Caravaggio - Vocation of Saint Matthew

WIKIMEDIA COMMONS

كيف أميّز دعوتي؟

ما هي دعوتي؟ كيف أكتشفها وأميزها؟ أسئلة يطرحها الكثير من الشباب المؤمن بشأن خيارات تصوغ المستقبل وتحول الحاضر. هل من أجوبة على هذه الأسئلة؟ هل يمكننا كبشر أن نعرف إرادة الرب بشأن حياتنا؟ ننشر في ما يلي النص الكامل لسلسلة من المقالات […]

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ما هي دعوتي؟ كيف أكتشفها وأميزها؟ أسئلة يطرحها الكثير من الشباب المؤمن بشأن خيارات تصوغ المستقبل وتحول الحاضر. هل من أجوبة على هذه الأسئلة؟ هل يمكننا كبشر أن نعرف إرادة الرب بشأن حياتنا؟
ننشر في ما يلي النص الكامل لسلسلة من المقالات دارت حول موضوع الدعوة في محاولة للإجابة على الأسئلة أعلاه ارتكازًا على تعاليم كبار الروحيين. مكنون أقسام المقالة هي ترجمة بتصرف للمفصل الأول من كتاب للمؤلف بعنوان Alla presenza di Dio. per una spiritualità incarnata صدر بالإيطالية في عام 2015.
*
مقدمة: بين الحلم والواقع
يروى أنه كان هناك رجل اسمه علي البغدادي وكان يعيش في حالة فاقة وعوز شديد. بعد أن رفع ذلك الرجل صلوات حارة إلى الله لكي يعتقه من الذل، حلم بأن هناك كنز كبير مخبأ في موضع محدد في مصر. انطلق علي فورًا في رحلة طويلة وخطيرة ليصل إلى ذلك الموضع. ولما وصل، صادف حافلة من الحراس التي ظنت أنه لص فأبرحته ضربًا. وإذا ذكر أن الحقيقة هي دواء، قرر علي أن يعترف بمقاصده التي حملته إلى مصر. صدّق الحراس قصته إلا أن واحدًا منهم قال له هازئًا: “أنت لست لصًا، أنت مجرد أحمق لأنك اجتزت كل هذه المسافة لأجل حلم! أنا أيضًا، وأكثر من مرة، حلمت بأن هناك كنز كبير في موضع في بغداد، إلا أني لست غبيًا لأقوم برحلة عويصة لأجل حلم!”. ذلك الموضع لم يكن إلا بيت علي، الذي عاد مسرعًا إلى داره ووجد الكنز الذي أنهى فقره[1].
القصة التي يسردها جلال الدين الرومي تضعنا أمام حقيقة كبرى: غالبًا المسيرة التي تقودنا إلى حقيقة ذواتنا تمر من خلال خروج، من خلال رحلة مكلفة تحملنا إلى وعي أكبر لهويتنا. وبدل أن تكون مجرد تشتت باطل، هذه الرحلة هي جزء لا يتجزأ من المسيرة عينها. هناك كنوز لا يجدها الإنسان إلا بالتخلي، إلا بالمسير وقصة باولو كوهيلو، الكيميائي، المستوحاة من قصة الرومي هي خير دليل على ذلك.
تقدم لنا هذه القصة وسائل للتمييز بين نوعين من الأشخاص يبدوان للوهلة الأولى هكذا: النوع الأول هو نوع الموهومين (علي) والنوع الثاني نوع الواقعيين (الحارس). إلا أن ما تؤول إليه القصة يبين لنا أن وقائع الأمور تختلف كليًا عما يتبدى لنا في الوهلة الأولى. فالواقعي الحق هو الشخص الذي يؤمن بحلم ويقوم بكل جهده لتحقيقه. أما من يظن أنه واقعي من حيث المبدأ، يتلكأ عن تحقيق ما لا يراه وبالتالي يبقى سجين أوهام وواقع منقوص وغير مكتمل.
يقدم لنا يورغن مولتمان نظرة نفسية وروحية عميقة حول طبيعة موقف الواقعية المظهرية التي لا ترجو شيئًا من الوجود. يبين اللاهوتي الألماني أن موقف اليأس هذا هو بالواقع دينامية نفسية للدفاع عن الذات. «يبغي اليأس أن يحمي النفس من خيبات الأمل. “من يرجو كثيرًا يضحي مجنونًا”. لذا يسعى المرء للبقاء على أرض الواقع و “أن يفكر بوضوح ولا يرجو من بعد” (ألبير كامو)» [2].
ما يجعل الأمر أكثر خطورة هو أن اليأس لا يظهر دومًا كدراما تولد الضجيج. بل هو يتخفى أحيانًا وراء وجه حكيم ومتبحر ظاهريًا ولسان حاله المستسلم يقول: “هذه هي الحياة” (C’est la vie). يبين مولتمان أنه لكي يعيش الإنسان اليأس، لا يجب بالضرورة أن يلبس وجهًا يائسًا، بل قد يأخذ اليأس طابع «نقص المعنى، غروب الآفاق، غياب المستقبل وانعدام الأهداف»، لا بل قد يرتدي وجه الاستسلام المتبسم، وجه أولئك «الأشخاص الذين استهلكوا كل امكانياتهم ولم يعد لديهم أي شيء يمنحهم دواعٍ للرجاء»[3].
أن يكون الإنسان واقعيًا، لا يعني أن يكون خائب الآمال، فالواقعي هو من يعرف ويدرك أنه طالما نحن أحياء، نحن بحاجة لأن نجاهد لكي نعيش حقًا؛ أن الفشل حقيقي وأكيد فقط عندما نستسلم للفشل، وأننا نُهزم بالكامل عندم نستسلم للهزيمة.
يقول الفيلسوف الإغريقي هيرقلطس: “من لا يرجُ ما لا يُرجى لن يصل إليه”. تتمتع هذه الكلمات بقوة لا تنضب وبرهانها هو أولئك الأشخاص الذين لم يستسلموا في أوقات كان كل شيء يدعو إلى الاستسلام، ولهذا حققوا أمورًا هامة في حياتهم. لذا، فالشخص الذي يرجو ليس شخصًا واهمًا، هو ليس “كانديد” فولتير الذي يأمل بسذاجة بأن “كل الأمور ستسير على ما يرام”. الواقعي الحقيقي هو شخص يرى الإمكانيات الكامنة والتي لم تتحقق بعد ويعمل على تحقيقها. هناك فرق كبير بين الآمال الواهمة والرجاء الوطيد. من يرجو ويجهد في تحقيق الرجاء هو الواقعي الحق. ما يراه ليس سرابًا، بل هو الواقع الذي لم يتحقق بعد، لأنه ينتظر عبقرية رجل الرجاء.
عندما نفتح الكتاب المقدس على الفصل الثاني عشر من سفر التكوين، نلتقي برجل رجاء قَبِل دعوة الله واحتضن حلم الله. نجدنا أمام رجل رجا “ضد كل رجاء”، وبرجائه هذا كان وسيلة بركة لذاته وللكثيرين. قصة إبراهيم تخبرنا عن شخص قبل دعوة الله إلى عيش حلم، تُخبرنا عن قصة صداقة ومغامرة سعادة. الكتاب المقدس لا يتحدث عن “حلم” مثل قصة الرومي، فالسجل اللغوي المفضل في الكتاب المقدس هو الدعوة والعهد. سنحلل في الحلقة المقبلة بعض عناصر دعوة إبراهيم.
انطلق نحو ذاتك!
الإنسان بجوهره كائن يبحث عن ذاته: من أنا؟ لم أعيش؟ لماذا أنا أنا ولست آخرًا؟ ما هي الغاية من وجودي؟ الشباب هو زمان الإقدام الذي نصغي فيه لهذه الأسئلة. هو الزمن الذي نقوم فيه بخيارات شجاعة في هذا الصدد. فالقلب الشاب والأصيل يذهب بصدق وعفوية نحو مناهل المعنى والأصالة. هذا الشباب يضيع أحيانًا (وربما غالبًا) بُوصلته فيصغي إلى حلول جزئية تجعله يكتفي بأشباه أجوبة على أسئلته العميقة. ويحدث أحيانًا أن من أصغى لهذه الأسئلة في صباه، يبدأ بتجاهلها وبتهمشيها مع الكبر، وهنا يضحي القلب مسنًا وعجوزًا!
ما يحدث في قصة إبراهيم هو أن إلهًا “شابًا” يوقظ هذا الشيخ المُسن ويوجه له دعوة للخروج: “انطلق” (تك 12، 1). الكلمة في العبرية “لِكْ لِكَ” لها معنى آخر هام: “انطلق نحو ذاتك”. سنتأمل بهذا المعنى الثاني، غير المشهور، لكي نعود في ما بعد للتأمل بمعنى “انطلق” التقليدي.
“لكْ لكَ”، “انطلق نحو نفسك”. إلى ذلك الرجل الذي يعيش نوعًا من لعنة شخصية، زوجية وجماعية بسبب العقر، يوجه الرب نداء الرجوع إلى الذات، الرجوع إلى حقيقته. وقد قدم التقليدان العبري والمسيحي صفحات غنية حول معنى هذا الرجوع إلى الذات في المسيرة الروحية. فأندريه شوراكي، مثلاً، وهو مفكر عبري هام من القرن الماضي، يشير إلى “انطلق إلى ذاتك” آخر موجود في سفر نشيد الأناشيد (2، 13) حيث يقول النص: “قومي يا خَليلَتي، ياجَميلَتي، وهَلمُيِّ (لكِ لك)”. يعلق شوراكي على هذا النص هكذا: “قومي: على العروسة أن تستيقظ أن تنهض، لأن الحب سلب منها النوم. يجب أن تخرج من الهمود، من الكسل. والأمر مُطلق”[4].
هذا النداء الحثيث الموجه إلى العروسة يردد صدى الدعوة الأولى الموجهة إلى إبراهيم والتي تدعو النفس الحبيبة إلى “انطلاق مُطلق، لا إلى نقطة وصول”. فالله يدعو النفس العروس “للاستيقاظ، للقيامة، لانطلاق يسمح للمحبوبة أن تجد نفسها وأن تجد مصيرها، أن تجد محياها في انعكاس وتحقيق الحب المطلق”[5].
الارتداد الأوّل. وقفة فلسفية
لماذا يجب أن نعود إلى ذواتنا؟ ولماذا يعتبر الروحيون هذا الرجوع مثل ارتداد أول إلى الذات ومثل توبة أولى؟
لأن هناك ترابط وثيق بين خبرة الذات الأصيلة وخبرة الله. فلكي أستطيع أن أقول: “يا رب، إليك أرفع نفسي” (راجع مز 25، 1)، لا بد أن يكون لي علاقة وتواصل مع نفسي هذه! فالمرء يقدم ما يملك، وإذا كنت لا أملك ولا أتمالك نفسي، فماذا أقدم للرب؟ لهذا ضبط النفس وتمالك النفس هي أجزاء من ثمر الروح بحسب القديس بولس (راجع غل 5، 22). وصلابة المسيرة الروحية ترتكز على الأصالة النابعة من عدم “نفي” النفس من الحياة الروحية. فالكثير من مسيرات الحياة الروحية تنقطع بين ليلة وضحاها، لأن الإنسان لم يعيش هذه الحياة الروحية بحضور شخصي أصيل، بكل كـ “فوشة كبد” سطحية، لم تعانق أعماق النفس ولم تُشركها في خبرة الله بشكل كامل. بكلمة، الحياة الروحية تحتاج إلى قطبين لا يمكن الفصل بينهما: الله والنفس. لا يمكننا أن نلتقي بالله على هامش ذواتنا. والارتداد الأول إلى الذات هو إذا ختم “شخصنة” الحياة الروحية.
