أصحاب السعادة، السفراء الأعزاء، سيداتي وسادتي،
أرحب بكم وأشكركم على حضوركم الحافل والمتنبه لهذا الموعد التقليدي الذي يفسح المجال أمام تبادل التمنيات بأن يكون العام الذي بدأ للتو زمن فرح وازدهار وسلام للجميع. وأود التعبير عن امتناني الخاص لعميد السلك الدبلوماسي، سعادة السيد أرميندو فرنانديس دو إسبيريتو سانتو فييرا، سفير أنغولا، على كلمات الترحيب التي وجهها نيابة عن السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، والذي اتّسع مؤخرا على أثر إقامة علاقات دبلوماسية مع جمهورية موريتانيا الإسلامية الشهر المنصرم. أود التعبير أيضا عن امتناني للعديد من السفراء المقيمين في المدينة، والذين ازداد عددهم خلال العام الماضي، فضلا عن السفراء غير المقيمين الذين يرغبون، من خلال حضورهم اليوم، تسليط الضوء على علاقات الصداقة التي تجمع شعوبهم بالكرسي الرسولي. وفي الوقت نفسه أود التعبير عن تعازيّ لسفير ماليزيا، متذكرا سلفه داتو محمد ذو الكفل بن محمد نور، الذي وافته المنية في فبراير / شباط الفائت.
لقد ترسّخت العلاقات خلال العام المنصرم، بشكل أعمق بين بلدانكم والكرسي الرسولي بفضل الزيارات المشكورة للعديد من رؤساء الدول والحكومات، وقد جاءت أيضا بالتزامن مع العديد من المناسبات التي رافقت اليوبيل الاستثنائي للرحمة الذي اختُتم منذ فترة قصيرة. وقد تم التوقيع أو التصديق على عدد من الاتفاقات الثنائية، أكانت ذات طابع عام، ترمي إلى الاعتراف بالوضع القانوني للكنيسة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وفي بنين وتيمور الشرقية، أم ذات طابع خاص ومحدد شأن الملحق الذي تم التوقيع عليه مع فرنسا، أو المعاهدة في المجال الضريبي مع الجمهورية الإيطالية، التي دخلت مؤخرا حيز التنفيذ. فضلا عن مذكرة التفاهم بين أمانة سر الدولة وحكومة الإمارات العربية المتحدة. هذا وفي إطار تمسك الكرسي الرسولي في التزاماته الواردة في الاتفاقات الموقعة، تم التطبيق الكامل، خلال العام المنصرم، للاتفاق الشامل مع دولة فلسطين، الذي دخل حيز التنفيذ لسنة خلت.
أيها السفراء الأعزاء،
كان العالم يعيش لقرن مضى الحرب العالمية الأولى. كانت “مأساة دون جدوى”[1]، نشرت خلالها تقنياتٌ جديدة من القتال الموتَ، وولّدت آلاما كبيرة وسط السكان المدنيين العزّل. في العام 1917، تبدل وجه الصراع جذريا، واتخذ ملامح عالمية، فيما ظهرت في الآفاق الأنظمة التوتاليتارية التي سببت لفترة طويلة انقسامات قاسية. بعد مائة سنة، باستطاعة العديد من مناطق العالم أن تقول إنها استفادت من أزمنة السلم الطويلة، التي عززت فرص النمو الاقتصادي وأشكالا من الرخاء لم يسبق لها مثيل. إذا كان السلام يبدو اليوم بالنسبة لكثيرين خيرا بديهيا، أو أمرًا مكتسبا لم يعد يحظى بالكثير من الاهتمام، فهو يبقى بالنسبة لكثيرين سرابًا بعيدا وحسب. ملايين الأشخاص يعيشون لغاية اليوم وسط صراعات عبثية. حتى في الأماكن التي كانت تُعتبر آمنة في الماضي، باتت تسود مشاعر الخوف. غالبا ما تواجهنا صور الموت وألم الأبرياء الذين يطالبون بالمساعدة والعزاء، وحداد من يبكي شخصا عزيزا بسبب الحقد والعنف، مأساة اللاجئين الهاربين من الحرب أو المهاجرين الذي يموتون بشكل مأساوي.
