Priest - Pixabay - CC0 PD

يا خادم الله وشعبه…. إلى أين تقودنا؟

رِسالةٌ مِن طالِبٍ إكليريكيّ
إلى كَاهِنٍ لا يقودُ الخرافَ المُؤتَمَن عليها إلى المراعي الخَصيبة

Share this Entry

كَبُرَتِ الأجيالُ وتَسَامَت بالقامةِ والحكمةِ والنِّعمةِ مُتَغَذِّيةً مِن مَائِدةِ العَليِّ، ومِنْ كَسْرِ الخبزِ نهارَ الأحد، وَمِنْ كَسْرِ الكَلمةِ خِلالِ الصَّلَواتِ والعِظاتِ البسيطة والعميقة والبعيدَةِ عَنِ الفَلسفاتِ و”الـمُتَفَلسِفِين”.

مِن أَعَزِّ الذِّكرياتِ عَلى قَلبي وجهُ جَدّتي الّتي كنتُ أتأمَّلُها تُصَلّي المَسْبَحةَ، وهي تَذكُر أَولادَها وعَائِلاتِهم في صلاتها؛ ورِوَاياتُ جِدّي ومُغامراته، في صِباهُ، فَلّاحًا (أو بُستانيًا) في حديقةِ ديرِ الصّليب، معِ الطوباويّ أبونا يعقوب. لَن أنسى، يَومًا، سُؤالهما لي، عندما بَشَّرتُهُما بَتَوَجُّهي الى الدَيّرِ تَلبيّةً لدَعوَةِ الرَّبِّ لكي أخدُمَه في الكَهَنوت: “بِدَّكْ تْصِيرْ خوري قِدِّيس؟!”.

مَا انْفَصلَ الكَهَنوتُ عَنِ القداسةِ بالنّسبةِ إلى كِبارِنا، على الرُّغمَ مِنْ أنَّ كهنةِ الأمسِ لَم يَكونوا أبرار، وَلَم تَختلف زلّاتِهم عَن زلّاتِ كَهَنَةِ اليَوم! ولكنَّ النَّاسَ، أهالي الضَّيعة والرَّعيَّة، كانوا يسترون الكاهن عندما يتعرَّض هذا الأخير لفشلٍ ما، لَأنّهم أدركوا أَنَّ تَاريخَ الإِنسانِ لا يَحُدُّهُ فشلٌ أو ضعف. فقد طُبِعَ تاريخ “الخوري القدِّيس” بالاهتمامِ الأَبَويِّ بِأَبْنَائِهِ الرُّوحِيِّينَ، وبِحَثّهم على الاعتراف بذنوبِهم، وبِشَرحِهِ لهُم كَلمِةَ الله، وَبِإشْرَاكِهِم بجسدِ المسيحِ ودمه، بشكلٍ خاصّ،  وَبِالأَسْرارِ بشكلٍ عَامّ.

“قِدِّيسٌ” هُوَ كَاهِنُ الأَمسِ لأَنَّهُ فَرَّحَ قُلوبَ أَوْلادِهِ وقَادَهُم إلى كَلِمَةَ الله، إلى المراعِي الخَصيبَة الحَيَّة التي لا تذبل ولا تيبس، والتي تُشْبِعُ كُلَّ نَفْسٍ وتُريحُها من التَّعبِ والحزن.

   إِنَّ المَراعيَ الخَصْيبةَ هي رِكيزةٌ أَسَاسيّةٌ في حياة الكَاهِن: في ضَوئِها يَدْرُسُ ويَسعى الى العِلمِ، وَمِن جودِها يَشْبَعُ ويُطْعِمُ كُلَّ نَفْسٍ جَائِعَةٍ لِكَلِمةِ حُبٍّ ورَحمَةٍ ورَجاء.

في كلِّ مرَّةٍ ابتعد فيها الكاهنُ عن هذه المراعي، جَاعتِ الخِرَافُ وتَبَدَّدَت بَاحِثَةً عَن مَراعٍ أُخْرى، وَلَو كَانَت مُضِرّة، لِتَقتاتَ منها وحَتّى لو لم تَتَنَعَّمُ بها.

في كلِّ مرَّةٍ ابتعد فيها الكاهنُ عن هذه المراعي، توهَّمَتِ الخرافُ مراعٍ أخرى بديلةً وتوهَّمَ راعيها أيضًا: شَكلها ومحتواها ومَذاقها.

في كلِّ مرَّةٍ ابتعد فيها الكاهنُ عن هذه المراعي، خافَتِ الخرافُ وابتَعَدَتْ عن راعيها، وَلَم تَعُد تَستُرُ مَعَاصيه.

صورةُ الكاهِنِ وهَيبَتُهِ هما نتيجة تربيةٍ وتاريخ: فَأوّلُ صُورةٍ يتَبَنَّاها الابنُ لكاهنِ اليوم هي صورةُ أَهلِهِ لكاهنِ الأَمْس. فطوبى لِكاهِنٍ زَرَعَ في أذهان النَّاس صُورَةً له ولكهنوته تَلِيقُ بكنيسةِ الرَّبّ. وطوبى لكاهنٍ يَسْهَرُ بهدفِ الحِفاظِ على أَبْهى صُورةٍ للكاهن، مُمَهِّدًا الطَّريقَ أمام رسالةِ كاهنِ الغد.