لدينا في هذا الصدد شهادة مؤثرة في القديس أغسطينوس العظيم، الذي يدعو في إحدى خطاباته المؤمنين إلى أن يكونوا حاضرين أمام الحاضر الدائم، أمام الرب:
“أدخلوا إلى قلوبكم! أين تريدون الذهاب بعيدًا عن ذواتكم؟ إذا ذهبتم بعيدًا ضعتم. لما تختارون سبلاً قاحلة؟ عودوا من ضياعكم الذي حملكم خارج السبيل القويم؛ عودوا إلى الرب. فهو حاضر دومًا. عد أولاً إلى قلبك، أنت الذي صرت غريبًا عن نفسك بسبب هيامك على وجهك دون وِجهة: لا تعرف ذاتك وتريد البحث عن ذاك الذي خلقك؟!”[6].
ولكي لا يكون البحث عن المُطلق نوعًا من الانزواء والانطواء على خيال واهم، يجب أن يمر الإنسان في ذاته. فما هو سامٍ لا ينفي ما هو باطن، بل يطلبه ويكمله[7]. من هنا نفهم لماذا ذكر البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته “الإيمان والعقل” أن المسيرة الروحية تمر من خلال الـ ” gn­­ōthi seautón ” (اعرف نفسك). فإنجيل توما المنحول يضع على فم يسوع هذه الكلمات: “من يعرف كل شيء وكلنه لا يعرف نفسه، يجهل كل شيء” (لوغيون 66). هذا وإن معرفة الذات ليست مجرد معرفة مجردة، بل هي معرفة اعتراف بالواقع الشخصي المحدود والذي يتمتع بتوق مطلق يتجاوز المحدودية الشخصية. وهذا الاعتراف هو ضروري لعيش الحياة الروحية لا كهواية بل كعشق إلهي شغوف، أصيل وكليّ.
حتى الفلسفات العظيمة تشارك هذا المفهوم الديني الأساسي. فمن الأهمية بمكان أن نرى – بحسب ما يشرح بول ناتورب – الوجه الصوفي الذي يتخفى وراء الوجه الأسطوري في حوارات أفلاطون. على سبيل المثال، يتضمن حوار “مانون” مبدأ التذكر، الذي يدعونا عمليًا إلى أن نتذكر ذواتنا، أي أن نعرفها بشكل متعمق[8]. فالمعرفة تنشأ من خلال الرجوع إلى الذات.
وينطبق الأمر نفسه على فلسفة أفلوطين، حيث نرى أن طريق التذكر ليست رجوعًا إلى ماضٍ خيالي وخرافي، بل هي رجوع إلى الذات. ففي الاتجاه عينه، يقول الفيلسوف الفرنسي جان لوي كريتيان شارحًا أفلوطين: “طريق التذكر هو طريق نحو الذات، نحو ما هو كامن فينا وما يبقى منا دومًا، دون تبدل، دون تحول، والذي ننساه دون أن نخسره لهذا. نحن بصدد رجوع إلى الأصل، إلى الأصل الذي لم نتركه في الأصل”[9].
هذه الوقفة الفلسفية، لا تفصلنا عن موضوعنا، بل تضعنا أمام حقيقة يعالجها كل إنسان، وليس فقط الإنسان المتدين. ولربما كان من المفيد أن نلخص الفكرة باقتضاب وبساطة: لكي نفهم حاضرنا، يجب أن نزور ماضينا، أن نجعله خاصتنا من جديد. فأنا الحاضر هو ابن أنا الماضي. نسيان الهوية الشخصية هو نوع من الجحود وكل مسيرة روحية يجب أن تبدأ بـ “إعادة اكتشاف الذات التي تقوم بالمسيرة. فلا بد لكل بحث صادق أن يبدأ بإيجاد الذات”[10].
بين التراب والروح
ولكن ماذا يكتشف الإنسان عندما يعرف ذاته؟ ماذا وراء هذا الـ “اعرف نفسك”؟
بالنسبة للفلاسفة الأقدمين، كان تحريض “اعرف نفسك” يعني النظر في محدودية الوجود البشري وهشاشته[11]. وهناك حكمة لا شك فيها في هذا الأمر. فمن يتعرف على حدوده يستطيع تجاوزها؛ من يعرف أنه لا يعرف، ينفتح على المعرفة. هذه هي مفارقات قوة الضعف والجهل الحكيم (docta ignorantia).
وماذا عن الكتاب المقدس؟ الكتاب المقدس أيضًا يحدثنا عن محدودية وفقر الكائن البشري. ولدينا تذكارًا ثابتًا في الليتورجية في كل اثنين (أو أربعاء) الآلام: “اذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود” (تك 3، 20). غالبًا ما يقارن الكتاب المقدس الإنسان بالعشب الضعيف: “الانسان مثل العشب ايامه. كزهر الحقل كذلك يزهر. لان ريحا تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد” (مز 103، 15 – 16). حياة العشب قصيرة وضعيفة لأنه ” بالغداة يزهر فيزول. عند المساء يجز فييبس” (مز 90، 6). ويُقارن ضعف الإنسان مرارًا بهشاشة العشب، فيهتف أشعيا مثلاً: “صوت قائل ناد. فقال: بماذا انادي؟ – كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل” (أش 40، 6؛ راجع يع 1، 10؛ 1 بط 1، 24).
كما ويُشبّه الإنسان “بحلم الصبح” القصير (مز 90، 5) وحياته مثل “ظل” و “نفخة ريح” (راجع مز 39، 6 – 7؛ يع 7 ،7). وهناك تقارب قوي في العبرية بين النفخة والباطل (هِبِل) وهو يعبّر بشكل بليغ عن فقر الحياة البشرية: ” باطل بنو ادم.كذب بنو البشر.في الموازين هم الى فوق.هم من باطل اجمعون” (مز 62، 10). هذه اللازمة تشكل أرضية تفكير سفر الجامعة حول الكائن البشري ومعنى حياته.
إلا أن فقر الكائن البشري ليس الإطار الوحيد الذي نراه في الكتاب المقدس. فغنى النظرة الكتابية بشأن الإنسان تظهر بسعتها في قصتي الخلق في الفصلين الأول والثاني من سفر التكوين. فالإنسان نفسه المجبول “من تراب الأرض” (راجع تك 2، 7) هو مخلوق “على صورة الله” (راجع تك 1، 27). ويقول لنا كتاب الحكمة: “لقد خلق الله الإنسان لعدم الفساد، وجعله على صورة طبيعته” ( حك 2، 23؛ راجع سير 17، 3). ولهذا يندهش صاحب المزامير كيف أن الله، في هذا الكون الشاسع، يحمل في قلبه بشكل خاص الإنسان: “ما هو الإنسان حتى تذكره، وابن الإنسان لكي تعتني به؟”. فالإنسان أقل من إله بقليل وهو مكلل بالمجد والكرامة (راجع مز 8، 5 – 6).
مجمل القول أن الإنسان قد خلق من الله لأجل المجد، لأجل مجد لا يزول، بل لأجل مجد ملكوت الله الأبدي (راجع مز 145، 12). خلق الإنسان لكي يكون شريكًا في حياة الله نفسه، في حياة حب الثالوث الأقدس. هذه الدعوة العظيمة كانت رفيقة أناشيد المسيحيين الأولين كما يذكرنا بولس الرسول: “لقد اختارنا الله في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة” (أف 1، 4).
ما معنى كل هذا في التساؤل حول الدعوة؟ – قبل أن نختار هذه أو تلك الدعوة، يجب أن نذكر أن دعوتنا الأولى هي هذه، وأن كل خياراتنا الحياتية يجب أن تسير نحو العيش بنعمة الحب هذه.
هل الإنسان كون مُصغّر؟
بالعودة إلى موضوع الإنسان المخلوق على “صورة الله”. لقد ولدت هذه الفكرة الواردة في مطلع سفر التكوين غنى كبيرًا على مدى تاريخ الفكر المسيحي. فعلى سبيل المثال، يعلّق القديس غريغوريوس النيصصي على الآية 1، 8 من كتاب نشيد الأناشيد – “نْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي” – فيدعو الإنسان لكي يفكر بـ “كرامته الملوكية” التي تسمو على كل خليقة. فما من خليقة مرئية تستطيع أن توازي كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله.
لذا يقول أب الكنيسة الكبادوكي العظيم للنفس المؤمنة: “أنت وحدك خُلقتِ على صورة الطبيعة التي تفوق العقل، خُلقتِ صورةً للجمال الذي لا يفسد، ووسمًا للحقيقة الإلهية، وعاءً للحياة الطوباوية، صورة للنور الحق، الذي بالنظر إليه تصبحين مماثلة له، إذ أنك تقتدين بذلك الذي يشع من خلالك بواسطة الشعاع المنعكس في طهارتك”[12].
رغم أن الإنسان جزء من العالم المخلوق، إلا أنه لا يمكن حط قيمة الإنسان إلى حد أي مخلوق آخر. فهناك تسامٍ جذري في هذه الخليقة التي يجرؤ الوحي الكتابي أن يصفها بهذه الكلمات: “على صورة الله خلقه”.
يذكر هنري دو لوباك الإنسان بما قاله فيه الفلاسفة، أي أنه كون مصغّر (microcosmos)، أي موسوعة تتضمن مختلف عناصر العالم و “مختصرًا للآلة الكونية”. ويصرح بأن الإنسان، نعم، هو ذلك، ولكنه في الوقت عينه أكثر من ذلك بكثير. لا يمُكن مثلاً اختزال جوهر الإنسان بلائحة المكونات الكيميائية الكونية! الإنسان أسمى من أية خليقة. أسمى من النجوم وهو ليس خاضعًا للأبراج وللقدر.
هذا ويبين دو لوباك عظمة الإنسان مستشهدًا بنص قديم لإسحق ديلا ستيلا الذي يحث الإنسان بهذا الشكل: “ادخل إلى قلبك. ففي الخارج أنت مثل حيوان، على صورة العالم؛ لهذا يُعتبر الإنسان كونًا مصغرًا. أما في الداخل، أيها الإنسان، فأنت صورة الله، لهذا تستطيع أن تتأله”.
إننا نلمس في كل هذه الاكتشافات الكتابية واللاهوتية الدعوة إلى العظمة الكامنة في إنسانيتنا. سنتابع في الحلقة المقبلة التأمل بهذه العناصر سعيًا وراء مشروع الله بشأن الإنسان… منذ الخلق.
فلنخلق الإنسان
لم يكتف الآباء التفكير بمقولة سفر التكوين بأن الإنسان مخلوق “على صورة الله”. بل توقفوا أيضًا للتفكير بشأن “فلنخلق الإنسان”، أي على التعبير في صيغة الجمع. لقد فهم الكثيرون هذا التعبير كـ “جمع الجلالة” وكأن الله يخاطب نفسه مثل ملك غظيم بصيغة الجمع. إلا أن هذا التفسير غير مناسب لأن هذه الصيغة لم تكن اعتيادية في اللغة العبرية[13].
 
وقام آخرون بتفسيرها كبقايا وثنية من تعدد الآلهة، وآخرون أيضًا بتفسيرها كخطاب يوجهه الله إلى ملائكته. إلا أن كل هذه التفاسير بدت ضعيفة وغير لائقة بالنسبة للعديد من الدارسين[14].
هذا وقد قدم العديد من الآباء قراءات لهذه الآية نابعة من الوحي الذي نلناه بيسوع المسيح، ولذا رأوا في هذه الآية حوارًا ثالوثيًا، وهو تفسير دعّموه انطلاقًا مما يلي: أي خلق الإنسان كواقع بالجمع وليس كواقع فردي: “ذكرًا وأنثى خلقه” (الآية 27).
وقد فضّل بعض الآباء التفسير المسيحاني (الكريستولوجي)، فقالوا بأن الله خلق الإنسان بحسب صورته الكاملة، أي الكلمة-المسيح[15]. فنحن “صورة صورة الله”[16]. لقد خلق الله الأرضي (هَ أَدَم)، الإنسان الأول، على صورة الرجل-الله يسوع المسيح (راجع كول 1، 15) ومسيرة الإنسان إنما هي مسيرة لكي يضحي مماثلاً لهذه الصورة الإلهية (راجع روم 8، 29).