لذا أود أن أخصّص لقاء اليوم لموضوع الأمن والسلام لأنني أعتقد أنه في أجواء القلق الشامل على الحاضر، ومشاعر الارتباك والتخوّف حيال المستقبل التي نعيش فيها، من الأهمية بمكان أن نوجه كلمة رجاء تدل إلى آفاق السير إلى الأمام.
لأيام قليلة خلت احتفلنا باليوم العالمي الخمسين للسلام، الذي أسّسه سلفي الطوباوي بولس السادس “كأمنية ووعد -في بداية الروزنامة التي تقيس وتصف مسيرة الحياة البشرية في الزمن- بأن يسود السلامُ مسار تطور الأحداث بتوازنه العادل والمفيد”[2]. إن السلام، بالنسبة للمسيحيين، عطية من الرب، أعلنها وأنشدها الملائكة لدى ولادة المسيح “المَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأَرضِ لِلنَّاسِ فإنَّهم أَهْلُ رِضاه” (لو 2، 14). إنه خير إيجابي، “ثمرة النظام المطبوع في المجتمع البشري”[3] من قبل الله “وليس غياب الحرب وحسب”[4]. لا يمكن أن “يقتصر فقط على استقرار التوازنات بين القوى المعادية”[5]، بل يتطلب التزام الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة الذين “يتوقون بشوق إلى عدالة أكثر كمالا”[6].
من هذا المنطلق، أود التعبير عن قناعتي القويّة بأن كلّ تعبير دينيّ مدعوّ لتعزيز السلام. وهذا ما تمكّنتُ من اختباره بقوّة أثناء اليوم العالمي للصلاة من أجل السلام، الذي عُقد في أسّيزي خلال شهر أيلول سبتمبر الماضي، وضمّ ممثّلين عن مختلف الديانات اجتمعوا “ليُوصلوا معا صوت المتألّمين، ومَن لا صوت لهم، ومّن لا يسمعون”[7]، وهذا ما حصل أيضًا خلال زيارتي لكنيس روما الأكبر وللمسجد في باكو.
نعرف كيف أن الكثير من أعمال العنف قد ارتكبت بدوافع دينية، بدءا من أوروبا، حيث دامت لفترة طويلة الانقسامات التاريخية بين المسيحيين. وخلال زيارتي الأخيرة إلى السويد أردتُ الإشارة إلى الحاجة الملحة لتضميد جراح الماضي والسير معا نحو أهداف مشتركة. ولا بد أن ترتكز هذه المسيرة على الحوار الأصيل بين مختلف الطوائف الدينية. إنه حوار ممكن وضروري، كما حاولتُ الشهادة لهذا الأمر خلال اللقاء الذي تمّ في كوبا مع بطريرك موسكو كيريل، وخلال زيارتي الرسولية إلى أرمينيا، وجورجيا وأذربيجان حيث استشعرتُ التطلّع المحق لتلك الشعوب نحو تخطّي الصراعات التي تعرّض للخطر الوفاق والسلام منذ سنوات.
وفي الوقت نفسه لا بدّ ألّا ننسى الأعمال المتعددة، المستلهمة دينيا، التي تساهم، من خلال تضحية الشهداء أحيانا، في بناء الخير العام عن طريق التربية والمساعدة، لاسيما في المناطق الأكثر عوزا وساحات الصراعات. إن أعمالا من هذا النوع تساهم في تحقيق السلام وتشهد على كيفية العيش والعمل معا بشكل ملموس، على الرغم من الانتماء إلى شعوب وثقافات وتقاليدَ مختلفة، في كلّ مرّة توضع فيها كرامة الشخص البشري محورا للنشاطات.
إننا ندرك وللأسف أن الاختبار الديني، في يومنا هذا، عوضا عن الانفتاح على الآخرين يُمكن أن يُستخدم أحيانا كذريعة للانغلاق والتهميش والعنف. أشير بنوع خاص إلى الإرهاب الذي يحمل صبغة أصولية، والذي حصد خلال العام المنصرم الكثير من الضحايا في مختلف أنحاء العالم: في أفغانستان، وبنغلادش، وبلجيكا، وبوركينا فاسو، ومصر، وفرنسا، وألمانيا، والأردن، والعراق، ونيجيريا، وباكستان، والولايات المتحدة الأمريكية، وتونس وتركيا. إنها أعمال جبانة، تستخدم الأطفال لتقتل، كما حصل في نيجيريا؛ تستهدف من يصلّي، كما حصل في الكاتدرائية القبطية في القاهرة، أو من يسافر ، كما حصل في بروكسيل، أو من يتنزّه في طرقات المدن، كما حصل في نيس وفي برلين، أو من يحتفل ببساطة بحلول العام الجديد كما حصل في اسطنبول.