أكتُب رسالتي هذه مِنْ خوفي على رسالةِ كاهنِ الغدِ، وعلى نَظرَةِ شَعبي تجاهه؛ هاتَين الرِّسالة والنَّظرة اللَّتَين تَتَأَثَّران بشهادةِ كلِّ كاهن. إِنَّ الشَّهادةَ السَّلبِيَّةَ لبعضِ الكهنة لا تَعْكُس صورةَ الكهنوتِ الحقَّة، ولا تُغَيِّر جَوهَرَهُ. إذ تبقى شهادَةُ كاهنٍ واحدٍ صالحٍ كحبّة خَردَلٍ زُرِعَتْ في حقل العالم، ونمَتْ وأصبحَتْ شَجَرَةً تُعَشِّشُ طُيورُالسَّماءِ في أَغصانِها. كُلُّ كاهنٍ صَالحٍ، إذًا، هُو كشجرةٍ مَغروسَةٍعلى ينبوع كلمةِ الله، تُعَشِّشُ الفَضَائلُ الإلَهِيَّةُ في حياتِه، ويُقيتُ الخِرافَ مِن ثِمَارِ هذه المراعي الخصيبة، أيّ الكلمة الحيَّة والمحيية الَّتي تزرَعُ في نُفُوسِ الخراف الرَّاحة.

أَكتُبُ هَذِهِ الرِّسَالة، لا لأدِينَ أحَدًا، أو لأُعَيِّرَ أحدًا بضُعفِه أو بجهله.

هَدَفي أَن تُصبِحَ كَلِمَةُ الله مِصباحًا لخُطى كلِّ مَدعوٍّ ونورًا لسبيله، فَتُحييهِ وتُحَوِّل أقوالَ فِيهِ الى قُربانٍ مَرْضِيٍّ عِندَ الله.

هَدَفي أَن أَدعو إلى النُّهوضِ بعد السُّقوط، كَمَا دَعَا بُولسُ إلى شِدِّ الأَوساطَ بالحَقّ وإلى لبَس دِرْعَ البِرّ، وإلى شدِّ الأَقْدامَ بالنَّشاطِ لإِعلانِ بِشارةِالسَّلام.

هَدَفي أنْ أفرحَ بعودة كُلِّ راعٍ ضَلَّ المراعي الخصيبة، فَيَجْتمعَ معًا الرُّعاةُ والخِرافُ الَّذين ضَلُّوا، لَأنَّ الفرحَ يَكونُ في السَّماءِ كبيرًا، بخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ.

هَدَفي أَن نَعْتَصم كلُّنا بِالرَّبِّ وَحده، وأنْ يحمل كلٌّ منّا تُرْسَ الإِيمانِ في جميع الظُّروف، وأنْ نَتَّخِذْ لَنا خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أي كلمةَالله.

أَبَتِ، أَيُّها الرَّاعي، يا خَادِمَ الله وشعبه. أَتى ابنُ اللهُ وَزَرَعَ فَرَحَهُ بَيْنَنا، أَتى لِيُعْلِنَ لَنا أنَّهُ غَلَبَ العالمَ. كان حازِمًا، وَتَكَلَّمَ عَن تَحَمُّلِ مَسؤولِيَّةِ الخَطايا وَعِن عَدلِ الله وَرَحْمَتِهِ، وَلَكِنَّهُ لَم يَسْتَعْمِلْ يومًا أُسلُوبَ التَّرهيبِ ولم يُرعِبِ النَّاس، ولَم يُحَقِّر أَيَّ خاطِئٍ وَلَم يَدِن أَيّ “سَامِرِيّة”، ولَم يَقْتِل أَيَّ رُوحٍ بحجَّةِ الحَرْفِ، وَلَم “يُمَسْمِر” زكّا على جمَّيزَتِه. المسيح هو كلمةُ الله، وهو المراعي الخَصيبَة. هُوَ حَبَّةُ الحِنْطَةِ الَّتي ماتَت في الأَرْضِ، وأتَتْ بثمرٍ كثير وَأَشبَعَت النُّفوسَ مِن ذاتِها. والمسيحُ هو الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. وهُوَ الكَاهِنُ الأَوْحَدُ الَّذي بِهِ نَقتدي، كَخُدّامٍ لله وكَرُعاةٍ لشعبِه. بِهِ نَزرَعُ الفَرَحَ، وَنَغلِبُ الشَّرَّ، وَنُرَبِّي الأجيالَ.فإنْ اعْتَرَفنا بِهِ مَاءً يُعطي الحياةَ ولا يَنْضُب، فَبِأَيّ مَاءٍ سواهُ نروي عَطَشَ النُّفوسِ المُؤتَمَنينَ عَلَيْها؟

                دَعوَتُنا أَن نَكونَ أُمَنَاءَ عَلى شَعبِ الله، تلك الوَزَناتِ التي دُعِينا لَها خُدّامًا، وتلكَ الخراف التي أَوصَانا الله أَن نقودَها إلى المراعي الخصيبة، وليس إلى الأماكن الَّتي ينبُتُ فيها الشَّوكِ والعلَّيق فتهلك. فَطوبى لمن يَسمَع الرَّبَّ يقولُ لَهُ: أَحسَنتَ أيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ والأَمين! كُنتَ أمينًاعلى القَليل، سأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ فرَحَ سَيِّدِكَ!.

Share this Entry

الشدياق إيلي سمعان

Help us mantain ZENIT

إذا نالت هذه المقالة اعجابك، يمكنك أن تساعدنا من خلال تبرع مادي صغير