إلا أن إحدى التفاسير الذكية التي لا تلغي السابقة بل تكملها، هو التفسير الذي يرى في جمع “فلنخلق الإنسان” دعوة من الله إلى الإنسان لكي يكون شريكه في خلق إنسانيته[17]. فالله يطلب إلى الإنسان أن يُسهم في خلق الإنسان! الإنسان ليس مخلوقًا فحسب، بل يجب أن يُسهم في إكمال خلق ذاته ليصل إلى “مثال” الله. يجب أن يضحي شريك ومعاون الله من خلال أنسنة إنسانيته. الكائن البشري هو هبة ومَهَمَّة في آن. كخليقة خُلقَت حرة، لم يرد الله أن يُخلق الإنسان كمشروع قد تمّ، بل شاء أن يخلقه كخليقة حرة قادرة أن تختار الحب الذي خلقها. يكتب في هذا الصدد أندريه وينان:
“عندما قام الله بدوره، بقي دور يجب تتميمه. من سيقوم بذلك؟ من سيحقق غاية ذلك الذي خلقه الله على صورته؟ من سيسمح للصورة أن تضحي مماثلة، مؤنسنًا ما يجعل الإنسان شبيهًا بالحيوانات؟ أليس الإنسان عينه؟ فبقوله ’فلنخلق‘ بالجمع، الله لا يتكلم مع ذاته. بل يتوجه إلى البشر الذين يخلقهم بكلمته – وفي إطار السرد، يتوجه إلى القارئ – لكي يدعوهم لمعاونته في عمله الخالق من خلال ’خلقهم‘ حتى يصل هذا الخلق إلى ملئه”[18].
هذا مشروع حب الله المجنون. فالله يُفسح في الحب مجالاً لحرية أخرى تستطيع أن تقول له نعم وتستطيع أن تقول له لا. وبما أنها تستطيع أن تقول “لا”، يضحي لـ “نعم” هذه الخليقة قيمة ووزن.  هذه هي فسحة “الدراما الإلهية” كما يسميها فون بالتازار، مسرح الحرية التي لا تُمثل على خشبة المسرح، بل حيث تختار الخلاقة التي لن تفنى من بعد مصيرها الأبدي: الاتحاد بالله من خلال الـ “نعم” المريمي، أو الرفض من خلال الـ “لا” للحب.
من صورة الله إلى مثاله
تحدثنا عن معنى “فلنخلق الإنسان”، ولكن ما معنى التعابير التالية: “على صورتنا ومثالنا”؟ هل هما مجرد مرادفان وضعا واحدًا بجانب الآخر؟ أم أن هناك مسيرة من الواحدة إلى الأخرى بحسب ما فهم الكثير من الروحيين؟ وما هي هذه المسيرة؟
هي مسيرة نسير فيها لنضحي الله! بكلمات أكثر وضوحًا، تتألف المسيرة بأن نضحي شركاء بالطبيعة الإلهية، بحسب تعليم رسالة بطرس الأولى (1 بط 1، 4). وهنا أيضًا يقدم لنا آباء الكنيسة أفكارًا عميقة، تظهر عجبهم الكبير أمام الجِدّة المسيحية. فيكتب القديس باسيليوس: “الإنسان هو خليقة تلقت الدعوة لكي تضحي الله!”[19]. من ناحية أخرى، يعتبر القديس افرام السرياني أن الغاية من الخلق هو العرس الروحي بين الخالق والخليقة، وبلغته الشعرية يكتب في أحد الأناشيد حول عدن بأن كان في الجنة خدر سماوي[20]. ويقرأ كنّارة الروح القدس كل تاريخ الخلاص في إطار هذا الرباط الزوجي بين الخالق والخليقة الذي يعمل الله دومًا على عقده، بينما تقاوم الخليقة بسبب خطيئتها وانغلاقها، إلى أن يُتم المسيح الخطوبة مع الخليقة في الأردن والعرس على الصليب.
نرى هذه الدعوة في آيتي سفر التكوين 1، 26 – 27 من خلال كلمتين: الصورة والمثال. التعبير الأول (’سِلِم‘ بالعبرية) يعني الصورة الخارجية، بينما التعبير الثاني (دِمُت بالعبرية) هو أكثر تجريدًا ويعني “المشابهة والمطابقة[21]. الكلمة الأولى تعني هبة أن نكون بشرًا. أم التعبير الثاني فيعني مهمة الأنسنة الموكلة إلينا، مهمة تكتمل في التأليه (Theosis).
هذا ويعتبر القديس مكسيموس المعترف أن الصورة هي “خير طبيعي”، بينما يعتبر المثال “خيرًا إراديًا”[22]. ويلخص هنري دو لوباك، وهو بحاثة في مجال علم الآباء، التقليد المسيحي بهذا الشأن هكذا: “في الخليقة البشرية، الصورة هي الهبة التي نتلقاها بمجرد أننا موجودون. أما المثال الإلهي فيجب تحقيقه تحت عمل الروح القدس، باتكال تام على الجسد الفادي، من خلال الاقتداء بالمسيح، بواسطة الاتحاد بالمسيح، حيث يتم سر الوحدة مع الله. التوق الصوفي هو كامن في الطبيعة البشرية، لأن الإنسان خُلق لهذا الاتحاد”[23].
يعلمنا ترتليانس أن النفس هي مسيحية بطبعها (Anima naturaliter christiana[24]). كيف يجب أن نفهم هذا التعبير؟ بالطبع هو لا يعني أن الأشخاص، رغمًا عنهم، يجب أن نعتبرهم مسيحيين وأن نقرأ وجودهم من هذا المنطلق، بل بمعنى أن النفس البشرية مطبوعة بملامح الكلمة الإلهي. ومن خلال “الوصول إلى ملء المسيح” (أف 4، 13) يحقق الإنسان إنسانيته لأن كل من يتبع المسيح، ويعيش مقتديًا به “يضحي إنسانًا أكثر”[25]. ففي المسيح خُلقنا وتم اختيارنا بشكل مسبق لكي نكون قديسين وأنقياء في الحب (راجع أف 1، 4؛ روم 8، 29). وبما أن الله محبة، “من يقيم في المحبة، يقيم في الله ويقيم الله فيه” (1 يو 4، 16).
غاية الإنسان، إذًا، هي أن يتحد بالله، أن يعيش حياة الله وهذا الأمر يتم عندما يبدأ الإنسان بعيش الحب الحقيقي. فعندما نُحبّ، ندخل في حياة الله، ندخل في “رقصة” (perikóresis) الحياة الثالوثية المتمثلة بالحب المُعطى والحب المقبول. وعندما يعيش المرء حياة حب، يعكس على وجهه كما في مرآة مجد الله ويتحول إلى صورته من مجد إلى مجد بحسب عمل روح الرب ( 2 كور 3، 18).
لهذا وبكلام مُبسط، المسافة بين الصورة والمثال هي فسحة تحقيق حريتنا، فرصة تحرير حريتنا. من يضحي مماثلاً إلى الله يضحي مُحبًا، يضحي فرحًا، يضحي حرًا. فالحرية ليست الانفلاش، بل هي المطابقة بين إرادتنا وبين الخير الأسمى.
يقول الإنسان بين العدم والمطلق وبامكانه أن يقوم بالخيار الكبير الذي يبدل حياته. ويحدثنا الرب في سفر التثنية عن هذه الامكانية العظيمة المتاحة أمامنا: “اشهد عليكم اليوم السماء والارض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا انت ونسلك” (تث 30، 19). وابن سيراخ يكتب: “أمام البشر الحياة والموت: وكل سينال ما يختاره” (سير 15، 17).
مسيرة الحرية هي تحويل قدرة خيارنا إلى حرية. في هذه الحرية المُحرّرة تبدأ مسيرة سيادة الإنسان ومماثلته لله.
إنطلق من أرضك!
بعد الوقفة الأولى حول “الانطلاق نحو الذات” فلنعد إلى النداء الذي يوجهه الله إلى أبرام متأملين بالمعنى الشائع الأول، أي معنى الخروج والدعوة إلى الخروج والانطلاق التي يوجهها له الله. ولعل هذا المشهد الكتابي يشكل موضوعًا لائقًا لفكاهي ينطلق من عبثية النداء الذي يوجهه الله، فهل يُعقل أن نبدأ حوارًا مع شخص بأمر من هذا النوع دون أي شرح وافي؟ وغرابته: فهل يستطيع الله أن يتوجه إلى عجوز بدعوة إلى مغامرة من هذا النوع دون؟
بالطبع، يمكننا أن نفكر بأن هناك علاقة سابقة وعميقة بين الله وإبراهيم، إلا أن النص الكتاب لا يهدينا هذا الترف، بل ينطلق فورًا من النداء الجذري: “انطلق”. في هذا النداء ترك مُطلق يتردد ثلاث مرات ويسلط الضوء على ثمن هذا الانطلاق. فهو ترك يلمس “الأرض، العشيرة والبيت الأبوي، أي كل ما يلمس الإطار المعيشي الأساسي لحياة إبراهيم، وليس فقط الإطار المعيشي العائلي، بل كل ما يستطيع أن يُشكل الإطار الجماعي والاجتماعي: العشيرة، العقلية، الثقافة، إلخ”[26].
كيف يجيب أبرام على هذه الدعوة؟ هل فكّر مليًا قبل أن يقبل اقتراح الله؟ هل شعر بتردد؟ هل شعر بتذمر أو حتى بالغيظ بسبب هذه الدعوة الغريبة والمتطلبة من قبل الله؟ يحاول ماركو تيبالدي أن يتخيل ردة فعله الأولى فيكتب على لسان إبراهيم:
“هل هذه مزحة؟ إذا كانت كذلك فهي مزحة من النوع السيء. لا يجوز التلاعب بمشاعر العجائز! هل أضحي أنا بركة لقبائل الأرض؟ لست بركة ولا حتى لعائلتي، كيف لي أن أضحي بركة للآخرين؟ ومن ثمَّ، ما هو هذا الصوت الذي أسمعه؟ أنا، مثل عائلتي، لدينا آلهتنا. أليس هذا مجرد وهم وهلوسة؟ أليس هذا ثمرة الرغبة بأن يكون لدي طفل والتي تجعلني أظن أن هناك من يخاطبني؟ هذا ولم يقوم هذا الإله الجديد بالحديث إلي أنا بالتحديد؟ بكل تأكيد لست الشخص المناسب لهذه الرسالة لا أنا ولا زوجتي العجوز ساراي… فها نحن قد ثبتنا مكان إقامتنا في حاران، فلم الانطلاق من جديد، وبالأخص إلى مكان لا نعرف أين هو! فهذا أمر خطير. من يرغمني على القيام به؟”[27].
كل هذه الاعتبارات مفيدة. فمن الجيد أن نستعمل مخيلتنا لكي نتصور الأحداث الكتابية فندرك بهذا الشكل هذه الخبرة المتطلبة. القديس اغناطيوس دي لويولا ينصح باستعمال المخيلة في الصلاة وقراءة الكتاب المقدس وليس فقط إعمال الفكر. فنحن معتادون على مقاربة الكتاب المقدس بطريقة سطحية كقصة أو مجموعة قصص نعرف نهايتها مسبقًا. ومن المستحسن أن نعبر المشاعر والحالات التي يسردها الكتاب المقدس بكل حواسنا وليس فقط بفكرنا. إعمال الحواس جزء هام من خبرة التواصل مع الكتاب المقدس. يجب أن نفهم أن دعوة إبراهيم هي أمر مكلف، هي استثمار حياة بكاملها، حياة ربما بلغت بعض الاستقرار. يكفينا أن نفكر بمن يتوجب عليه أن يترك أرضه بسبب الحروب أو النكبات الطبيعية أو الاضطهاد. فقساوة الهجرة لا تميز بين عجوز وشاب ونعرف قساوتها حتى على من هم بربيع العمر، فكم بالحري على عجوز. الهجرة هي إلى حد ما تذوق مسبق للموت.
