- الأسرة نواة المجتمع
تعتبر الأسرة من أهم المؤسسات التربويّة الدائمة التي لا يمكن تجاهلها. فهي نواة المجتمع حيث تنشأ الأجيال وتنمو على شراكة الحبّ والحياة. ومسار الأسرة حيوي لأنّه أساس المجتمع والوطن والعالم.
في عصر العولمة تتعرّض الأسرة لمشاكل اجتماعيّة متعدّدة، وصعوبات حياتيّة جمّة أفقدتها بعضًا من وظائفها، ممّا أدّى إلى تفكّك الروابط العائليّة وزعزعة العلاقات في ما بينها. في هذا الإطار، نتساءل: هل المجتمع عُرضَة للانحلال والفساد؟ أين يكمن الخلل؟ وأين الخطأ؟ هل تحتاج المرأة إلى الإعداد والتأهيل لدفع المنظومة التربويّة نحو النجاح؟ هل الاتهامات الموجّهة إلى المرأة مُجحفة بحقها؟ هل هي المسؤول الأوحد عن هذا الخلل، بحيث أنّها انشغلت بنيل المناصب الاجتماعيّة، والعمل على تحقيق المساواة، لا بل قيل أنّها تناست مهمتها التربويّة، فتفرّغت كليًّا لأعمالها؟ إلاّ إنّه من الظلم، أن نُحمّل المرأة وحدها، وِزر ما اعترى المجتمع من خلل. ومن الجور واللامنطق، أن نطلب منها وحدها، مهمّة إعداد الأجيال وتربيتها، فالأب والمجتمع بكليّته مسؤول أيضًا. ولا ننسى صعوبة التربية وتعقيداتها، في مجتمعنا الاستهلاكي، المتفلّت من بعض الضوابط، والظروف المعيشيّة الخانقة، التي تؤدّي إلى الخوف واليأس، والانغلاق على الذات، والأنانيّة، واللامبالاة، والتي تقضي جميعها في معظم الأحيان، على المبادئ والقيم، والصورة المثالية، التي يرسمها الأهل لأولادهم.
يمكننا القول، أنّ المرأة وهي العمود الفقريّ للأسرة، لم ولن، تتنصّل من مهمتها التربويّة. وكأمّ مسؤولة، تدفعها نعمة الأمومة، إلى التفاني والسخاء، والخدمة والتضحية والحبّ، من أجل تربية أولادها، على قاعدة سليمة، تساعدهم على خوض غمار الحياة، المحفوفة بالصعوبات والمشاكل والمخاطر وأحيانًا بالخيبات، بشجاعة وثبات.
ونعود لنتساءل: ألا تستحقّ الأسرة إشرافًا أكبر وأعمق؟ هل عمل المرأة في المنزل جهد ضائع؟ الحقّ يُقال: رسالة الأمومة، بما تحمله من معانٍ، هي أبعد من مجرد الإنجاب، لا بل هي التربية على الحبّ والإيمان، والقيم والمبادئ، التي تُعِدّ وتَصنَع الفرد الصالح، إنسانيًّا واجتماعيًّا وروحيًّا ووطنيًّا.
- قيمة العمل المنزليّ
الأسرة متشعبة المهام والمسؤوليات. تتطلّب إدارتها الحكمة والنضج والمعرفة، والمشاركة الفعّالة والعمليّة، لإنجاح مسيرتها، وتحقيق أهدافها. هل نسيَ أفراد المجتمع بأنّ عمل المرأة في بيتها، يحتاج إلى التفرّغ والتخصّص، والعلم، والفكر، والدقّة، كما يحتاج إلى الإدارة، والاقتصاد، والرقّة، والإحساس، والعاطفة، والحنان والحبّ.
هل غياب الأمّ، القسري، أحيانًا، عن منزلها ولأسباب عديدة، منها المُبرَّر ومنها غير المُبَرَّر، لا يضرّ بتربية أولادها (لا سيّما الأطفال)؟ يقول بعض علماء النفس بأنّ ذلك، يشكّل خطرًا جسيمًا على تربية الطفل، فقد يعرّضه إلى الإصابة، للكثير من الأمراض النفسيّة، التي تؤثّر على سلوكه، وربما تقضي به إلى الانحراف. ألا تعلّمنا الاختبارات، بأنّ غياب الأب أيضًا، يُحدث اضطرابات نفسيّة، وأدبيّة، ومصاعب تؤدي إلى مطبّات خطيرة في العلاقات العائليّة؟ لا شكّ أنّ بعض النساء، يستطعن التوفيق بين متطلّبات العائلة، واحتياجاتها وعملهنّ المهنيّ (خارج المنزل)، من هنا لا بدّ للحكومات، من تشريع قوانين وأحكام، من أجل حماية العائلة والمرأة معًا ومنها:
إعطاء قيمة جوهريّة وأساسيّة، لعمل المرأة في المنزل وتربيتها لأولادها. إعادة الاعتراف والاعتبار لتضحياتها، من قبل زوجها المُلزم باحترامها وتقديرها، مع مشاركته الفعّالة والعمليّة، في تحمّل المسؤوليّة التربويّة، بشكل مباشر، من خلال تقاسم المهمّات في ما بينهما. وهذا الأمر، يُسهم في عمليّة التوازن والمساواة بين الرجل والمرأة، ويُفعّل الشراكة الحقيقيّة، المبنيّة على الحبّ وثماره. لماذا ولِمَ لا تتقاضى أجرًا، مقابل عملها المنزليّ، أو ربما يُصار إلى رفع راتب زوجها، أو خلق حوافز أخرى، تجعلها تُقبل على نشاطها البيتيّ، متخطية بذلك الإحباط والملل؟ ماذا عن تخفيض أوقات عملها المهنيّ، المُحفِّز الأكبر لنجاح العمليّة التربويّة المنزليّة؟ هناك آراء كثيرة ومتعدّدة وحلول متوفّرة، عمليّة و”بسيطة” وسهلة، لإعادة الاعتبار لعمل المرأة المنزليّ، كما لمكانة المرأة ودورها في المجتمع. إلاّ أنّ الأفكار (والنوايا) وحدها غير كافية، لا بدّ من أعمال حسيّة وعمليّة ظاهرة للعيان.