إنه جنون قاتل يسيء استخدام اسم الله من أجل نشر الموت، في محاولة لفرض رغبة في السيطرة والتسلط. لذا أُطلق نداء إلى كلّ السلطات الدينية كي تتوحّد في التأكيد بقوّة أنّه لا يمكن لأحد أن يقتل أبدًا باسم الله. الإرهاب الأصولي هو ثمرة بؤسٍ روحيّ ذريع، يكون أحيانًا مرتبطًا بفقرٍ اجتماعيّ كبير. ويمكن أن يُهزَم بالكامل فقط من خلال إسهامٍ مشتركٍ من قِبَلِ القادة الدينيين والسياسيين. لهؤلاء الأوّلين واجب نقل القيم الدينية التي لا تقبل أي تناقضات بين مخافة الله ومحبّة القريب. ولهؤلاء الأخيرين واجب ضمان الحقّ في الحرّية الدينية في الحيّز العام، مقرّين بالإسهام الإيجابي والبنّاء الذي تقدّمه من أجل بناء مجتمع مدني، لا تُعتبر فيه متناقضةً الانتماءات الاجتماعية، بحسب مبدأ المواطنة، والبعد الروحي للحياة. ومن مسؤوليّة الحكّام أيضا أن يحولوا دون توفّر الشروط التي تصير أرضا خصبة لانتشار الأصولية. إن هذا يتطلّب سياسات اجتماعية ملائمة ترمي إلى مكافحة الفقر، لا يمكن فصلها عن تقييم صادق للعائلة كمكان مميّز للنضوج البشري، وعن الاستثمار الهام في الحقل التربوي والثقافي.
في هذا السياق أرحّب بكل اهتمام بمبادرة المجلس الأوروبي حول البعد الديني الذي يحمله الحوار بين الثقافات، والذي طرحَ العام الماضي موضوعَ دورِ التربية في الوقاية من الراديكالية التي تقود إلى الإرهاب والتطرف العنيف. إنها فرصة للتعمق في مساهمة الظاهرة الدينية ودور التربية في إحلال السلام الحقيقي وسط النسيج الاجتماعي، وهو أمر ضروري من أجل التعايش في مجتمع متعدد الثقافات.
لذا أودّ أن أعبّر عن قناعتي بأنه لا يمكن لأيّ سلطة سياسيّة أن تكتفي في ضمان أمن مواطنيها -وهو مفهوم يمكن أن يعود بنا إلى “العيش الهادئ” وحسب- إنما هي مدعوّة لأن تصنع السلام وتعزّزه. إن السلام “فضيلة فاعلة” تتطلّب التزام وتعاون كلّ فرد، وكامل الجسم الاجتماعي برمته. كما يلحظ المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني “إن السلام ليس إطلاقًا أمرًا يتمّ تحصيله مرّة واحدة، بل هو بناء يحتاج لأن يُشيّد باستمرار”[8]، من خلال الدفاع عن خير الأشخاص، واحترام كرامتهم. إن بناء السلام يتطلّب قبل كلّ شيء التخلّي عن العنف عند المطالبة بالحقوق[9]. وقد كرّستُ لهذا المبدأ بالذات رسالتي بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2017، تحت عنوان “اللاعنف: أسلوب سياسة من أجل السلام”، لأقول قبل كلّ شيء إن اللاعنف هو أسلوب سياسي، يرتكز إلى تفوّق مبدأي القانون وكرامة كلّ شخص.