ولكن… بعد كل اعتباراتنا… ماذا يقول الكتاب المقدس عن ردة فعل إبراهيم وعن تفكيره الذاتي بهذا الشأن؟ – لا شيء، لا شيء البتة! لا بل يسود صمت يكاد يكون خانقًا. يقول لنا فقط أن أبرام انطلق. ما يدعونا الكتاب المقدس إليه هو التأمل بمعنى هذه الدعوة. لذا سنتأمل في الحلقتين المقبلتين بمعنيين متكاملين لدعوة إبراهيم: الوجود البشري كدعوة إلى الخروج والوجود البشري كدعوة إلى المستقبل.
الوجود البشري كدعوة إلى الخروج
يبدو وكأن معنيي كلمة “اخرح” (لِك لِكا) هما متناقضان: فالمعنى الأول يدعونا للدخول إلى أعماقنا، بينا الثاني يدعونا للخروج، ولخروج جذري، كما سبق ورأينا في تأملنا بدعوة إبراهيم. إلا أن التناقض ظاهري فقط. فهو يُفسح المجال للمفارقة التي تشكل القيمة الحقيقية للأمور العميقة والسامية. الدخول إلى الذات ليس دعوة للغرق في ذواتنا، في أنانا وأنانيتنا. الدخول إلى الذات هو دعوة للدخول لكي نكتشف من هو أسمى منا، دعوة لاكتشاف الله الذي يسكن وجودنا بصمت وحب. وهذا الأمر هو مسيرة ضرورية للقاء ذلك الذي يدعونا في ذواتنا أبعد من ذواتنا. نلج إلى ذاتنا لكي نكتشف الماء الحي الذي يفيض في قلبنا. وعليه، ما من تناقض، بل هناك استمرارية وتكامل في المفارقة. وقد أدرك القديس أغسطينوس معنى هذه المفارقة عندما أدرك أن الله “أعمق فينا من أعماقنا عينها” وهو في الوقت عينه، كغايتنا العليا “أسمى فينا من أسمى ما فينا”[28]!
ويشرح الفيلسوف مارتن بوبر أن “العودة إلى الذات هي في حياة الإنسان بدء المسيرة، المسيرة المتجددة دومًا. وهي مصيرية فقط إذا ما قادت إلى مسيرة: فهناك عودة عاقرة إلى الذات، لأنها تحمل فقط إلى نوع من التقوقع على الذات والانطواء على الذات”[29].
إذا كان الارتداد الأول هو اكتشاف لحياتنا الباطنية، فالارتداد الثاني هو اكتشاف أن حياتنا الباطنية تتحقق بانفتاحها على حياة تتجاوزها، وتتمثل بالعبور من ذواتنا بشكل تصاعدي نحو الله. ويتحدث القديس أغسطينوس عن هذه المسيرة في نص شهير إذ يقول: “لا تخرج إلى الخارج، بل ادخل إلى ذاتك: ففي الإنسان الباطني تقطن الحقيقة. وإذا اكتشفت أن طبيعتك متبدلة، فتجاوز نفسك. وتوجه إلى حيث ينعكس نور العقل”[30].
النص الأغسطيني يتألف من جزئين: الجزء الأول هو الولوج إلى الذات، فهم حياتنا الباطنية، لكي نعي أنها ليست الأساس، ومن هنا الجزء الثاني، الانفتاح على الكلمة، على النور الذي ينبع منه وجودنا. ومن هنا يدعون القديس أغسطينوس إلى اعتراف: “اعرف أنك لست أنت الحق، وإلا لما كنت لتبحث عن الحق!”.
من هنا، وبالعودة إلى إبراهيم، الدعوة إلى الانطلاق ليست أمرًا اعتباطيًا تتوجه إلى وجوده، بل هي دعوة لتحقيق جوهر إنسانيته الكامن فوق إنسانيته! الولوج إلى الذات ليس غاية الوجود البشري، بل الله هو غاية الإنسان، والولوج إلى الذات ما هو إلا سبيل للقيام بهذه الخبرة لأن سر الله وسر الإنسان مترابطان، “فالإنسان يصل إلى ذاته فقط في الله، وفقط من خلال الوصول إلى ذاته يصل إلى الله”[31]. فالله لا نكتشفه مثلما نكتشف قارة جديدة أو أرض جديدة، الله حاضر هنا، هو عمانوئيل (راجع أش 7، 14)، هو الله معنا وفينا، يضع خيمته في قلوبنا وفي صلب بشريتنا (راجع يو 1، 14). “الله ليس في مكان ما، بل هو الآتي، وهو حاضر كونه الآتي”[32].
يظهر الإيمان المسيحي بحسب تعبير بولس السادس كـ “خبير بالإنسانية”، فهو إيمان إنساني بالعمق، وفي الوقت عينه لا يتوقف فقط على البعد الإنساني الأرضي بحت، بل ينفتح بالضرورة على البعد الإلهي الكامن في الوجود الإنساني! فقط علمنا التاريخ الحديث – تاريخ القرن العشرين بشكل خاص – كيف أن إغلاق البشرية في أطر البشرية وحسب يجعل من الإنسان عدو إنسانيته. فحدّ الإنسان في أطر بشريته وحدها هو “خطيئة” ضد الإنسان، لأن الإنسان خُلق لعظمة تسمو بشريته عينها! بهذا المعنى يقول هنري دو لوباك بأن “الأنسية الحصرية هي أنسية لاإنسانية”[33].
في تعليقه على الفصل الثالث من سفر التكوين، يتحدث مارتن بوبر عن هذه المفارقة: “لا يمكن للإنسان أن يهرب من أمام الله، فبينما يحاول أن يتخفى عن الله، يتخفى عن ذاته”[34]. يعلمنا دو لوباك بأنه إذا لم نَتُق إلى ما هو أسمى منا، نقع في ما هو أقلّ منّا، وإذا فقط الإنسان معنى الله، فقد معنى ذاته.
الإنسان هو مثل سر القمر (mysterium lunae)، فنحن نيرون بقدر ما نُفسح للرب أن ينيرنا، وبهذا المعنى تشرح لنا القديسة كاترينا: “في طبيعتك، يا إلهي الأزلي، أفهم طبيعتي”[35]. المعرفة التي تتحدث عنا المتصوفة ليست معرفة مجردة، بل هي معرفة تبين معنى وغاية وجودنا. فسر الإنسان يبقى غامضًا إلى أن يكشف له الله جوهره ومقصده.
هذا هو الدرس الذي يقدمه لنا الفيلسوف موريس بلونديل عندما يحلل الرغبة البشرية ملاحظًا أن هناك  مسافة لا متناهية بين ما نحن عليه وبين ما نرغب به، مسافة لا يستطيع شيء أن يملأها، والله وحده هو “الضيف السري” الذي يملأ الحياة بالمعنى. هذا ويستعمل الفيلسوف كلمة ” hôte ” وهي كلمة ذات معنيين إذ تعني: ضيف وقربان.
لقاؤنا بالله لا يتم من خلال انطواء أناني على ذاتيتنا، بل في التاريخ، في التجسد، في الاعتراف بأننا لسنا غاية وجودنا. يدعونا الله، وربما أحيانًا بشكل عنيف، لأنه يتهم بنا، لأنه يريد نمونا، يريد أن نحقق وجودنا. وهنا، بالعودة إلى قصة إبراهيم، يشرح لنا أندريه وينان بأن البطريرك، إذ يترك أرض عشريته، يترك “منطقًا بابيلونيًا” لكي ينفتح على الله ولا يخضع لمنطق بابل المتمثل بتحقيق الإنسان لذاته بمعزل عن الله[36].
يجيب إبراهيم على دعوة الله محققًا بالواقع ما هو كامن في عمق أعماقه: أن يكون أكبر من ذاته، وأن يحقق ذاته في العلاقة المطلقة مع المُطلق. ولذا، فدعوة الله إلى الخروج ليست تلاعبًا إلهيًا بخليقة، بل هو فعل حب. فالدعوة المطلقة إلى الخروج هي بدء تحقيق جوهر الكيان.
لعل كلمات الشاعرة أميلي ديكنسون تعبّر بشكل رائع عن معنى الدعوة، التي هي في العمق دعوة لكي نكون “شركاء في الطبيعة الإلهية” (1 بط 1، 4):
“لا نعرف قامتنا الحقة
إلا عندما نتلقى الدعوة للنهوض
وإذا بقينا أمناء لمهمتنا
تصل قامتنا إلى السماوات.
فالبطولة التي نحاول تمثيلها
ستكون خبرة يومية
لو لم ننحنِ
من خوف ألا نكون ملوكًا[37].
دعوتنا هي دعوة إلى العظمة، عظمة تنبع من عظمة الله، لا من المجد البشري الباطل. أليس هذا ما يقوله لنا الرب في سفر هوشع: “إنَّ شَعْبي تَشَبَّثَ بِالِآرْتدادِ عنِّي. دَعَوه إِلى العَلاءِ وما مِن أحَدٍ يَنهَض” (هو 11، 7).
الوجود البشري كدعوة إلى المستقبل
دعوة إبراهيم إلى الانطلاق تأخذ بعدًا شاقًا عندما نرى ما يلي الدعوة. فالرب يدعو إلى إبراهيم إلى انطلاق نحو أرض هو سيبينها له: “انطلق نحو الأرض التي سأريك”. جان لويس سكا يعلق على هذه الآية فيقول: “إن أب إسرائيل لا يبادل أرضه بأرض أخرى، بل يبادل أرضه بوعد”[38]. وفي هذا الوضع أيضًا يبدو أسلوب الرب مزعجًا، متطلبًا. وهنا أيضًا يجب أن ندرك أن في تصرف الرب فسحة خلاصية، ضرورية وفيها فائدة الإنسان. فماذا يرنو الرب من طلبه هذا؟
الإنسان كائن يحتاج إلى المستقبل، فالمستقبل هو زمن البشرية، هو الوجهة لفهم واقعنا وحاضرنا. فأكثر من سعادة آنية، ولكي يتذوق السعادة الآنية، يحتاج الإنسان لسعادة يكون لها غد، يكون لها مستقبل، ويكون اللامتناهي غدها.
قلة من الأشخاص يستطيعون أن يعيشوا وقائع الحياة اليومية إذا عرفوا أن يوم موتهم قريب. ولهي نعمة أن نعرف متى سنموت! يكفي أن نفكر بالأشخاص الذين يُشخص لهم الأطباء مرضًا خطيرًا، كيف تتبدل حياتهم ويفقدون الرغبة بعيش الأمور التي كانوا يحبونها. هناك نوع من أفق مطلق ولامتناهي وهو يشكل بالنسبة لنا فسحة الأمل والعيش. بحق يقول عالم النفس فيكتور فرانكل بأننا كبشر نعيش “في وجهة المستقبل؛ ونوعًا ما في إطار الأبدية”[39]. فالحب، الصداقة والسعادة التي تعرف بالتأكيد أن لا غد لها تضحي صعبة العيش حتى اليوم. المستقبل هو صفة من صفات الله – كما يمكننا أن نستنتج من فكر إرنست بلوك – وهو بالتالي صفة من صفات الإنسان المخلوق على صورة الله. والأمر كذلك حتى ولو لم نكن واعين له.
المستقبل ليس مجرد بُعد من أبعاد الزمان، هو بعد من أبعاد وجودنا كبشر، وهو تحدٍ يجب على الإنسان أن يعيشه. هذا التحدي، في إطار دعوتنا هو تحدٍ جذري، تحدٍ للمضي قدمًا، للانفتاح على المستقبل، للانفتاح على الثقة بالله. وقد صدق اللاهوتي الألماني يورغن فربيك عندما وصف الإيمان البيبلي بأنه: “التسليم لمستقبل الله؛ فالإيمان يتحقق عندما أكتشف أنه يريد أن يقودني نحو مستقبلي”[40].
