وصل المؤمن الصائم إلى منتصف المسيرة من الصّوم الكبير (الأربعينيّ)، أي نصف المرحلة الزمنيّة (7 أسابيع)، التي تُسهم في مشاركته، في آلام السيّد المسيح وموته وقيامته من بين الأموات، أي انتصاره على الموت بالموت، وأيضًا على الضّعف البشريّ، والشرّ والخطيئة.
يستدعي عبور هذه المرحلة من الصّوم المقدّس، أي عبور الصحراء، التوقّف مليًّا حول تقويم (تقييم) تلك المسيرة، من أجل تصحيح المسار أو للاندفاع نحو تحقيق الأهداف المرجوّة.
يمكننا في زمن الصّوم، أن نطرح الأسئلة على الله، وعلى ذاتنا. أين أصبحنا في مسيرتنا “الصِّياميّة”؟ ماذا أنجزنا؟ هل تمّمنا مقاصدنا؟ هل طبّقنا تعاليم يسوع المسيح وكنيسته؟ “طوبى لمَن يسمع الكلمة ويعمل بها” (لو 11: 28). أين نحن من ممارسة الصّوم (الانقطاع عن الأكل والشرب) والصّلاة والصّدقة؟ هل حقّقنا انتصارات على الذات وعلى الضّعف البشريّ والشرّ والخطيئة والرذيلة …؟ هل حقّقنا غاية الصّوم؟ هل باستطاعتنا متابعة مسيرة الصّوم، بالرّغم من عدم الالتزام الكلّي؟ أو حتّى لو فشلنا في المرحلة الأولى؟
نعرف بأنّ الصّوم، طلبه الله من شعبه من أجل التوبة والدخول في عمليّة الخلاص. نعم، إنّها مسيرة توبة، تبدأ باثنين الرماد، الذي يدعونا إلى طلب المغفرة والرحمة من الله ومن أخينا الإنسان، “إن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم” (لو 13: 5).
نعم يا ربّ، فليكن صومنا وصلاتنا وصدقتنا، تعبيرًا عن توبتنا الداخليّة، وارتداد قلوبنا إليك، ورجوعنا عن الخطيئة والشرّ، والابتعاد عن الرذيلة والشتيمة، والحسد والنميمة، والكبرياء والأنانيّة، والكيديّة وإلى آخره. نعم يا ربّ، فلتكن هذه المسيرة، مناسبةٌ لتصحيح العلاقة معك من خلال الصّلاة، ومع الآخر، من خلال أعمال الرّحمة والمحبّة، ومع الذات، من خلال الانقطاع عن الأكل والشرب، والتغلّب على التعلّق بالمادّيات، “إنّي أقمع جسدي واستعبده لئلاّ أصير أنا نفسي مرذولاً بعدما وعظتُ غيري” (1كور 9: 25-27).
لِنَسِر معًا في متابعة هذه المسيرة، متسلّحين بالنعمة الإلهيّة، لتقديم ذواتنا للربّ المخلّص، وتقديسها من خلاله. “أما تعلمون أنّ الساعين في الميدان كلّهم يسعون ]…[ فاسعوا هكذا حتى تفوزوا” (1كور 9: 24). إنّ التقشّف والانقطاع عن ملذّات الأرض حاجةٌ إلى الدخول في مفهوم الصّوم. فالصّوم (الانقطاع عن الأكل والشرب) هو قوت النفس وغذاء الرّوح والدواء الشافي من أمراضنا النفسيّة، “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4). فهذا الصّوم المقترن بالصّلاة والاماتات وعمل الرّحمة والمحبّة، يُعطينا القوّة، لمراجعة ذاتنا من خلال فحص الضمير، والدخول في التوبة الحقيقيّة، عبر الابتعاد عن الخطيئة. وهذا يُدخلنا في المسيرة التي تؤدّي بنا نحو الخلاص.