إن بناء السلام يتطلّب أيضا “إلغاء أسباب الخلافات التي تغذّي الحروب”[10]، بدءا من الظلم. هناك في الواقع صلة حميمة بين العدالة والسلام[11]. “لكن -ـيقول القديس يوحنا بولس الثاني- بما أن العدالة البشرية هشة وناقصة على الدوام، ومعرّضة كما هي للمحدودية والأنانية الشخصية، لا بدّ من ممارستها وإتمامها من خلال الغفران الذي يضمّد الجروح ويعيد بناء كامل العلاقات الإنسانية المتزعزعة. (…) إن الغفران لا يتعارض بأيّ شكل من الأشكال مع العدالة بل يطمح إلى ملء العدالة التي تقود إلى صفاء النظام، الذي هو (…) شفاء عميق للجروح التي تنزف داخل النفوس. فالعدالة والغفران أمران أساسيان من أجل التوصّل إلى هذا الشفاء”[12]. إن هذه الكلمات، الآنية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، لاقت استعدادَ بعضِ رؤساء الدول أو الحكومات لقبول دعوتي إلى القيام بمبادرة رأفة تجاه المسجونين. وأودّ أن أعبّر عن تقديري الخاص وامتناني لهؤلاء ولجميع الملتزمين في خلق شروط حياة كريمة للمعتقلين وتعزيز انخراطهم في المجتمع.
إني لواثق بأن اليوبيل الاستثنائي للرحمة قد شكّل بالنسبة لكثيرين فرصة ملائمة من أجل إعادة اكتشاف “تأثير الرحمة الكبير والإيجابي كقيمة اجتماعية”[13]. هكذا يستطيع كلّ فرد أن يساهم في إحياء “ثقافة الرحمة المرتكزة على إعادة اكتشاف اللقاء مع الآخرين: ثقافة لا ينظر فيها أي شخص إلى الآخر بأعين اللامبالاة، ولا يبتعد حين يرى آلام الأخوة”[14]. هكذا فقط يمكن أن تُشيّد مجتمعات منفتحة ومضيافة تجاه الأجانب، وتنعم في الوقت عينه بالأمن والسلام بداخلها. وهذا الأمر ضروري للغاية في زمننا الراهن حيث يستمر تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين في مناطق عدة من العالم. أفكر بنوع خاص بالعديد من اللاجئين والنازحين في بعض مناطق أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وبمن يهربون من مناطق النزاعات في الشرق الأوسط.
خلال العام الماضي، كانت المجتمع الدولي على موعدين هامين دعت إليهما الأمم المتحدة: القمة العالمية للعمل الإنساني والقمة للتعامل مع التحركات الكبيرة للاجئين والمهاجرين. إننا بحاجة إلى التزام مشترك تجاه المهاجرين واللاجئين والنازحين، يسمح بأن يحظوا بضيافة كريمة. وهذا يتطلّب التوفيق بين حقّ “كلّ كائن بشري (…) في الهجرة إلى جماعات سياسية أخرى والاستقرار ضمنها”[15]، وفي الوقت نفسه ضمان إمكانية اندماج المهاجرين في النسيج الاجتماعي الذي ينخرطون فيه، دون أن يشعر هذا النسيج بأي تهديد يُحدق بأمنه وهويته الثقافية وتوازناته السياسية-الاجتماعية. من جهة أخرى، ينبغي ألا ينسى المهاجرون أن من واجبهم احترام قانون البلدان التي تستضيفهم وثقافتها وتقاليدها.
إن المقاربة الحذرة من قبل السلطات الرسمية لا تتضمّن تطبيق سياسات الانغلاق تجاه المهاجرين، لكن تتطلّب تقييم مدى قدرة البلاد على تقديم حياة لائقة للمهاجرين لاسيما لمَن هم بحاجة فعلًا إلى الحماية، دون أن يؤثر هذا الأمر على الخير العام للمواطنين، وذلك بحكمة وبعد نظر. ولا يمكن أن تنحصر الأزمة المأساوية الراهنة بالتعداد الرقمي وحسب. المهاجرون أشخاص، لديهم أسماء وقصص وعائلات، ولا يمكن أن يحل السلام الحقيقي طالما بقي كائن بشري واحد تُنتهك هويته الشخصية ويتحوّل إلى مجرد رقم إحصائي أو إلى غرض ذي اهتمام اقتصادي.
لا يمكن لمشكلة الهجرة أن تُبقي بعض البلدان غير مبالية، في وقت تتحمل بلدان أخرى العبء الإنساني، وليس من النادر أن يتطلّب هذا الأمر جهودا عملاقة ويسبّب مشاكلَ كبيرة، وتواجه حالة الطوارئ التي لا يبدو أن لها نهاية. على الجميع أن يشعروا بأنهم بُناة للخير العام الدولي ومتنافسون عليه، حتى من خلال بوادر ملموسة من الإنسانية، التي تشكل عناصر رئيسة لهذا السلام ولهذا النمو اللذين ما يزال ينتظرهما ملايين الأشخاص وأمم برمتها. لذا إني ممتنٌ للعديد من البلدان التي تستضيف بسخاء الأشخاص المحتاجين، بدءا من مختلف الدول الأوروبية، لاسيما إيطاليا، وألمانيا، واليونان والسويد.