التشتت عن الحاضر
حاضر الإنسان يُصرف في زمن المستقبل، إلا أن المستقبل لا يبدأ غدًا، بل اليوم! ولكي لا نسيء فهم طبيعة توجه الإنسان إلى المستقبل، يجب أن ندرك أن وجهة المستقبل لا يجب أن تشتتنا عن حاضرنا، لا يجب أن تكون مهربًا أو مدعاة قلق. فهذه مفارقة الوجود: نعيش بشكل مناسب توجهنا نحو المستقبل عندما نعرف أن نعيش الحاضر. إذا كان المستقبل البُعد الذي يجعل الحاضر ممكنًا، فعيش الحاضر هو الوسيلة الوحيدة للغوص بشكل مناسب في المستقبل.
هذا وإن إحدى أمراض عصرنا هو عدم عيش الحاضر، بل العيش في أزمنة أخرى. وقد كتب بليز باسكال سطورًا مؤثرة في هذا الصدد:
“لا نلتزم قط بالحاضر: نستبق دومًا المستقبل، كما وكأنه يتأخر في الوصول، كما وكأننا نريد أن نسرع وصولَه؛ نذكر الماضي لكي نتمسك به وكأنه سريع المرور وسريع التبخّر: نحن من الغباوة بمقام إذ نسافر في أزمنة ليست لنا متناسين الزمن الوحيد الذي هو خاصتنا. ونحن فارغين لدرجة أننا نفكر بأزمنة هي لا شيء ونتناسى الزمن الوحيد الموجود حقًا… لا نفكر أبدًا بالحاضر، وإذا فعلنا ذلك، فإنما نفعله لكي نحصل على نور نستعمله في المستقبل. الحاضر ليس أبدًا هدفنا، بل المستقبل. ولذا لا نعيش أبدًا، بل نأمل أن نعيش، وبما أننا نستعد دومًا لنكون سعداء، فمن الطبيعي أننا لسنا سعداء أبدًا”[41].
يقدم لنا الإيمان المسيحي درس حكمة في مجال عيش الحاضر. ولعل أشهر تعليم في هذا الشأن يأتي من كلمات يسوع: “لا تهتموا للغد، فالغد يهتم لأمره. يكفي كل يوم شره” (مت 6، 34). ويعلّم آباء الصحراء حكمة الحاضر – التي سبق وعلمها سفر ابن سيراخ (7، 36) بالدعوة إلى عيش كل يوم وكأنه اليوم الأخير: “إذا ما استيقظت في الصبح، قل لنفسك: ’لن أصل إلى الغروب‘، وإذا ما اضجعت فردد لنفسك: ’لن أرى شروق الشمس‘”.
ما معنى هذه المقاربة التي تبدو غريبة جدًا بالنسبة لنا، نحن أبناء عصر غيّب كليًا فكرة الموت؟ – موقف آباء الصحراء ليس موقفًا مريضًا يترقب الموت في كل لحظة، بل هي إعداد واستعداد ثابت لعيش نعمة الزمن الحاضر. فوهمنا الأكبر هو أن لدينا دومًا متسع من الوقت. هذا غير صحيح. الحياة قصيرة ولو مهما طالت، لأنها ليست أبدية. ولكمّ من المسنين الذين ينظرون بندم قارص إلى حياتهم مفكرين بكمّ من الأشياء التي أرادوا عيشها ولكنهم أرجأوها لزمن لاحق، لغدٍ لم يأت أبدًا. وعليه فـ “تذكار الموت” (memento mori) هو بالحقيقة “تذكار العيش” (memento vivere). هو تذكار لكي لا نرجئ للغد الخير الذي يجب أن نفعله اليوم. هو تحريض يقول لي: عش حياتك لا الغد بل اليوم، وبالتحديد الآن!
ما معنى أن نعيش الحاضر؟
نظن أن عيش الحاضر هو أمر بديهي، سهل، طبيعي ينساب بشكل تلقائي، ولكن الواقع مغاير لهذه الفكرة. عيش الحاضر يعني أن  نجتهد لنعانق كياننا وحياتنا. كم من المرات نغلق بابًا، ثم نعود أدراجنا لنتأكد أننا أغلقناه؟ أو نطفئ الشعلة تحت طبخة، ونرجع بعد أقل من دقيقة لنتأكد إذا ما فعلنا ذلك؟ أو نتعرف على شخص ويقول لنا اسمه وبعد ثوانٍ لا نذكر ما سمعنا؟ هذه البوادر البسيطة والتي قد تَظهر سطحية تعبّر عن أننا مرات عدة لسنا في ما نفعله. نجتاز حياتنا مرات عدة كسواح يضيّعون الوقت في التقاط صور للحظات لم يعيشوها. يجب أن نذكر، بحسب كلمات شيزاري بافيزي، أن “العيش هو أن نباشر العيش، دومًا، في كل لحظة”[42].
خبرة الحضور في حياتنا هي بعد روحي عميق لا يرتبط فقط بالدين بشكل حصري، هو جزء من الانتباه الشخصاني الذي يجب أن يميز وجودنا الواعي. فلنذكر كلمات مؤسس “آبل”، ستيف جوبز، في خطابه أمام خريجي ستانفورد في عام 2005. كان جوبز قد خرج من أول فترة من صراعه ضد السرطان، وفي النصائح التي قدمها للتلاميذ اعترف أنه يروّض نفسه دومًا على عيش الانتباه تجاه قصر الحياة وهشاشتها كحافز للقيام بخيارات هامة: “أن أذكر أنني سأموت قريبًا لهو أثمن وسيلة لكي أقوم بخيارات كبيرة في حياتي”.
في البوذية أيضًا نجد هذا الانتباه إلى اللحظة الحاضرة. ثيك نهات هانه يتحدث عن “أعجوبة الحضور الفكري”[43]. نحن في صدد الوعي الذي يتحدث عنه اليسوعي أنطوني دي ميلّو. يخبرنا اليسوعي الهندي قصة باتت مشهورة عن والد يأتي إلى غرفة ابنه ويقرع الباب ويقول:
“يا جاك، استيقط”.
يجيبه ابنه بصوت يُظهر أنه كان ما يزال نائمًا: “لا أريد أن أستيقظ، بابا”.
يرفع الأب صوته: “قلت لك استيقظ، يجب أن تذهب إلى المدرسة”.
– لا أريد أن أذهب إلى المدرسة.
– لم لا؟
– لأسباب ثلاثة. أولاً لأن المدرسة مملة؛ ثانيًا لأن الأولاد الآخرين يستهزؤون بي؛ ثالثًا، لأني أكره المدرسة.
وعندها أجابه الوالد بصوت حازم: حسنًا، جاء دوري. سأعدد لك ثلاثة أسباب للذهاب إلى المدرسة. أولاً، لأن ذلك واجبك؛ ثانيًا لأن عمرك 45 سنة؛ ثالثًا، لأنك المدير!” [44].
عيش الحاضر هو نوع من الوحي! وحي يبيّن لنا بركة اليوم الحاضر، بركة نشعر بها بالرغم من كل الظلال. فحتى قدرة أن ندرك الشرور والمصاعب والأمور التي ليست على ما يرام هي بركة. هي خير صعب، ولكنه خير على كل حال! أن نعيش الحاضر يعني أن نتزوج وجودنا من جديدنا، هذا الوجود الذي نطلقه كل مرة نعيش على هامش ذواتنا. يجب أن نتدرب على إيقاف الزمن وعلى البقاء في الحاضر، في هذا ’الآن‘، الذي هو حاضري، والذي يشكل نقطة اللقاء بين الأبدية والزمن”[45].
بشرى الله لإبراهيم
عندما نقرأ قصة إبراهيم، نتوقف كثيرًا (وقد فعلنا ذلك في هذه السلسلة) على التضحية التي يطلبها الرب من إبراهيم، على “الترك”، ترك الأرض، ترك العائلة، إلخ. ولكن المهم في قصة إبراهيم ليس الترك، بل ما يعد به الرب، وهو أكبر بكثير وأعظم بكثير مما يتركه إبراهيم.
لهذا نود في هذا القسم من السلسلة أن نتوقف على وعد الله إبراهيم. يتحدث الله إلى إبراهيم لأنه يهمه خير إبراهيم. لا يدعوه للتخلي في سبيل التخلي، يدعوه للتخلي لكي يوسع قلبه وحياته لتقبل ما هو أكبر وأعظم. صحيح أن طلب الترك هو الذي يفتح الحوار بين إبراهيم، ولكن هذا الترك ليس دون وعود. الترك هو شرط ضروري وليس طلبًا اعتباطيًا من الله[46]. فقط إذا ترك إبراهيم أرضه، يستطيع أن يلج أرض الميعاد. وفقط إذا انفتح على خصب علاقة الثقة مع الرب يستطيع أن يختبر الخصب في حياته الزوجية. “وأنا أجعلك أمة كبيرة وأباركك وأعظم اسمك، وتكون بركة. وأبارك مباركيك، وألعن لاعنيك ويتبارك بك جميع عشائر الأرض” (تك 12، 2 – 3).
الأفعال المستعملة في هذا الوعد تبين اهتمام الرب وعنايته بإبراهيم. وماذا هناك في وعد الله لإبراهيم؟
هناك وعدان مترابطان: وعد الأرض ووعد النسل. وإنما هما بعدان مترابطان ويبينان كيف أن عناية الله ملموسة وعملية. عندما يدعو الله الإنسان، يقدم له الوسائل والسبل لتحقيق هذه الدعوة. الله يهتم بالرغبات المقدسة التي يضعها في قلوبنا. لا تنقص التناقضات والمصاعب، وسيرة إبراهيم هي لخير دليل. ولكن الله أمين. هذا ما نتعلمه من وعد إبراهيم وتحقيقه.
متى تم أول لقاء بين الله وإبراهيم؟
بالرغم من أن الكتاب المقدس لا يقدم لنا جوابًا حول عمر إبراهيم حين تعرف لأول مرة على الرب، فقد قدم التقليد أجوبة مختلفة. فهناك من يقول أن إبراهيم تعرف على الرب عندما كان عمره سنة واحدة، والبعض الآخر يقول أنه تعرف على الرب بعمر ثلاث سنوات، بينما يقول آخرون أنه تعرف على الرب بعمر 48 سنة.
ما معنى هذه السنوات؟ أليست مجرد أجوبة عشوائية لا أساس لها؟ يعالج اللاهوتي روبير مَارتِن أَشَارْ هذا السؤال، الذي قد يبدو سطحيًا ووليد الفضول، للتعمق في فهم ديناميات الدعوة. ويحلل اللاهوتي المذكور الأجوبة الثلاث التي قدمها التقليد.
فبعمر السنة الواحدة يعني أن اللقاء تم بنعمة خاصة وبدعوة خاصة من الرب. فلنذكر دعوة إرميا. يقول الرب للنبي بشأن دعوته: ” قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ. جَعَلْتُكَ نَبِيّاً لِلشُّعُوبِ” (إر 1، 5). هناك أمر مشابه في دعوة أشعيا، ونقرأ عن الدعوة من الرحم في المزمور 71، 6. هذا الوجه من الدعوة يبين لنا كيف أن الرب يحبنا ويدعونا من الرحم (راجع 1 يو 4، 19).
في قصيدة شهيرة، يتحدث الحلاج عن أولية دعوة الرب:
” لبّيكَ لبّيكَ يا سرّي و نجوائـــي        لبّيك لبّيك يا قصدي و معنائـي
أدعوك بلْ أنت تدعوني إليك فهـلْ         ناديتُ إيّاك أم ناجيتَ إيّائـــي ”
الرب هو البادئ، هو الأول، وما توقنا إليه إلا جوابًا من على توقه إلينا. كلماته ليست بعيدة عن كلمات يسوع في إنجيل يوحنا: ” اَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (6، 44).