نعم، إنّها مسيرة إعداد الذات للعبور، مع المسيح في فصحه، والانتقال من حالة الخطيئة، إلى حالة النّعمة، وخلع الإنسان العتيق ولِبسْ الإنسان الجديد. وهذا يعني بأنّنا مررنا بالتوبة، لنَصِل إلى طريق الخلاص. التوبة يُعبَّر عنها من خلال علامات ظاهرة، متجسّدة في مبادرات محبّة وتسامح وأعمال رحمة، تطال الفقير والمحتاج والسّجين واليتيم والمشرّد، والمتألّم جسديًّا ونفسيًّا، والمهمّش والمعنّف والمضّطهد والمنبوذ، والحضور الأخويّ المحبّ للإنسان المحتاج، من خلال استقباله ومرافقته، وتقديم الدعم المعنويّ، والمطالبة بحقوقه، والدّفاع عن ظلمه وإلى آخره. تدفعنا التوبة أيضًا إلى التضامن مع العاطلين عن العمل، والمتعثّرين في حياتهم الزوجيّة والعلائقيّة والخائفين من الغد.
لنعمل معًا خلال هذه المسيرة، على كَسرِ الحواجز بين الناس، والسهر على تربية أجيال الغد، من أجل تلقينهم الإيمان بالشهادة والمُثُل. لِنُبعِد عنهم شرّ الخطيئة. فالخطيئة هي الابتعاد عن الله، ورفض حبّه، كما هي إهانةٌ للربّ “إليكَ وحدكَ خطِئتُ والشرّ أمامكَ صنعت” (مز 51: 6). إنّها تنَكُّر لمحبّة الله ورفض الحوار معه ومع الآخرين. وهذا يدّل على رفض العلاقة مع الله والطّعن بالعهد معه.
نعم، نُدرك بأنّ حبّ الله وأمانته يتغلّبان، لأنّ الله يُبذل كلّ شيء، لا سيّما حياته على الصّليب من أجل أن يُعيدنا إلى محبّته. من هنا علينا الدخول في حياة الله، من خلال الاقتناع بضرورة التقشّف، “وأبوكَ الذي يرى في الخفية يجازيك” (متى 6: 4)، وممارسة الاماتات ،”إنّي أُتِمُّ ما ينقص من شدائد المسيح، في جسمي، لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (1كور 1: 24)، وزيادة الصّلاة، “اسهروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة. فالروح متحمّس، أمّا الجسد فضعيف” (متى 26: 41). كما المشاركة بآلام المسيح، لأنّه يشاركنا بآلامنا، “مَن أراد أن يكون لي تلميذًا، فليحمل صليبه ويتبعني” (متى 16: 24).
نعم، إنّ نعمة الله تُرجعنا إليه وتُعطينا القوّة لكي نبدأ من جديد. نعم، لنبتعد عن الشراهة وحبّ التملّك و”السيطرة” والاهتمام بالأمور الأرضيّة والزمنيّة فقط. “فاطلبوا أوّلاً ملكوته وبرّه تزادوا هذا كلّه. لا يُهمّكم أمرُ الغد، فالغد يهتمّ بنفسه، ولكلّ يوم من العناء ما يكفيه” (متى 6: 33-34). ويتابع يسوع قوله “لا تعملوا للقوت الفاني، بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبديّة، القوت الذي يهبه لكم ابن الإنسان” (يو 6: 27). أخيرًا يذكّرنا الربّ يسوع بأنّ “ملكوت الله ليس أكلاً وشربًا ]…[ بل هو برٌّ وسلامٌ وفرح” (رو 14: 17).فلنتابع المسيرة بشجاعةٍ، طالبين من الربّ يسوع، القوّة والنّعمة، لكي نصل إلى يوم القيامة بحالة من الانتصار على الذّات والظلم والبُغض. فلننشط في متابعة المسيرة، مُستلهمين الروح القدس، ليهبنا العطايا والنعم.
لنترك إرادتنا القويّة وحرّيتنا الإنسانيّة، تقودنا نحو الفرح، للدخول إلى الفردوس المُرتجى.
الأب الدكتور نجيب بعقليني