وقد تركت لديّ أثرًا دائمًا الزيارة التي قمتُ بها إلى جزيرة ليسبوس، برفقة شقيقاي البطريرك برتلماوس ورئيس الأساقفة يرونيموس، حيث رأيتُ ولمست لمس اليد الوضع المأساوي في مخيمات اللاجئين، ولكن أيضا روح الإنسانية والخدمة التي يتحلّى بها العديد من الأشخاص الملتزمين في مساعدتهم. كما ينبغي ألا ننسى الضيافة التي تقدّمها بلدان أوروبية أخرى، وبلدان شرق أوسطيّة من بينها لبنان، والأردن وتركيا، فضلا عن التزام بلدان عدّة في أفريقيا وآسيا. وحتى خلال زيارتي إلى المكسيك، حيث تسنّى لي اختبار فرح الشعب المكسيكي، شعرتُ بقربي من آلاف المهاجرين من أمريكا الوسطى الذين يعانون من أوضاع ظلم رهيب ويواجهون المخاطر محاولين البحث عن مستقبل أفضل، ويذهبون ضحية الابتزاز وهذا الاتجار البغيض -الذي هو شكل رهيب من العبودية المعاصرة- ألا وهو الاتجار بالأشخاص.
إن مثل هذه “النظرة المحدودة” للإنسان هي عدوة السلام؛ النظرة التي تساهم في انتشار الشرّ، وعدم المساواة الاجتماعية، والفساد. ولقد تبنى الكرسي الرسولي، فيما يخص هذه الظاهرة الأخيرة، التزامات جديدة، وقدّم رسميا، في التاسع عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، أداة الانضمام إلى معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2003.
في رسالته العامة “ترقي الشعوب”، التي تصادف هذا العام الذكرى الخمسون لصدورها، ذكّر الطوباوي بولس السادس كيف أن حالات عدم المساواة هذه تسبب الفتن. “مسيرة السلام تمرّ عبر النمو”[16] الذي يتعيّن على السلطات الرسمية أن تشجّعه وتعزّزه، خالقة الشروط الملائمة لتوزيع أكثر عدلًا للموارد وتحفيز فرص العمل للشبان بنوع خاص. ما يزال يوجد في عالمنا اليوم العديد من الأشخاص، لاسيما الأطفال، الذين يعانون بسبب الفقر المتفشّي ويعيشون في أوضاع من انعدام الأمن الغذائي -لا بل الجوع-، فيما تخضع الموارد الطبيعية للاستغلال الجشع لقليلين، وتُهدر كلّ يوم كميات هائلة من الطعام.
إن الأطفال والشباب هم المستقبل، هم الذين يتمّ العمل والبناء من أجلهم. لا يجوز تجاهلهم ونسيانهم بأنانية. ولهذا السبب، وكما أشرت مؤخرًا في رسالة موجهة إلى جميع الأساقفة، أعتبر أولويةً حمايةَ الأطفال الذين غالبًا ما تُحَطَّم براءتهم تحت ثقل الاستغلال والعمل الخفي والاستعبادي والدعارة أو اعتداءات البالغين والعصابات وتجّار الموت[17].
خلال زيارتي إلى بولندا، بمناسبة اليوم العالمي للشباب، تسنّى لي اللقاء بآلاف الشباب الممتلئين بالحماسة وبفرح الحياة. لكنني رأيت في كثيرين آخرين الألم والمعاناة. أُفكّر في الفتيان والفتيات الذين يعانون من تبعات النزاع العنيف في سورية، ويُحرَمون من أفراح الطفولة والشباب: من إمكانية اللعب بحرية، إلى فرصة الذهاب إلى المدرسة. إليهم وإلى كلّ الشعب السوري العزيز يتّجه فكري بشكل دائم، فيما أوجّه نداء إلى المجتمع الدولي كي يعمل بجدّ من أجل إطلاق مفاوضات جادة تنهي بها الكلماتُ للأبد النزاعَ الذي يسبّب كارثة إنسانية حقيقية. ويجب أن يكون احترام القانون الدولي الإنساني أولويّة لدى كل الأطراف المعنيّة، من خلال ضمان حماية المدنيين والمساعدة الإنسانية اللازمة للسكان. إن الأُمنية المشتركة هي أن تكون الهدنة الموقع عليها مؤخرًا علامة رجاء للشعب السوري كله الذي هو بأمس الحاجة إليه.