هذا وإن اللقاء بالرب بعمر 3 سنوات يعني اللقاء بالرب في صلب العائلة وبفضل العائلة. هذا العمر يبين دور الأهل والمربين في تنشئة الأطفال والتعرف على صوت الرب في القلب. هناك أمثولة في قصة النبي صموئيل. فالفتى يسمع صوت الرب ولكنه بحاجة لمن يعلمه أن يدرك أن الرب هو الذي يخاطبه (1 صم 3).
تكتب تريز الطفل يسوع إلى رئيستها (وأختها) بولين: “غالبًا ما كنت أسمع أن بولين ستصبح راهبة بالتأكيد، فكنت أفكر، دون أن أعرف ما معنى ذلك: “أنا أيضًا سأصبح راهبة”. تلك واحدة من ذكرياتي الأولى، ومنذئذ، لم أغيّر قصدي قط!… وكنت أنتِ، يا أمي العزيزة، التي اختارها يسوع لتخطبني له؛ لم تكوني إذ ذاك بالقرب مني، غير أن ارتباطًا كان قد تكوّن بين نفسينا… لقد كنتِ مثالي الأعلى، وكنت أودّ التشبه بك، ومثلك هو الذي جذبني إلى عريس العذراى منذ الثانية مع عمري…”.
ونرى القديسة عينها تتحدث عن جاذبية قداسة أبيها فتقول: “حينما كان الواعظ يتكلم عن القديسة تريز، انعطف بابا إليّ، وقال لي همسًا: ‘اسمعي جيدًا ملكتي الصغيرة، فالكلام عن شفيعتك القديسة‘. فكنت أصغي بانتباه، ولكني كنت أنظر إلى بابا أكثر منه إلى الواعظ، إذ كان محياه الجميل يعلمني أمورًا كثيرة!… وكثيرًا ما كانت عيناه تغرورقان بالدموع، فيحاول عبثًا حبسها. وكان يبدو أنه لم يعد متعلقًا بهذه الأرض، بل كانت نفسه تحب الغوص في الحقائق الإلهية”.
ومرة أخرى كتبت عن أبيها الذي كان أمامها مثال قداسة حي، لا يحتاج إلى الكلام: “كان ينشد أنغامًا تملأ النفس بالأفكار العميقة… أو يهدهدنا برفق ويسرد مقطوعات شعرية مشبعة بالحقائق الإلهية… وبعد ذلك، كنا نصعد لتلاوة الصلاة معًا، والملكة الصغيرة وحدها بجانب ملكها” وتختم تريز بهذه الكلمات التي ليتها تكون كلمات كل طفل عن أبيه وأمه: “حسبُها أن تنظر إليه لتعرف كيف يصلي القديسون”.
مثل آخر نجده في حياة الأم تريزا. تتحدث الطوباوية في إحدى كلماتها عن أمها فتقول: “نعم، لقد كانت أمي امرأة قديسة. كانت تسعى لتربية أولادها على حب الله والقريب. كانت تقوم بكل جهد ممكن لكي تربينا متحدين بيسوع بالكلية. وكانت هي بالذات تهيئنا للمناولة الأولى. كانت أمنا تعلمنا أن نحب الله فوق كل الأشياء”.
أما لقاء الرب بعمر 48 سنة يعني لقاءً ناضجًا، لقاء ارتداد يأتي نتيجة لمسيرة شخصية. بحسب بعض معلمي التقليد اليهودي، تعرف إبراهيم على الرب من خلال تأمل النجوم وقد أدرك أنه لا يجب أن عبادة النجوم بل خالق النجوم. لقد أدرك إبراهيم الفرق بين الخليقة والخالق ورفع عينيه أعلى من النجوم إلى خالق الأكوان.
يقول القديس إيريناوس، في حديثه عن دعوة إبراهيم، أن هناك ترابط بين الحدس البديهي لوجود الله وبين النضج الإنساني الذي يتم مع الوقت. وإذ كان إبراهيم “يجول العالم باحثًا عن الله”، “تحنن الله عليه وكشف عن نفسه لذاك الذي كان يبحث عنه في الصمت”.
ملخص عن لاهوت الدعوة: مقدمة تحليلية
لقد اعتدنا كمسيحيين أن نسمع القول: “فلان عنده دعوة” و “فلان ليس لديه دعوة”. وهي إحدى العادات الراسخة التي أدت إلى أذى كبير في نسيج الوجود والوعي المسيحي العام.
المشكلة كل المشكلة تكمن في عدم الاتزان والتطرف. فبينما التمييز بين مختلف أشكال الدعوات مهم وإيجابي، اختزال الدعوات بواحدة، كما وكأن هناك دعوة واحدة وما تبقى “ليس دعوة” هو إجحاف بحق المسيحيين، وإذا ما نظرنا بالعمق إجحاف بموقف الرب الذي يبدو غير عادل، إذ يدعو البعض ويتناسى البعض الآخر (الكثيرين).
هذا التقسيم الذي لا يفي صورة الله حقها قد أدى إلى ولادة نوع من المسيحيين لا ينظرون إلى أنفسهم كعناصر فاعلة في الوجود الكنسي بل كمستهلكين وزبائن لمؤسسة مبنية على المدعوين. تبدو الكنيسة بالنسبة للبعض وكأنها آلة توزع الأسرار كماكينة أوتوماتيكية نلجأ إليها، نضع المقابل وننال مبتغانا من سر المعمودية حتى سر مسحة المرضى.
التمييز بين الدعوات لا يجب أن يخلق مسيحيين من الفئة “أ” ومسيحيين من الفئة “ب”. الاختلاف لا يجب أن يُنتج خلافًا وتناقضًا، بل يجب أن يكون فرصة مؤاتية لتأسيس انساجم أوركستري بين مختلف الدعوات في الجسد الكنسي. النقص في هذا الوعي ولد خمولاً لدى الكثير من الكاثوليكيين، فبينما يتربى أتباع شهود يهوه، أو المورمون، أو البنتكوستاليون على وعي راسخ بأنهم مسؤولون شخصيًا عن إيمانهم (والأمر ينطبق أيضًا على أديان أخرى، مثل الإسلام)، يتلكأ الكاثوليكي العادي ويستتر وراء أبطال الصفوف الأمامية، الإكليروس والمكرسين، فيعيش عادة جهلا مدقعًا لإيمانه يرافقه خمول في الشهادة له.
لهذا من الأهمية بمكان أن نقوم بإعادة نظر جوهرية لمفهوم الدعوة المسيحية (ولعل الكثيرين ممن قرأوا لأول مرة مقالات هذه السلسلة ظنوا أنها موجهة فقط إلى المكرسين وإلى من يريد أن يعرف إذا كان لديه دعوة كهنوتية أو رهبانية!). يجب أن ندرك دون تردد أن نظرة التفريق السلبية بين الدعوات هي مناهضة للإنجيل وهي ضارة للعيش الكنسي.
ملخص عن لاهوت الدعوة: نظرة كتابية
ولكن ما هو لاهوت الدعوة الكتابي؟ سنحاول الإجابة باقتضاب على هذا السؤال.
كل إنسان يتلقى دعوة أساسية من الله، هي الدعوة إلى الوجود، الوجود البنوي. كل إنسان خلق لكي يكون شريكًا في الحياة الإلهية. هذه الدعوة الأولى إلى الوجود تترافق مع دعوة جذرية مترابطة، هي الدعوة إلى الخلاص الذي ليس إلا الاتحاد بالله، هو الذي يريد “أن يخلص كل البشر وأن يصلوا إلى ملء معرفة الحقيقة” (راجع 1 تيم 2، 4).
هذا وإن معرفة حقيقة الخلاص ليست مجرد معرفة نظرية مبهمة، بل هي “معرفة” بالمعنى العميق والكتاب للكلمة ومن يعرف ولو قليل من اللاهوت الكتابي، يدرك أن هذه المعرفة تقارب الاتحاد الجسدي الحميم. الحياة الأبدية هي حياة اتحاد بالآب والابن في الروح القدس: “هذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك، ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح” (يو 17، 3).
وعليه فالخلق عينه هو دعوة إلى الاتحاد بالله ورمزية السفر الأول من كتاب التكوين لا تغفل إيضاح هذا الأمر، فالإنسان مخلوق على صورة الله لكي يصل إلى مثاله. ملء مثال الله هو يسوع المسيح، وعليه فدعوة الإنسان، كل إنسان، هي الاقتداء بالمسيح والاتحاد به.
أن نكون للمسيح هو ملء دعوتنا وتحقيقها. لقد خُلقنا في المسيح الكلمة (راجع يو 1، 3؛ 1 كور 8، 6) ولأجله (راجع كول 1، 15 – 20؛ أف 1، 3 – 14). المسيح هو بدء رأس الخليقة وغايتها. يتوجه بولس الرسول بالسلام إلى أهل روما فيعرف عن نفسه كـ “رسول بحسب الدعوة” (روم 1، 1)، ويدعو الرومانيين “مدعوين في المسيح يسوع” (الآية 6)، وبهذا الشكل يعبّر عن رباط جوهري بين أن نكون محبوبين من الله وأن نكون مدعويين إلى القداسة (راجع الآية 7).
الدعوة الأساسية، التي هي أساس ومعنى وغاية كل الدعوات التاريخية هي الدعوة المسيحانية، الشركة مع الله في المسيح (راجع 1 كور 1، 9؛ 2 تس 2، 13 – 14؛ 1 بط 5، 10). هذه الدعوة تبيّن عن حب الله الكبير لنا (يو 3، 16). الله يدعونا لأنه يحبنا: “انظروا ما أعظم المحبة التي سبغها الأب علينا إذ دعانا أن نكون أبناء الله ونحن كذلك فعلاً” (1 يو 3، 1).
دعوة المسيح لا ترتكز على أفضال واستحقاقات بشرية (راجع روم 5، 8)، بل على مجانية نعمة الله في المسيح (راجع روم 9، 11؛ 2 تيم 1، 9). هذا الأمر لا ينفي أن هناك تعاون بشري مع “أفعال النعمة”، وذلك من خلال روح المسيح وبتجاوب مع موهبة النعمة الإلهية.
يذكرنا الكتاب بأن دعوة الله هي للقداسة (1 تسا 4، 7) وللبركة (1 بط 3، 9) وهي لا تتألف من طهارة شرعية، بل بموهبة التحول تدريجيًا لكي نشبه أكثر فأكثر يسوع المسيح، وذلك من خلال التجدد على صورته (راجع روم 8، 29) ومن خلال “لبس الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله بالبر والقداسة” (أف 4، 23).
دعوتنا هي أن نكون بسلام (1 كور 7، 15) وبشركة مع المسيح، كجسد واحد، فيه (راجع كول 3، 15): “جسد واحد وروح واحد، كما أن واحد هو الرجاء الذي دعيتم إليه، رجاء دعوتكم” (أف 4، 4).
دعوتنا الأساسية إذا هي بكلمة المسيح بالذات، ففيه اختارنا الآب “قبل إنشاء العالم لنكون في نظره قديسين بلا عيب في المحبة وقدر لنا منذ القدم أن يتبنانا بيسوع المسيح على ما ارتضته مشيئته للتسبيح بمجد نعمته التي أنعم بها علينا في الحبيب” (أف 1، 4 – 6).
