقة فيما بينكم؟! وأية طريقة لتقوية صداقتنا مع يسوع، هي أفضل من مشاركة الآخرين بها؟! وأية طريقة لاختبار فرح الإنجيل، هي أفضل من إرادتنا في أن “ننقل عدوى” بشارته إلى العديد من الأوضاع المؤلمة والصعبة؟!
يسوع هو الذي دعانا للاشتراك في اليوم العالمي للشبيبة الواحد والثلاثين هذا؛ يسوع هو الذي يقول: “طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون” (متى 5، 7). طوبى للذين يعرفون كيف يغفرون، يعرفون كيف يكون لهم قلب متعاطف، يعرفون كيف يهبون الأفضل للآخرين؛ الأفضل، وليس ما يفضل: الأفضل!
أيها الشبيبة الأعزاء، لقد لبست بولونيا، هذه الأرض النبيلة، في هذه الأيام حلّة العيد؛ وتريد بولونيا في هذه الأيام أن تكون وجه الرحمة الشاب على الدوام. من هذه الأرض، معكم، وباتحاد أيضًا مع الكثير من الشباب الذين لا يمكنهم أن يكونوا هنا، ولكنهم يرافقوننا عبر وسائل الاتصال المختلفة، سوف نجعل من هذا اليوم، كلّنا معًا، احتفالًا يوبيليًّا حقًّا، في يوبيل الرحمة هذا.
لقد تعلمت شيئا خلال السنين التي عشتها كأسقف –لقد تعلمت الكثير، ولكن أريد أن أقول أمرا واحدا الآن-: ما من شيء أجمل من التأمل في الرغبات والالتزام والشغف والطاقة التي يعيش بها الكثيرُ من الشباب حياتَهم. هذا جميل! ومن أين يأتي هذا الجمال؟ عندما يلمس يسوع قلب شاب، أو شابة، يصبحان قادرَين على القيام بأعمال عظيمة حقًا. ومن المحفز أن نسمعهم يشاركون بأحلامهم، وتساؤلاتهم ورغبتهم في معارضة كل الذين يقولون بأن الأمور لا يمكن أن تتغير. أولئك الذين ألقّبهم “المطمئنين”: “لا شيء يمكن أن يتغير”. كلا، إن للشباب القوة لمعارضة هؤلاء! ولكن… البعض ليسوا أكيدين من هذا… أسألكم، وأنتم تجيبون: من الممكن أن تتغير الأمور؟ [نعم!] لم أسمع! [نعم!] ها هو الجواب. إنها هبة من السماء أن نرى الكثير منكم، مع تساؤلاتهم، يحاولون تغيير الأمور. إنه لجميل، ويفرّح قلبي، أن أراكم هكذا مليئين بالحيويّة. الكنيسة تنظر إليكم اليوم –وأزيد: العالم ينظر إليكم اليوم- وتريد التعلم منكم، كي تجدد ثقتها برحمة الآب، صاحب الوجه الدائم الشباب، والذي لا يتوقف عن دعوتنا للانتماء إلى ملكوته، الذي هو ملكوت فرح، هو ملكوت سعادة على الدوام، هو ملكوت يحملنا دوما إلى التقدم، هو ملكوت قادر على إعطائنا القوة لتغيير الأمور. لقد نسيت، وأسألكم مرة جديدة: هل من الممكن أن تتغير الأمور؟ [نعم!] حسنا.
مدركا الشغف الذي به تعيشون الرسالة، أجرؤ أن أكرر: إن وجه الرحمة هو دائم الشباب. لأن قلبًا رحيمًا لديه الشجاعة دومًا للتخلّي عن الراحة؛ قلبًا رحومًا يعرف كيف يذهب لملاقاة الآخرين، يقدر أن يعانق الجميع. القلبُ الرحيم يعرف كيف يكون ملجأ لمن لم يكن له يومًا منزلٌ أو فقده، ويعرف كيف يخلق جوًّا منزليًا وعائليًا لمن اضطر للهجرة، وهو قادرٌ على الحنان والتعاطف. القلبُ الرحيم يعرف كيف يتقاسم الخبز مع الجائع؛ القلبُ الرحيم ينفتح ليقبل اللاجئ والمهجّر. أن نقول معكم “رحمة”، هو أن نقول فرصة، وأن نقول غدًا، وأن نقول التزام، وأن نقول ثقة، وأن نقول انفتاح، وضيافة، وتعاطف، وأن نقول أحلام. ولكن هل أنتم قادرون على أن تحلموا؟ [نعم!] وعندما يكون القلب منفتحا وقادرا على أن يحلم يوجد مكان للرحمة، ويوجد مكان لملاطفة الذين يتألمون، ويوجد مكان لنكون قرب الذين لا سلام في قلبهم أو ينقصهم الضروري للعيش، أو ينقصهم أجمل الأمور: الإيمان. الرحمة. لنقل معا هذه الكلمة: الرحمة. كلنا! [الرحمة!] مرة أخرى [الرحمة!] مرة أخرى كي يسمع العالم [الرحمة!].