يقتضي ذلك أيضا العمل على استئصال الاتجار المشين بالأسلحة، والسباق المتواصل لإنتاج ونشر أسلحة أكثر تطورًا. فالتجارب التي أُجريت في شبه الجزيرة الكورية، والتي تزعزع المنطقة بكاملها وتطرح على المجتمع الدولي بأسره تساؤلات مقلقة بشأن خطر سباق جديد للتسلح النووي، تسبب بقلق كبير. ولا تزال آنية جدًا كلمات يوحنا الثالث والعشرين في “السلام في الأرض” حين أكد أن “الحكمة والإنسانية تتطلّبان وقف سباق التسلح، والحد من الأسلحة الموجودة بشكل متزامن ومتبادل؛ وحظر الأسلحة النووية”[18]. ومن هذا المنظار، وأيضًا في ضوء المؤتمر القادم حول نزع السلاح، يعمل الكرسي الرسولي من أجل تعزيز أخلاقية سلام وأمن تتخطى ذاك الخوف و”الانغلاق” الذي يؤثر على المناقشات حول الأسلحة النووية.
لا بد من الإشارة أيضًا، فيما يتعلق بالأسلحة التقليدية، إلى أن سهولة الوصول -وليس نادرا- إلى سوق الأسلحة، ومنها العيار الخفيف أيضًا، فضلا عن كونها تزيد من تفاقم الأوضاع في مختلف مناطق النزاع، فإنها تسبّب انتشار شعور عام بغياب الأمن وبالخوف، شعور يصبح أكثر خطورة مع ازدياد فترات القلق والتغيّرات التاريخية التي يجتازها المجتمع كالفترة الحالية.
عدوّة للسلام هي الإيديولوجية التي تستغلّ المصاعب الاجتماعية لتأجيج الاحتقار والكراهية، وترى الآخر كعدوّ ينبغي القضاء عليه. للأسف، تظهر أشكال إيديولوجية جديدة بشكل متواصل في أفق البشرية. وبينما تتنكّر كحاملة خير للشعب، تخلّف وراءها الفقر والانقسامات والتوترات الاجتماعية والألم وغالبًا الموت أيضا. أما السلام، فبالعكس، يُكسَب من خلال التضامن. ومنه، تنبت إرادة الحوار والتعاون، التي تجد في الدبلوماسية أداة أساسية. وفي منظار الرحمة والتضامن، تندرج الجهود الحثيثة للكرسي الرسولي والكنيسة الكاثوليكية من أجل تفادي النزاعات أو مرافقة عمليات السلام والمصالحة والبحث عن حلول تفاوضية لها. وإنه لمن المشجّع أن بعض المحاولات المتخذة تُقابَل بالإرادة الصالحة لأشخاص كثيرين يعملون في أنحاء عديدة، وبشكل فعال وعملي، من أجل السلام. أُفكّر في الجهود المبذولة خلال العامين الأخيرين من أجل إعادة التقارب بين كوبا والولايات المتحدة. أُفكّر أيضًا في الجهد المبذول بإصرار، وبالرغم من المصاعب، من أجل إنهاء سنوات من النزاع في كولومبيا.
إن هذه المقاربة تبغي تشجيع الثقة المتبادلة ودعم مسيرات الحوار والتشديد على الحاجة إلى القيام بأعمالٍ شجاعة، وهي ملحّة جدًا أيضًا في فنزويلا المجاورة حيث تبعات الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ترخي بثقلها منذ فترة طويلة على السكان المدنيين؛ أو في أنحاء أخرى من العالم، بدءًا من الشرق الأوسط، ليس فقط لوقف النزاع السوري، ولكن أيضًا من أجل العمل على مصالحة تامة للمجتمع في العراق واليمن. هذا ويجدّد الكرسي الرسولي نداءه الملحّ كي يتمّ استئناف الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين من أجل بلوغ حلّ مستقر ودائم يضمن التعايش السلميّ لدولتين داخل حدود معترف بها دوليًا. لا يجوز لأيّ نزاع أن يصبح عادة، يبدو وكأنه لا يمكن الانفصال عنها. الإسرائيليون والفلسطينيون بحاجة إلى السلام. الشرق الأوسط بأسره بحاجة ملحة إلى السلام!