 
الدعوة تنبع من الحب
مقدمة لا بد منها: بعد أن نظرنا في لاهوت الدعوة الكتابي، لا يمكننا أن نقول أن هناك مخلوق بلا دعوة. ومن المستحسن أن نعمل قليلًا في المجال اللاهوتي والرعوي لتنقيح الكلمات التي نستعملها في الحديث عن الدعوة، رغم أن التعابير المستعملة حاليًا هي مترسخة في كلامنا وتفكيرنا. يميّز اللاهوتيون في اللغات الغربية، في الإيطالية مثلاً، بين “الدعوة” (vocazione) وبين “الحالة الحياتية” (stato di vita). بالطبع الترجمة الحرفية العربية لا تفي بالغرض، ولكن من المفيد أن نتوصل في لاهوت الدعوات باللغة العربية إلى تعبير يميّز بين الدعوة العامة للقداسة وخيارات الحياة التي قد تتبدل أحيانًا، وليس دائمًا بسبب نقص بشري، بل بسبب إلهام إلهي (فلنفكر بتطور “الحالة الحياتية” في حياة الأم تريزا أو في حياة القديس أنطونيوس البادواني).
فلنعد الآن إلى موضوعنا: إلى جانب التشويش الذي ينبع من الكلمات، هناك تشويش أخطر ينبع من اقتدائنا بخطأ التلاميذ. فمثل تلاميذ يسوع نتساءل اليوم أيضًا: “من هو الأكبر؟” (مت 18، 1؛ راجع مت 20، 25 – 28). يجب على هذا النقاش حول أية “دعوة” (بمعنى “حالة حياة”) هي أهم من الأخرى أن يجعلنا نخجل ونصمت مثل التلاميذ لدى سؤال يسوع عما كانوا يتحدثون عنه في الطريق. فمُطلق وكامل الإنجيل يتوجه إلى الجميع بلا استثناء، حتى ولو بأشكال مختلفة: “كونوا كاملين\رحماء كما أن أباكم السماوي كامل\رحوم” (مت 5، 48؛ لو 6، 36). هذا الكمال في المحبة هو دعوة الجميع. بالشكل عينه “الدرب الأمثل”، درب المحبة والفضائل الإلهية، هو دعوة للجميع (راجع 1 كور 12، 31). أكبر تلاميذ يسوع يقتدي بالرب وينحني على أقدام الآخرين ليغسلها (راجع يو 13). أكبر الجميع هو خادم الجميع.
دعوتنا هي أن نكون قديسين وأنقياء بالمحبة وكل الدعوات الأخرى تنبع من هذه الدعوة الأساسية والنهائية. وحده الحب الذي هو جوهر القداسة يعطي معنى وقيمة لـ “حالات الحياة”. فما من مكان أو لون ثوب أو موهبة على الورق تستطيع أن تحل مكان الدعوة الأولى والأخيرة، التي هي دعوة أن نكون في المحبة. فكل “حالة حياة” يجب أن تكون ترجمة وتطبيقًا لما يسميه برنارد لونرغان “الحالية الدينامية للكيان-في-الحب”[47].
من هذا المنطلق “حالة الحياة” هي أكثر من خيار، هي جواب حب. وما من معيار خارجي، “موضوعي” يقول لي أن هذه الحالة أكمل وأمثل من تلك. المعيار هو شخصاني، هو العلاقة الحميمة التي تربطني بالرب. في العلاقة الشخصانية، الحب والحوار يشكلان إطار التمييز والتقييم.
يكتب اللاهوتي الأرثوذكسي بافل أفدوكيموف صفحات نيرة بهذا الشأن ويبين كيف أن “المُطلق الإنجيلي” هو موجه للجميع. ويقول: “لهُو باطل أن نقيم تمييزًا مجردًا لأنه غير شخصاني” ويصرح بأن المعيار الحق هو “عمق وكثافة حب الله” في حالة الحياة التي يختارها الإنسان[48].
ويحذر اللاهوتي بأنه لا يجدر بنا أن نحقّر حالة حياة لنرفع أخرى أو أن نرفع واحدة على حساب الأخرى، بل يجب أن نقتدي بآباء الكنيسة الذين كانوا يرون أهمية حالة حياة معينة انطلاقًا من التجرد عن الحالات الأخرى النبيلة الذي يطلبه اختيارها.
بالمعنى عينه يقول فون بالتازار أن رسالة الإنسان ودعوته “ليست واقعًا عامًا ومبهمًا كرداء جاهز، بل هي محاكة باسمه وتنطبق عليه مثل هدية شخصية. وبفضلها يضحي الإنسان شخصًا بالمعنى الكامل”[49]. الدعوة الأساسية هي الحبة، وعليه فمن لا يُحب هو – بحسب بالتازار – خارج بالكلية عن دعوته، لدرجة أنه ولو بدا حيًا بالجسد، بالواقع هو ميت، لأن ’من لا يحب، يبقى في الموت‘ (1 يو 3، 14)” [50].
ولكن كيف أميّز “دعوتي”، أي “حالة الحياة” التي أنا مدعو لأحقق فيها حبي وعلاقتي بالرب؟
تمييز إرادة الله في حياتي
يعلمنا أندريه لوف، وهو راهب روحاني شهير من القسم الثاني من القرن الماضي، بأن إرادة الله بشأن الإنسان تنبع من حبه له. “رغبة” (thélema) الله بشأن الإنسان تنبع من إرادته المُحِبَّة التي يريد من خلالها خير الإنسان، ويريد أن يوصله إلى ملء حياته بشكل فريد لا يتكرر. هذه الفرادة تنبع من فرادة حب الله لكل إنسان. وعليه فليست المسألة مسألة إرادة الله بشأن الإنسان، بل إرادة الله لأجل الإنسان. والفرق كبير: فالله ليس بحاجة لأي شيء مني، أنا بحاجة إليه واختياره لي هو نعمة لي، لا خدمة له.
وقد أدركت القديسة تريزا الطفل يسوع تطابق إرادة الله وكمال حياتنا البشرية حين كتبت: “أريد أن أحقق بالكامل إرادتك وأن أصل إلى ملء القداسة الذي أعددته أنت لي في ملكوتك؛ بكلمة أريد أن أضحي قديسة”[51]. يعلّق فون بالتازار على هذا النص فيقول: “إن ملء ’الإرادة الإلهية‘ ليس تطبيق هذا المبدأ العام أو ذلك، وليس تحقيق مشروع فردي – مثل طفل ينسخ رسمة معروضة أمامه – بل هو التحقيق الحر لمشروع حب ابتكره الله، آخذًا بعين الاعتبار الحرية، لا بل يعطيها: فما من أحد يضحي ذاته بقدر القديس الذي يطيع مشروع الله ويطابق كل كيانه، جسدًا، نفسًا وروحًا لمشروع الله”[52].
إذا كان الأمر كذلك، يبدو منطقيًا التساؤل: أين المشكلة وأين الصعوبة؟ فإذا كانت إرادة الله تطابق رغباتنا العميقة، يجب أن يكون الأمر سهلا… المشكلة الأساسية هي أن هناك غموض في كياننا بسبب انغلاقنا وقلة ثقتنا وهذه العناصر تعرقل مسيرة إيماننا. بسبب الشكوك التي تراودنا والتي يزرعها الشرير في أذهاننا، نجد صعوبة في التعرف على إرادة الله وفي الاعتراف بطيبتها وصلاحها في حياتنا. وهنا بالتحديد تمكن الصعوبة الأساسية في مسيرة التمييز الروحي. فالمسألة ليست متعلقة فقط في معرفة إرادة الله، بل أيضًا في أن نعترف بكل قناعتنا بأن هذه الإرادة هي خيرنا الأسمى، حتى عندما لا نراه ولا ندركه. القديسون هم أولئك الأشخاص الذين يقتربون من هذا الاعتراف ويوقنون بالعمق بأن الله يريد خيرهم الأسمى وبأن خيرهم الأسمى هو إرادة الله.
مسيرة التمييز الروحي تمر من خلال الصراع والاتزان الروحي اللذين يزيلان الأقنعة عن أوثاننا ويكشفان الستار عن رغباتنا الاصطناعية التي ليست وليدة قلوبنا بل وليدة تأثيرات خارجية. عمل التطهير هذا يحملنا إلى اكتشاف الرغبة الإلهية الكامنة في إنسانيتنا. واكتشاف هذه الرغبة الإلهية تطابق اكتشاف إرادة الله بشأننا، لأنهما الأمر عينه. ويعلمنا آباء الصحراء أن إحدى السبل لتحرير رغبتنا الحقة هو التخلي عن الإرادة الذاتية الأنانية[53].
مسيرة تمييز إرادة الله، إذاً، تبدأ بمرحلة تطهير إرادتنا ورغباتنا من العوائق والأشواك التي تخلّ بتمييزنا. هي مرحلة تشبه فترة خدمة يوحنا المعمدان الذي يعد السبيل للرب ويجعل سبله سوية (راجع مت 3، 3). هذه المرحلة هي أساسية في مسيرة القداسة لأنها تعيد لحمة الرباط بيننا وبين هويتنا العميقة.
يعلّم القديس اغناطيوس دي لويولا أنه يجب أن نصلي لكي نحصل على عدم الانحياز، وعندما نحصل على عدم الانحياز فما يميل إليه قلبنا بعد ذلك هو إرادة الرب. فإرادة الرب ليست الأصعب أو الأسهل من غيرها. إرادة الله هي الأكمل، هي السبيل الأمثل وسبيل الفرح الحق.
في تمييز إرادة الله في حياتنا لا بد أن نوقن بوضوح أنه “إذا كان من ناحية أمر لا بد منه أن إرادة الله تتطلب منا تضحيات حقيقية لكي نحققها، بالمقابل، في عمق أعماقها، إرادة الله لا يمكن إلا أن تتطابق مع نمونا الأمثل ومع سعادتنا الكاملة. وكذلك أيضًا فإن نمونا المتكامل لا يمكن إلا أن يتطابق مع إرادة الله بشأننا”[54]. لا بل إن القديس بولس يعلمنا بأن الله بالذات هو “الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل في سبيل رضاه” (فيل 2، 13).
ماذا يقول بولس لنا في قوله هذا؟ يقول لنا أن رغباتنا العميقة، تلك التي نشعر بأنها تمثلنا بأكمل وجه، هي مسنودة من الله وأننا، إذا ما تمكنّا من تحقيقها، فذلك لأننا مسنودين بنعمة وإرادة الرب. فبينما يملأنا العدو بأوهام لا يمكن تحقيقها بغية تشتيتنا عن التزاماتنا الآنية، “الرب الصالح – كما تذكرنا تريز الطفل يسوع – لا يلهم رغبات لا يمكن تحقيقها”[55].
إن الرغبات التي يلهمنا بها الرب، لا تشتت كياننا بل تجمعه، تجعلنا متجسدين بشكل أفضل، تحقق كياننا وواقعنا. عندما يقبل الإنسان دعوته العميقة، التي هي رغباته الأصيلة والأعمق، يشعر بقوة النعمة وزخمها ويدرك أنه خارج هذا المحور الكامن في إرادة الرب لا محور آخر له[56].
في مسيرة التمييز، يشبه الإنسان بهلوانًا يسير على الحبل المشدود، يتقدم بفن متعلمًا أن يجعل وزنه يعمل لمصلحته، مستعينًا أيضًا بتوجه الريح، بتحرك أعضائه، بالحركة المعاكسة لعصا التوازن. وفقد من خلال الممارسة والتمرس يتعلم أن يحصل على التوازن. هناك أمر أكيد: التقدم يساعد على الحصول وعلى الحفاظ على التوازن، بينما التسكع يجعل المرء يفقد التوازن.
هذا ويذكرنا بالتزار أن الله بالذات يدخل في لعبة التوازن هذه لأنه “عندما يفكر الرب بقداسة شخص ما، يأخذ بعين الاعتبار طبيعته، قواه وإمكانياته”، وفي الوقت عينه يتصرف كفنان يستعمل الألوان المتوفرة على لوحته بحرية. لا يمكننا أن نعرف مسبقًا أية ألوان سيستعمل، وأي لون سيستعين به حتى يكاد يستهلكه كله، بينما اللون الآخر يكاد لا يلمسه[57]. المهم هو أن نعرف أن ندرك إبداع الله وأن نكون طيّعين له، وهذا هو الجزء الصعب من التمييز الفكري.