- توزيع الأدوار والمهمّات
هل توزيع أو تبديل الأدوار والمهمّات، بين الرجل والمرأة، في ما خصّ التربية المنزليّة، يُسهم في إعادة الأمور إلى نصابها؟ ليس من المُستحسن تبديل الأدوار بين الرجل والمرأة، لأنّنا سنخلق معضلة جديدة عوض حلّ القضيّة. إنّه لمن الضروريّ، وباسم الشراكة والحبّ والتعاضد والتعاون، توزيع الأدوار وتقاسمها في ما بينهما. فالطفل والولد وحتى المراهق، بحاجة إلى حضور الأب وتدخله المباشر، في العمليّة التربويّة (إعطاء النصائح، والمرافقة، المَثَل الصالح …)، التي تعكس نموًّا صحيحًا وعلى جميع الصُعُد.
إنّ توزيع وتقاسم الأدوار والمهمّات، على أساس الشراكة والشركة، ضمن الثنائيّ، يعطي ديناميكيّة وحيويّة للأسرة، ممّا يجعلها واحة للسلام، والأمان والاستقرار النفسيّ، والتوازن العاطفيّ. من هنا، لا بدّ من إحداث تحوّلات جذريّة، في الأنماط المجتمعيّة الشرقيّة، ولا سيّما العربيّة، في ما يخصّ العادات والتقاليد، لتطوير مفاهيم أدوار ومهمّات أفراد المجتمع، التي تخطاها الزمن، والمستجدات العصريّة.
- مسؤوليّة مشتركة
بالرغم من الاكتشافات العلميّة، والتطوّر العلميّ والثقافيّ، وعالم التكنولوجيا، تبقى الذهنيّة والعقليّة التي تطاول الحياة الاجتماعيّة والتربويّة، لم تتطوّر كثيرًا. حتى القوانين، لم تواكب العصرنة، ولم يحدث أي تغيير جذريّ، إن على صعيد المؤسسات العامة أو الخاصة، قادر على تحضيرها للتأقلم، مع العولمة وعالم الاقتصاد الجديد، ومجتمع المعرفة والتكنولوجيا. هذا الخطأ الجسيم، أثّر سلبًا على نشاط ومهمّات الرجل والمرأة.
تتطلّب التربية المنزليّة، بعض المؤهّلات العلميّة والثقافيّة، وكثير من الفطنة والحسّ، والمنطق والحكمة، ناهيك عن الفضائل الإنسانيّة والأخلاقيّة. زِدْ على هذا الكمّ الحضاريّ، الكثير من الحنان والعاطفة، والصبر والحب. مَن الذي يرعى أطفالنا اليوم؟ الأمّ والأب؟ أم مَن يساعدون في تقديم الخدمات التنظيفيّة للمنازل؟ ألَم نلاحظ هذا النقص الفاضح، في تربيةٍ صالحةٍ وجيّدةٍ؟ مَن المسؤول إذًا؟ إنّ الجميع مسؤول عن الجميع. ولكن، كلّ فرد من المجتمع، وبحسب صفته مسؤول عن ذاته أوّلاً، كما هو مسؤول عن خياراته، لا سيّما الأب والأمّ.
إنّ توافر المعطيات الإيجابيّة، اجتماعيًّا ومهنيًّا واقتصاديًّا، تساعد المرأة والرجل على إدراكهما للدور التربويّ والمسؤوليّة المشتركة، في ما خصّ المهمّة المُلقاة على عاتقهما، وأكثر حرصهما، على أن يصلا بهذه الرسالة المقدّسة الجليلة، إلى أسمى درجات النجاح، التي تؤدّي إلى الفرح.
يمكننا القول، أنّ الثنائيّ، مُلزم بتنظيم إدارة حياته المشتركة، بطريقة سليمة وصحيحة، متعاونًا ومتعاضدًا، على تربية الأولاد، مثمّنًا دعوة الخالق ونعمته، الذي أشركه في عمليّة الخلق. فالثنائيّ يحمل “رسالة”، مهمّة وعظيمة للمجتمع، من خلال تجاوبه ومساهمته، في مشروع الله للإنسانيّة، أي خلاص الإنسان، من خلال ممارسته وعيشه، للفضائل الإلهيّة والإنسانيّة، والأخلاقيّة. أوليست التربية، العامل الأساسيّ للوصول إلى الأسمى؟ نعم للتربية… ثمّ للتربية.
الأب د. نجيب بعقليني
أخصائي في راعويّة الزواج والعائلة