آمل كذلك التطبيق الكامل للاتفاقيات الرامية إلى إعادة السلام في ليبيا، حيث من الملح جدًا تخطي انقسامات السنوات الراهنة. كما وأشجع كل جهد على صعيد محلي ودولي من أجل استعادة التعايش المدني في السودان وجنوب السودان وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، التي تعاني من الصدامات المسلحة المتواصلة ومن المجازر والدمار، كما وفي بلدان أخرى من القارة، المطبوعة بالتوترات وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. وبشكل خاص، آمل أن يساهم الاتفاق الموقع مؤخرًا في جمهورية الكونغو الديمقراطية في جعل من لديهم مسؤوليات سياسية يعملون بجهد من أجل تشجيع المصالحة والحوار بين جميع مكوّنات المجتمع المدني. ويتّجه فكري أيضًا إلى ميانمار من أجل تشجيع تعايش سلمي، وكي تتم بمعونة المجتمع الدولي مساعدة من لديهم احتياجات كبيرة وعاجلة.
وفي أوروبا أيضا حيث لا تغيب التوترات، يشكل الاستعداد للحوار السبيل الوحيد لضمان أمن القارة ونموها. أُرحّب بالتالي بالمبادرات الرامية إلى تعزيز عملية إعادة توحيد قبرص -وتُستأنف اليوم المفاوضات-، فيما آمل أن يتواصل بعزم في أوكرانيا البحثُ عن حلول ممكنة من أجل التطبيق الكامل للالتزامات المتخذة من قبل الأطراف، لاسيما التلبية السريعة للوضع الإنساني الذي لا يزال خطيرا.
إن أوروبا بأسرها تمرّ بفترة حاسمة من تاريخها، وهي مدعوة خلالها إلى استعادة هويتها. ويقتضي ذلك إعادة اكتشاف جذورها للتمكن من صقل مستقبلها. ومن الملحّ جدًا، إزاءالقوات التآكلية، تحديث “فكرة أوروبا” من أجل إطلاق أنسنة جديدة ترتكز على القدرة على الإدماج والحوار والاستحداث[19] التي جعلت ما تُعرف بالقارة القديمة عظيمة. إن عملية التوحيد الأوروبية التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، كانت ولا تزال فرصة فريدة للاستقرار والسلام والتضامن بين الشعوب. وفي هذا المكان، لا أستطيع إلاّ أن أؤكد مجددًا اهتمام وقلق الكرسي الرسولي حول أوروبا ومستقبلها، يقينًا بأن القيم التي استمد منها هذا المشروع نشأته وتأسس عليها، وتصادف هذا العام ذكراه الستون، هي قيم مشتركة للقارة كلها وتتخطى حدود الاتحاد الأوروبي.
أصحاب السعادة، سيداتي وسادتي،
إن بناء السلام يعني أيضًا العمل بفعالية من أجل العناية بالخليقة. إن اتفاق باريس حول المناخ الذي دخل مؤخرًا حيز التنفيذ هو علامة هامة للالتزام المشترك من أجل ترك عالم جميل وملائم للعيش لمن سيأتي بعدنا. آمل أن يلقى الجهد المبذول في الآونة الأخيرة لمواجهة التغييرات المناخية تعاونًا أوسع على الدوام من قبل الجميع، لأن الأرض هي بيتنا المشترك، وينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن لخيارات كل فرد تبعات على حياة الجميع.