يعلم القديس أنطونيوس الكبير أن هناك أشخاص أرهقوا أجسادهم بالتقشف ولكن، بما أنهم لم يكونوا يتحلوا بالتمييز، انتهى بهم الأمر بالابتعاد عن الله”[58]. وهناك قصة شهيرة عن أب الرهبان إذ يقال أن صيادًا رأي الشيخ يمازح بعض الرهبان الشباب فتشكك. فقال له الأنبا: “ضع سهمًا في قوسك وشده”. ففعل كذلك. فأضاف: “شد أكثر”. ففعل. فقال: “أكثر، أكثر”. فأجب الصياد: “إذا شددته أكثر من اللازم انقطع”. وعندها أجابه الأنبا: “وهكذا الأمر في عمل الله. إذا أرهقنا الإخوة أكثر من اللازم، سرعان ما ينكسرون”. عندها فهم الصياد خطأه في الحكم ومضى وقد تعلم درس حكمة.
تعلّم التمييز يمر من خلال الاتزان. فبفضل الاتزان نستطيع أن نعيش حياة روحية متزنة وثابتة. فالإفراط يأتي من الشيطان، كما تذكرنا الأم سينكلتيكا: “هناك تقشف يلهمه العدو، لأنه تلاميذه يعيشونه. كيف يمكننا أن نمييز التقشف الإلهي من التقشف الشيطاني؟ الأمر واضح: من الاتزان والاعتدال. فنقص الاعتدال مضر دومًا”. من ناحيته، يذكرنا الأنبا بيمين أن “كل ما يتخطى الاتزان هو من الشياطين”[59]. والتعليم نفسه يقدمه إفاغريوس البنطي[60].
كيف أميز إرادة الله في واقعي؟
أود أن أنهي هذه السلسلة حول الدعوة بوقفة مع الفيلسوف المسيحي موريس بلوندِل الذي يقدم لنا في كتابه L’action بعض الأفكار الأساسية لتمييز إرادة الرب في حياتنا. يعلّم بلوندل أنه يمكننا أن نهيئ السبيل لسماع صوت الرب في حياتنا من خلال ثلاثة مواقف أساسية نلخصها في هذه الكلمات: تقشف الحاضر، التجرد الملتزم، الانتظار الواثق.
– تقشف الحاضر يعني أن نعرف وأن نعترف بأن ما يمكننا فعله حقًا في حياتنا هو الاصغاء لصوت ضميرنا وتحقيق ما ندرك بصدق وإخلاص أنه واجبنا هنا والآن. فغالبًا ما نتيه براء تكهنات مرتبطة بالمستقبل القريب والبعيد متناسين أن مكان لقائنا بالرب هو هنا والآن. يدعو بلوندل في هذا الإطار إلى “العمل بحسب النور الذي نتمتع به الآن، دون أن نُغلق قلبنا على سخاء وسعة التوق الكامن فينا”.
يجب، بكلمات أخرى أن نعيش ما هو محدود بتوق لا محدود. أن نلتزم بالأمور الصغيرة بحبٍ كبير. يجب أن نعانق حاضرنا لكي نبني مستقبلنا. فحتى إذا ما أردنا أن نغير حاضرنا وواقعنا، لا بد لنا أن ننطلق منه.
– التجرد الملتزم. عندما نقول تجرد، يُخمن البعض أنه يجب التخلي وعيش اللامبالاة نحو الواقع. لذا فكلمة “الملتزم” تُشكّل هذا التجرد. هو ليس تجرد التخلي، بل تجرد حرية القلب تجاه الواقع.
ألتزم بواقعي كما هو، دون أن أُرضخ له رغباتي وأتواقي ومزاجي. يتحدث القديس اغناطيوس دي لويولا عن هذا النوع من التجرد بمثل صائب. فيقول أنه لكي نختار جيدًا يجب أن نكون مثل الميزان الذي لا تميل إبرته لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، بل تقف عادلة لتقوم باختيار صائب.
– الانتظار الواثق: بعد أن نقوم بكل ما نرى ضميريًا أنه واجبنا، يجب أن نقف وقفة انتظار واثق نحو تدخل الرب. فالنعمة تأبى الأوتوماتيكية، النعمة نعمة مجانية تأتي من إرادة الله. وهنا بلوندل يتحدث بطريقة تشبه تعبيرًا قريبًا من فكر القديس اغناطيوس دي لويولا إذ يقول: “بعد أن نفعل كل شيء دون أن ننتظر شيئًا من الله، يجب أن ننتظر كل شيء من الله وكأننا لم نفعل شيئًا”.
تذكرنا كلمات بلوندل بكلمات القديس اغناطيوس الذي استشهدنا به سابقًا والذي يقول: “يجب أن نصلي كما متكلين في كل شيء على الله، وأن نتصرف وكأن كل شيء يرتكز علينا”.
بانتظارنا المنفتح، الذي ليس انتظارًا فارغًا، نعيش فضيلة الرجاء، وهي فضيلة لاهوتية، ونعترف أن الاتكال على الرب والتسليم له هو الفعل الديني الأسمى. فقداستنا ترتكز على حوار حب مع الرب وهذا الحوار ما هو إلا الصلاة وستشكل الصلاة موضوع سلسلة جديدة سنبدأها قريبًا على صفحات زينيت.
[1] Cf. E.H. Whinfield, ed., Masnavii Manavi. Teachings of Rumi, Omphaloskepsis, Iowa 2001, 471-472.
[2] J. Moltmann, Teologia della speranza. Ricerche sui fondamenti e sulle implicazioni di una escatologia cristiana, Queriniana, Brescia 20027, 17.
[3] Ibid.
[4] A. Chouraqui, Il Cantico dei cantici e introduzione ai salmi, Città Nuova, Roma 1980, 93.
[5] Ibid., 94.
[6] Agostino, Commento al vangelo di Giovanni 18, 10.
[7] Tommaso d’Aquino, Somma teologica I q. 1 a. 8 ad 2.
[8] Cf. P. Natorp, Dottrina platonica delle idee. Una introduzione all’Idealismo, Vita e Pensiero, Milano 1999, 44.
[9] J.-L. Chrétien, L’indimenticabile e l’insperabile, 54.
[10] J.-L. Chrétien, L’indimenticabile e l’insperabile, 56.
[11] Cf. G. Reale, Socrate. Alla scoperta della sapienza umana, Rizzoli, Milano 2007, 49.
[12] Cf. Gregorio di Nissa, Omelie sul Cantico dei cantici 2.
[13] Cf. E. Bianchi, Adamo dove Sei? Commento esegetico-spirituale ai capitoli 1-11 del libro della Genesi, Qiqajon, Magnano (BI) 19942, 135.
[14] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo o l’errare dell’uomo. Lettura narrativa e antropologica della Genesi. I. gen 1,1–12,4, EDB, Bologna 2008, 27; J.L. Ruiz de la Peña, Antropologia teologica fondamentale, Borla, Roma 20102, 35.
[15] Cf. Atanasio, L’incarnazione del Verbo III, 11.13.
[16] Cf. Ireneo, Contro le eresie, V, 16, 2; R. Cantalamessa, Dal kerygma al dogma. Studi sulla cristologia dei Padri, Vita e Pensiero, Milano 2006, 153-214; A. Orbe, Antropología de san Ireneo, Biblioteca de Autores Cristianos, Madrid 1969, 107-117.
[17] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo, 29-33.
[18] Ibid., 29.
[19] Citato in P. Evdokimov, La connaissance de Dieu selon la tradition orientale. L’enseignement patristique, liturgique et iconographique, Desclée de Brouwer, Paris 1988, 30.
[20] Efrem, Inni sull’Epifania 13,4.
[21] Cf. A. Wénin, Da Adamo ad Abramo, 28.
[22] Cf. Massimo il Confessore, Capitoli teologici ed economici I, 13.
[23] H. de Lubac, Mistica e mistero cristiano, Jaca Book, Milano 1979, 19.
[24] Tertulliano, Apologetico 17,6.
[25] Gaudium et Spes 41.
[26] C.M. Martini, Abramo nostro padre nella fede, 61.
[27] M. Tebaldi, Il codice Abramo. Personaggi in cerca di attore: Abramo e Sara, Pardes, Bologna 2009, 52.
[28] Cf. Agostino, Confessioni III, 6, 11.
[29] M. Buber, Il cammino dell’uomo, Qiqajon, Magnano (BI) 1990, 23.
[30] Agostino, La vera religione 39, 72.
[31] Cf. J. Moltmann, Teologia della speranza, 56-57.
[32] Ibid., 168.
[33] H. de Lubac, Le drame de l’humanisme athée, Cerf, Paris 2000, 10.
[34] M. Buber, Il cammino dell’uomo, 22.
[35] Caterina da Siena, Orazioni 22.
[36] A. Wénin, Da Adamo ad Abramo o l’errare dell’uomo, 174-175.
[37] «We never know how high we are / Till we are asked to rise; / And then if we are true to plan, / Our statures touch the skies. / The heroism we recite / Would be a normal thing, / Did not ourselves the cubits warp / For fear to be a king» (M.L. Todd, ed., Poems by Emily Dickinson. Third Series, Little, Brown & Co., Boston 1917, 27).
[38] J.-L. Ska, Abramo e i suoi ospiti. Il patriarca e i credenti nel Dio unico, EDB, Bologna 2002, 11-12.
[39] V.E. Frankl, Uno psicologo nel lager, Ares, Milano 200718,125.
[40] J. Werbick, Padre nostro. Meditazioni teologiche come introduzione alla vita cristiana, Queriniana, Brescia 2013, 19.
[41] B. Pascal, Pensieri 172.
[42] C. Pavese, Il mestiere di vivere (Diario 1935-1950), Einaudi, Torino 1952, 67.
[43] T. Nhat Hanh, II miracolo della presenza mentale, Ubaldini, Roma 1992.
[44] Cf. A. de Mello, Awareness. A de Mello Spirituality Conference in His Own Words, Zondervan, Michigan 2002, 5.
[45] A. Bloom, Scuola di preghiera, Qiqajon, Magnano 2009, 82.
[46] C.M. Martini, Abramo nostro padre nella fede, 61.
[47] B. Lonergan, Method in Theology, Toronto 1972, 105.
[48] P.N. Evdokimov, Sacramento dell’amore. Il mistero coniugale alla luce della tradizione ortodossa, Servitium, Sotto il Monte 1999, 84.
[49] H.U. von Balthasar, Gli stati di vita del cristiano, Milano 19962, 69.
[50] Ibid., 22.
[51] Teresa del Bambino Gesù, Opere complete, Libreria Editrice Vaticana – Edizioni OCD, Città del Vaticano – Roma, 1997, 942.
[52] H.U. von Balthasar, Sorelle nello Spirito. Teresa di Lisieux. Elisabetta di Digione, Jacabook, Milano 19913, 24-25.
[53] A. Louf, Generati dallo Spirito. L’accompagnamento spirituale oggi, Qiqajon, Magnano 1994, 170.
[54] Ibid., 170.
[55] Thérèse de Lisieux, Storia di un’anima 271.
[56] H.U. von Balthasar, Gli stati di vita del cristiano, 69.
[57] H.U. von Balthasar, Sorelle nello Spirito, 25.
[58] Detti X, 1
[59] Sincletica 15, in L. Mortari, ed., Vita e detti dei Padri del deserto, vol. 2, Città Nuova, Roma 1975, 115.
[60] Evagrio Pontico, Trattato Pratico 15.

Print Friendly, PDF & Email
Share this Entry

ZENIT Staff

فريق القسم العربي في وكالة زينيت العالمية يعمل في مناطق مختلفة من العالم لكي يوصل لكم صوت الكنيسة ووقع صدى الإنجيل الحي.

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير