“إذا صرت يومًا قديسة، سأكون قديسة الظلمات. سأكون دومًا غائبة عن السماوات لكي أضيء النور على الأرض للذين يعيشون في الظلمة”. هذه الكلمات كتبتها الأم تريزا في عام 1962 في رسالة خاصة للأب جوزف نوينر. تخبر في هذه الرسالة وفي الرسالة التي تلتها عن خبرة ليل الإيمان المريرة التي عاشتها حتى موتها في عام 1997.
لا بد أن نوضح ما نقوله عندما نصرح بأن الأم تريزا فقدت إيمانها. فالمقولة صحيحة وخاطئة في آن. هي صحيحة لأن الأم عاشت خبرة ليل إيمان طويل وداسم على مدى نحو 40 سنة. ولكن المقولة خاطئة، لأنها بالرغم من أنها فقدت “مشاعر” الإيمان لم تترك الإيمان أبدًا، بل صارعت بقوة، كما يصارع القديسون، ضد التجارب الإيمانية. وما يميز خبرتها أن صراعها لم يكن فقط عقليًا، بل قامت به بشكل ملموس من خلال عيش الإيمان في المحبة، للرب العطشان على الصليب، للرب “المصمود” في القربان المقدس وللرب المصلوب والمتألم في الفقراء.
في هذه المقابلة، يحدثنا الأب باولو موروكوتي، أستاذ اللاهوت الروحي في جامعة الغريغوريانا الحبرية، عن معنى ما عاشته الأم تريزا.
* * *
غالبًا ما نشهد سوء فهم لما يعيشه القديسون. فعلى سبيل المثال، تنظر العامة إلى القديس فرنسيس كالقديس البيئي وتتناسى الحياة الروحية والصوفية العميقة التي عاشها فقير أسيزي. وهناك خطر اعتبار الأم تريزا قديسة العمل الاجتماعي. ما هو بنظرك العنصر “الصوفي الموضوعي” بحسب تعبير فون بالتازار الذي يميز الأم تريزا؟
إن مناسبة إعلان قداسة الأم تريزا تشكل فرصة مؤاتية للتعمق باللاهوت الموضوعي الذي ميّز روحانية هذه الشخصية التي كانت شاهدة كبيرة للمحبة. فالخطر هو تحويل شهادته إلى مجرد شهادة عمل خيري اجتماعي، بدل أن ننظر إليها كشهادة أمانة للمسيح وعلاقة حية ووطيدة معه.
يمكننا أن نفهم رسالة وشهادة الأم تريزا فقط من خلال التأمل بحياتها الافخارستية، التي هي تعبير عن تحوّل جوهري ولاهوتي للعمل الاجتماعي الذي كانت تقوم به.
محور ومنهل شهادة الأم تريزا هي الافخارستيا. في كلماتها وتعاليمها نرى رابطًا وطيدًا بين الاحتفال بالافخارستيا والعيش الافخارستي.
القداس الإلهي الذي كانت تشارك به في الصباح، كان يمتد ليشمل كل ما تقوم به في يومها، وصولاً إلى التشبه والاقتداء الحميم بيسوع المسيح.
هذه النظرة الافخارستية والكريستولوجية سنحت للأم تريزا الفرصة لكي ترى في كل فقير حضور يسوع المسيح. وقد طبع هذا الوعي كل رسالة الأم تريزا الاجتماعية بطابع مسيحانيٍ وطيد.
فكلماتها الشهيرة التي كانت ترددها – “كل شيء لأجل يسوع” – تؤكد لنا أن كل ما كانت تفعله، كانت تفعله حبًا بالرب. فحتى الفقر الذي ميّز حياتها وتكرسها، لم يكن مجرد حب مبهم لعيش الفقر، بل اقتداء: اقتداء بالمسيح العفيف، الطائع والفقير.
تترك لنا الأم تريزا أمثولة وجودية هامة، ولا يمكننا أن نفهم رسالتها بِغَضّ النظر عن الافخارستيا والوعي الروحي.
يُروى عن الأم تريزا أنها كانت أمينة للسجود للقربان المقدس، وأنها، بعد السجود كانت تخرج للعمل مع الفقراء وكانت تقول ليسوع: “أتركك هنا لكي ألتقي بك في الفقراء”. كيف يمكننا أن نربط لاهوتيًا بين عمل الأم تريزا الخيري والبعد اللاهوتي التأملي؟
في التأمل بحياة الأم تريزا توارد إلى ذهني مرات كثيرة مقطع من المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستور “فرح ورجاء” حيث يقول أنه من خلال التجسد، اتحد ابن الله بشكل ما بكل إنسان. عمل بيدي إنسان، فكر بذكاء إنسان، قام بخيارات بإرادة إنسان، أحب بقلب إنسان.
لقد رأينا أن الافخارستيا هي نقطة انطلاق خبرة الأم تريزا الروحية، وعندما نتحدث عن الافخارستيا نتحدث عن التجسد. فمن رأى عمل الأم تريزا رأى فيها صدى وإشعاع يسوع المسيح.
من خلال سر التجسد، أسقطت الأم تريزا الحائط القائم بين البشر، فخدمتهم بغض النظر عن عرقهم، دينهم، لأن في كل إنسان شيء من المسيح.
(سننظر في القسم المقبل عن أزمة الأم تريزا الروحية)