من ناحية أخرى، من الواضح أيضا أن هناك ظواهر تتخطى إمكانيات العمل البشري. أُشير إلى الزلازل العديدة التي ضربت بعض مناطق العالم. أُفكّر أولا بتلك التي وقعت في الإكوادور وإيطاليا وإندونيسيا وأدّت إلى وقوع عدد كبير من الضحايا، ولا يزال أشخاص كثيرون يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة. لقد تمكّنتُ شخصيًا من زيارة بعض المناطق التي ضربها الزلزال في وسط إيطاليا حيث، وإذ عاينتُ الجراح التي ألحقها الزلزال بأرض غنية بالفن والثقافة، تمكّنتُ من مقاسمة ألم أشخاص كثيرين و أيضا شجاعتهم والعزم على إعادة بناء ما قد دمّر. آملُ أن يواصل التضامن الذي وحّد الشعب الإيطالي العزيز خلال الساعات التي تلت الزلزال، في تحفيز الأمة بأسرها، لاسيما في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها. إن الكرسي الرسولي وإيطاليا مرتبطان بشكل خاص بدوافع تاريخية وثقافية وجغرافية معروفة. وقد ظهر هذا الرباط بشكل واضح خلال السنة اليوبيلية، وأشكرُ جميع السلطات الإيطالية على المساعدة المُقدمة لتنظيم هذا الحدث، وأيضا على ضمان أمن الحجاج الذين قدموا من كل أنحاء العالم.
أيها السفراء الأعزاء،
إن السلام عطية، وتحدّ والتزام. هو عطية لكونه ينبع من قلب الله ذاته؛ وتحدّ لأنه خير ليس أبدًا مفروغًا منه، وينبغي اكتسابه بشكل متواصل؛ وهو التزام لأنه يتطلّب العمل الشغوف لكل شخص صاحب إرادة صالحة، في السعي إليه وبنائه. ليس هناك إذًا من سلام حقيقي إلاّ انطلاقًا من نظرة للإنسان قادرة على تعزيز نموه المتكامل، آخذة بعين الاعتبار كرامته المتسامية، لأن “النمو هو الاسم الجديد للسلام”[20]، كما ذكّر الطوباوي بولس السادس. هذه هي إذًا أمنيتي للسنة الجديدة التي بدأت للتو: أن تنمو بين بلداننا وشعوبها فرص للعمل معًا ولبناء سلام حقيقي. من جهته، فإن الكرسي الرسولي، ولاسيما أمانة سر الدولة، سيكون دائم الاستعداد للتعاون مع جميع الذين يلتزمون من أجل وقف النزاعات الدائرة ولتقديم الدعم والرجاء للسكان المتألمين.
نردد في الليتورجيا تحية “السلام معكم”. بهذه العبارة، التي هي علامة فيض البركات الإلهية، أُجدد لكل منكم، أعضاء السلك الدبلوماسي الموقرين، ولعائلاتكم والبلدان التي تمثلون، أصدق تمنياتي للعام الجديد.
شكرًا
***********
© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2017
[1] بندكتس الخامس عشر، رسالة إلى قادة الدول المتحاربة، 1 أغسطس/آب 1917: أعمال الكرسي الرسولي IX(1917)، 423.
[2] بولس السادس، رسالة لمناسبة الاحتفال باليوم العالمي الأول للسلام (1 يناير/ كانون الأول 1968).
[3] المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور الرعوي فرح ورجاء، 7 ديسمبر/كانون الأول 1965، 78.
[4]نفس المرجع.
[5]نفس المرجع.
[6]نفس المرجع.
[7]خطاب اليوم العالمي للصلاة من أجل السلام، أسيزي، 20 سبتمبر/أيلول 2016.
[8]فرح ورجاء، 78.
[9] را. نفس المرجع.
[10]نفس المرجع ، 83.
[11] را. مز 85، 11؛ أش 32، 17.
[12] يوحنا بولس الثاني، رسالة لمناسبة الاحتفال باليوم العالمي الخامس والثلاثين للسلام: لا سلام بدون عدالة ولا عدالة بدون غفران (1 يناير/ كانون الثاني 20022).
[13] الرسالة الرسولية رحمة وبؤس، 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، 18.
[14]نفس المرجع، 20.
[15] يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة السلام في الأرض، 11 نيسان/ أبريل 1963، 12.
[16] بولس السادس، الرسالة العامة ترقي الشعوب، 26 مارس/آذار 1967، 83.
[17] را. رسالة إلى الأساقفة في عيد القديسين الأبرياء، 28 ديسمبر/كانون الأول 2016.
[18] يوحنا الثالث والعشرون، السلام في الأرض، 60.
[19] را. خطاب لمناسبة تسلّم جائزة شارلمان، 6 مايو/أيار 2016.
[20] بولس السادس، ترقي الشعوب، 87.