أود أن أعترف بشيء آخر تعلمته خلال هذه السنوات. لا أريد الإساءة إلى أي شخص، ولكن يؤلمني أن أرى شبان يبدون “متقاعدين” قبل الأوان. هذا يؤلمني. شباب يبدوا وكأنهم تقاعدوا في عمر 23، 24، 25 سنة. هذا يؤلمني. ويقلقني أن أرى شبان “يتخلّون” قبل بدء اللعبة. شبان “يستسلمون” قبل أن يَبْدَؤُوا اللعب. يؤلمني أن أرى شباب يمشون بوجه حزين كما لو أنه لا قيمة لحياتهم. إنهم شباب يشعرون بالملل بشكل أساسي… وهم مملون، ويملون الآخرين، وهذا يؤلمني. من الصعب، وفي الوقت عينه يستدعي انتباهنا، أن نرى شبان يتخلون عن الحياة للبحث عما يولد فيهم شعور “تشوش”، أو عن ذاك الشعور بأنهم أحياء عبر طرق مظلمة تجعلهم في النهاية “يدفعون الثمن”… ويدفعون غاليًا. فكروا في الكثير من الشباب الذين تعرفونهم، والذين اختاروا هذا الدرب. ويحملنا على التفكير حين نرى شبانا يخسرون أجمل أيام حياتهم وطاقاتهم وهم يجرون وراء بائعي الأوهام (في وطني نقول “بائعي الدخان”) الذين يسلبون أفضل ما فيكم. وهذا يؤلمني. أنا متأكد من أنه ليس هناك اليوم بينكم من هؤلاء الأشخاص، ولكن أريد أن أقول لكم: هناك شبان متقاعدين، هناك شبان يستسلمون قبل بدء المباراة، هناك شبان “تتشوش” بسبب الأوهام الكاذبة وينتهون في العدم.
لذا، أيها الأصدقاء، لقد اجتمعنا كي نساعد بعضنا بعضا، لأننا لا نريد أن يسرق أحدٌ أفضل ما فينا، لا نريد أن نسمح لأحد بأن يسرق الطاقات، بأن يسرق الفرح، بأن يسرق الأحلام، عن طريق الأوهام.
أسالكم أيها الأصدقاء: أتريدون لحياتكم ذاك “التشوش” الذي يسترهن أم أن تشعروا بالقوة التي تجعلكم تشعرون بأنكم أحياء، ومملوئين؟ “تشوش” يسترهن أم قوة النعمة؟ ماذا تريدون: “تشوش” يسترهن أم قوة ملء؟ ماذا تريدون؟ [قوة ملء!] لم أسمع جيدا! [قوة ملء!] من أجل أن تكونوا مملوئين، من أجل أن تكون لكم حياة مجددة، هناك جواب؛ هناك جواب لا يُباع، هناك جواب لا يُشترى، هناك جواب ليس شيئًا، ليس غرضًا ما، إنما هو شخص، واسمه يسوع المسيح. أسألكم: يسوع المسيح يمكن شراؤه؟ [لا!] هل يُباع يسوع المسيح في المتاجر؟ [لا!] يسوع المسيح هو هبة، هو هدية الآب، هو هدية أبينا. من هو يسوع المسيح؟ الجميع! يسوع المسيح هو هبة! الجميع! [هو هبة!]. هو هبة الآب.
يسوع المسيح هو الذي يعرف كيف يضفي شغفًا على الحياة؛ يسوع المسيح هو الذي يحملنا على عدم القبول بالقليل وعلى إعطاء أفضل ما فينا؛ يسوع المسيح هو الذي يستدعي انتباهنا، ويدعونا ويساعدنا على النهوض كل مرة نعتبر فيها أننا قد خسرنا. يسوع المسيح هو الذي يدفعنا إلى رفع أنظارنا وإلى أن نحلم عاليًا. “قد يقول لي أحدكم، ولكن أبتي، إنه من الصعب أن نحلم عاليا، من الصعب الصعود، أن نكون في صعود دائم. أبتي إني ضعيف، أقع، إني أجتهد ولكني أقع في الكثير من المرات”. المتسلقين، عندما يتسلقون الجبال، يغنون أغنية جميلة جدا، تقول: “ما يهم في فن التسلق، ليس هو عدم السقوط، إنما ألا نبقى في حالة وقوع”. إذا كنت ضعيفًا، إذا سقطت، أنظر قليلا إلى العلاء، هناك يد يسوع الممدودة تقول لك: “انهض، هلم معي”. “وإذا كنت أقع مرة أخرى؟”، ولو. “وإذا كنت أقع مرة أخرى؟” ولو. لقد سأل بطرس الربَّ إحدى المرات: “يا رب، كم من مرة؟” – “سبعين مرة سبع مرات”. إن يد يسوع ممدودة على الدوام ليرفعنا عندما نقع. هل تفهمون؟ [نعم!].
لقد سمعنا في الإنجيل بأن يسوع، وفيما هو ذاهب إلى أورشليم، نزل في بيت –بيت مريم ومرتا ولعازر- استضافه. كان مارًا، ودخل بيتهم كي يكون معهم؛ وقد استقبلته المرأتان، وتعرفان أنه قادر على التعاطف. الانشغالات الكثيرة تجعلنا مثل مرتا: نشيطين، منشغلين، نجري من هنا ومن هناك… لكننا غالبا ما نكون مثل مريم: أمام منظر جميل، أو فيديو أرسله لنا صديق في الهاتف المحمول، نتوقف للتفكير، مُصغين. إن يسوع، خلال أيام اليوم العالمي للشبيبة هذه، يريد أن يدخل بيتنا: في بيتك، في بيتي، في قلب كل منا؛ وسوف يرى يسوع انشغالاتنا، وجَريِنا، كما فعل مع مرتا… وسوف ينتظر كي نصغي إليه مثل مريم: لتكن لدينا جرأة الاعتماد عليه، وسط كل الانشغالات. ولتكن أيامٌ ليسوع، نكرّسُها للإصغاء بعضُنا لبعض، ولقبوله في الذين أشاركهم البيت أو الطريق، أو المجموعة أو المدرسة.
والذي يستضيف يسوع، يتعلم كيف يحب مثل يسوع. يسألنا إذا إن كنا نريد أن نعيش الحياة بملئها. وأنا أسالكم باسمه: أتريد، أتريدون عيش الحياة بملئها؟ إبدأ منذ هذه اللحظة بترك ذاتك تتأثر! لأن السعادة تنبت وتزهر في الرحمة: هذا هو جوابه، هذه هي دعوته، وتحدّيه، ومغامرته: الرحمة. للرحمة وجه دائم الشباب؛ مثل وجه مريم من بيت عنيا، جالسة عند قدمي يسوع كالتلميذة، التي تحب أن تصغي إليه لأنها تعلم بأن هناك تجد السلام. مثل وجه مريم الناصرية، وقد انطلقت بال “نعم” في مغامرة الرحمة، والتي سوف تسميها الأجيالُ طوباوية، ونسميها نحن “أم الرحمة”. لنناشدها جميعا: مريم أم الرحمة. كلنا: مريم أم الرحمة.
لنسأل الرب إذا كلنا معا –كل يردد في قلبه بصمت-: يا رب أطلِقنا في مغامرة الرحمة! أطلقنا في مغامرة بناء جسور وهدم جدران (أكانت أسوارًا أو شبكات)؛ أطلِقنا في مغامرة إعانة الفقير، الذي يشعر بأنه وحيد ومتروك، والذي لا يجد بعد معنًا لحياته. أطلقنا كي نرافق الذين لا يعرفونك ونقول لهم بهدوء وبكل احترام اسمك، ودوافع إيماننا. ادفعنا مثل مريم من بيت عنيا، للإصغاء إلى الذين لا نفهمهم، والذين يأتون من ثقافات أخرى، وشعوب أُخَرْ، وأيضًا الذين نخافهم لأننا نعتقد بأنهم قادرون على إلحاق الأذى بنا. اجعلنا نوجّه نظرنا، مثل مريم الناصرية مع أليصابات، أن نوجه نظرنا نحو شيوخنا، نحو أجدادنا، كي نتعلم من حكمتهم. أسألكم: هل تتحدثون مع أجدادكم؟ [نعم!] هكذا، هكذا! ابحثوا عن أجدادكم، لديهم حكمة الحياة، وسوف يقولون لكم أشياء تحرك قلوبكم.
ها نحن يا رب! أرسِلنا للمشاركة بمحبتك الرحيمة. نريد أن نستضيفك في هذا اليوم العالمي للشباب، ونريد أن نؤكد بأننا نحيا الحياة بملئها عندما نعيشها انطلاقا من الرحمة، وبأن هذا هو النصيب الأفضل، النصيب الأطيب، النصيب الذي لن يُنزَعَ منا أبدًا.
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2016